سيّد الميزان ...وفتاة
تغفو الأشجار في الليل، تهجع العصافير، تتدثر الجبال بالعتمة.... تنام إلا انا! محرم عليّ أن أنام! كيف أنام وهذه، كما يبدو، أسوأ الأيام! أقول: جُن الناس! نعم، أقول: الناس! مع أن علاقتي بالفقراء تختلف عن علاقتي بالأغنياء. أقول: الناس، لأن أبسط رجل في الرعية لم يعد كما كان. من الغضب، من الغبن، من اليأس صار كل منهم يهمس: ألا يعيش ذلك الشخص إلا اذا التزمت أنا به؟! فلان يخترق صدره وفلان يفتت كبده، وفلان يأكل قطعة من قلبه. ومع ذلك لا يموت إلا اذا قصصت أنا قطعة قدر الكف من ذيل ثوبه؟!
طوال دهور ظلت ساهرا لأمسك بيد قاتل قبل أن ينزل سكينه، وبسارق قبل أن يسطو. كنت أهدئ الفقراء قبل أن يندفعوا إلى جريمة. وأردع الأشرار قبل أن يستمتعوا بالإثم. كان يفلت مني كثيرون فيقتلون ويسرقون. فأجلس تحت قوسي، وأمسك بميزاني، وأضع الذنب في كفة، وفي الكفة الأخرى أضع الرحمة والعدل معا. وأقرأ ضمير المذنب وضمير البريء، معا. أعرف أنه غُش وغُرر به! أرى الضعفاء يقبلون بدنانير أن يتحملوا جرائم المجرمين! وأرى الأبرياء يسترون السارقين كي يحفظوا وظائفهم ورواتبهم! أرى الخوف على الرضيع والطفل والبنت! ومع ذلك كنت أحكم مضطرا حكما ظالما على بريء اعترف "بجرم" لم يقترفه. آه، لو قدر لي يوما أن أكتب مذكراتي لرويت كيف هرب مجرمون حكمت عليهم قبل أن يصلوا إلى السجن! وكيف وضعت أمامي أوراق ملفقة لكنها موقعة ومدموغة لا أستطيع إلا الاعتراف بها! وكيف تبين أن الحرائق افتعلت كي تمحو الأدلة على السارقين، فجعلت رمادا أطنانا من الخشب وقت كان الطالب يتمنى رفا يضع عليه كتبه، أو طاولة يدرس عليها. والفقير يتمنى "نملية" يحمي بها خبزه وجبنه من القطط! احترقت أطنان من الرز والسكر والفقراء يراقبون في كمد حريقها!
لكل ما رأيت، قدر لي أن أشيب، وأن أهرم، وأن أضعف. إلا أني بقيت مستقيم العود بثوبي الأسود العريض، وياقتي المرتفعه، ووجهي الأبيض السمح الذي لا تمسه غضون، وشعري الأشيب. وقدر لي ألا أشعر بما يشعر به الأحياء من عطش وجوع ووهن ونعاس! فاتصلت حولي الدهور، وأنا جالس تحت قوسي الذهبي، وبيدي الميزان. تعبره نسمات الشتاء وحر الصيف، يبيضّ أمامي الأفق البعيد ببعض الثلوج أو ضوء الصباح، لم ألاحظ أن الناس عبروا حقبة أو قرنا من الزمان إلا عندما أنتبهت إلى أنهم بدّلوا زيهم وغطاء رؤوسهم.
لكنني في هذه الأيام أتبين مالاحظته في الناس على عتبات السنين و الزمان. وقت كانوا يصابون بالذعر أو الجنون، فيندفعون إلى نهش الحياة كأنهم يستمتعون إلى الحد الأقصى ...لأنهم يرحلون غدا! يبدل الأغنياء ملابسهم وبيوتهم وزوجاتهم وأصدقاءهم، ويندفع الفقراء في أحلام يرون أنفسهم فيها كالأغنياء!
كنت أفكر في أمور الناس، وألمس القضايا التي تراكمت أمامي وفي كل منها ما يخجل الإنسان من الاعتراف ببعضه. ومع ذلك أعلن أصحابها شهادات الزور، واعتدوا على الأخ والضعيف والمرأة والعجوز. سرقوا أهلهم وأصدقاءهم، خطفوا قوت الفقير والعاجز. في الملفات أمامي شهادات على رشوة القضاة، ورجال الحدود، وعلى سرقة أسئلة الامتحانات وشروط المناقصات وأسرار المسابقات. أكوام من الأموال أنفقت كي تفسد الضمائر والبلاد، أموال مهدورة اشترت ما لايلزم، واستبعدت مايلزم البلاد. حسابات سرية في البنوك من أموال البلاد المسروقة. بيوت تديرها نساء، تؤجر فيها الفتيات وتقدم فيها المخدرات، والحراس واقفون على البوابات. لديه شكاوى تفرم القلب من الألم، وطلبات نجدة، ونداءات استغاثة! وماذا يعدّ مما تراكم في رفوف قاعتي الواسعة؟!
كنت أفكر في ذلك عندما شعرت برغبة في النوم تشبه الغيبوبة. ألتفتت وفحصت ماحولي لعلي أتبين سبب ذلك الدوار. كان القوس الذهبي الذي أجلس تحته سنين مايزال في مكانه. لكن السماء خلفه بدت كأنها تتحرك. فهل هذا دوار أم رغبة في غفوة قصيرة؟ تذكرت أني فحصت مرة حالة فتاة سقطت في النوم كأنها تسقط في بئر. لم تكن راغبة فيه. ولم يسقها أحد مخدرا. لكنها ألقت فيه بنفسها كي تهرب من إثم تخاف أن تراه. خوفا من أن تشهد جريمة لا تستطيع أن تمنعها. خوفا من أن تكون شاهدة زور لا تستطيع أن تبوح بالحقيقة. فهل أنا الآن ضعيف عاجز مثل تلك الفتاة؟ كان آخر ماوزنته بميزاني مقتل شابتين. واحدة قصد الفتى صاحب السيارة أن يغازلها فلحقها على الرصيف بسيارته فدعسها. وصديقتها. كانت القضية واضحة، والمعلومات تبين أن الفتاة كانت تهرب من ذلك الفتى وتستغلظه، لكنه كان مدللا لا يفهم أن فتاة يمكن أن ترفضه! أدى الشهود شهاداتهم. فكيف أقبل أنا المهيب، اعتراف سائق أتي به ليعترف بأنه كان، هو، يقود السيارة؟ قلب الأوراق بين يديه وقال: هذا الرجل هو سائق الأب فمن الذي دفعه الى الاعتراف بأنه قاتل الفتاتين؟! ارتكب الأب ذنبين: الأول أنه أفسد ابنه. والثاني أنه يعلمه الهرب من الحساب! هاتوا الأب الى التحقيق! أصدر ت أمره إلى شرطيين واقفين أمامه. فنظر كل منهما إلى الآخر، وابتسما! أصدرت أمره مرة ثانية، لكن الشرطيين لم يتحركا. ولاحظت أن أحدهما غمز بعينه الآخر.
فشعرت عندئذ بالدوار؟ أرخيت يدي وتركت الميزان على الطاولة، وضعت رأسي على كفي، وأغمض عيني. لعلي كنت متوترا! لعلي شعرت بخفقان في قلبي! وبعد ذلك شعرت برغبة في النوم! هل النعاس الذي اجتاحه رغبة في الهرب مما أراه؟ هل هو غيبوبة أم هرب من اليأس؟ كانت غفوتي كحفرة سوداء عميقة، ليس فيها ومض أحلام، وليس فيها مذاق النوم اللذيذ.
في البرهة التي غفوت فيها تفتحت الأحلام في المدينة التي يطل عليها قوسي الذهبي. اجتاحتها حركة بناء، حركة سير، حركة إقلاع طائرات وهبوط طائرات. تدفق زوار ورحل رجال أعمال، حطت جميع الأحلام في مخططات. طرد القمر من البلاد، وطرد النسيم والحب والصداقة والإخلاص والوفاء. واكتشف الناس أمورا مهمة تلمس وتأكل وتلبس وتمتطى. ورأوا في أنفسهم مالم يتوقعوه. وكان الأغنياء في مقدمة ذلك البحث، وخلفهم الفقراء يحاولون أن يتبعوهم، فيسقط بعضهم تحت أقدام المسرعين، لكن بعضهم يتقدم الجمع ويصبح في الطليعة. وحول المسرعين كان أشهر الشعراء وأشهر الكتاب ينشد للمتسابقين ويثير الحماسة فيهم ويصور لهم أيام الرخاء العظيم.
استمرت غيبوبتي زمنا. لكن من زار تلك المدينة ماكان ليتصور أن مثل تلك الإصلاحات والتغيرات تحدث في مثل ذلك الوقت القصير. فكنت مضطرا إلى خلع بعض نظرياتي في الحياة واعتماد أخرى واقعية. منها أن القرار يمكن أن يخلق طبقة ذات ذوق ورغبات وقوة وأحلام. وأن الفكرة يمكن أن تنبت الأرض المناسبة لها. ومنها أن الحياة إذا ضاقت بالأحلام الكبيرة، اتسعت لصغارها!
في سرعة كسرعة الضوء حفرت الأحلام مساراتها وتدفقت فيها. وأصبح كل مافي تلك المدينة يوحي بالعظمة. رفعت بوابات عالية تفنن الناس في ابتكار ارتفاعاتها وزخارفها. اقتلعت واجهات البيوت ورصفت بالمرمر. اقتلعت الأشجار وغرست مكانها أبنية عالية. حدث ذلك في سرعة لأن شيخ كل حارة جمع رجاله وقال لهم: افعلوا ما يريحكم! فانشغل كل منهم بخطف الأرض القريبة منه، والحديقة التي تجاوره، والرصيف الذي يطل عليه. فأكل كل واحد من الناس بمقدار قوة أسنانه وذراعيه. وبنيت قصور وغرف بسيطة وشرفات وأكواخ. واختفت جبال وأنهار وغابات وحدائق وشواطئ، وصغرت حتى رقعة السماء. فحيث كان الرجل يعجز عن رد جاره الذي يأكل شمسه وهواءه، كان يبحث عن جهة يأكل هو فيها شمس وهواء الآخرين.
وفي تلك المدة القصيرة صنعت ملابس براقة من أقمشة تذوب إذا لامستها الشمس، ورصعت صدور ثياب الرجال والنساء بالخرز والحلي والزجاج البراق، وابتكرت أرائك ضخمة يصغر الجالس فيها، وأطعمة زاهية نصح صانعوها أهلهم بأن يتفادوها كيلا يصابوا بالأمراض، وأنواع من الشراب ملونة بالصباغات ذات أسماء رنانة، واستوردت مركبات عجيبة الأشكال، وأنشئت شرفات دوارة ومطاعم دوارة وأبراج دوارة تطل على أبراج. ولم تغضب تلك الألوان الصاخبة والأنوار المتوهجة الجياع في تلك المدينة، بل رتقوا ملابسهم ليظهروا في أحسن حال، وبحثوا عن قطعة من طريق توصلهم الى مشروع ما، ولو كان صبغ الخروق لتقدم كشرائط زاهية للاحتفالات. بل عرفت حتى حاويات القمامة مشروعا يمد منها الازدهار. فسمى الباحثون زمن غيبوبتي زمن الصحو والإعمار والرفاه. وأضافوا إلى تلك الصفات فيما بعد: الأمان.
في ذلك الزمن المليء بالحركة مشت فتاة تبحث عن طريق توصلها إلى بوابة تتسلل منها هاربة من البلاد والزمان. يا مسكينة، إلى أين؟ الطرقات فقط لمن يسعى إلى مشروع ما! وبمثل مشيتك لايسعى أحد إلى منفعة! لا! يجب أن يكونوا حذرين! إلى أين يا فتاة؟ ماذا تقصدين؟ آه، يخشون أن تكون اكتشفت مشروعا سريا لا يعرفونه بعد، اتفاقا مع شركة استثمارية خطفته! أو لعلها مكلفة بالبحث عن سمسار له! تخاف أن تعترف بالحقيقة! لحقوها، فركضت هاربة. التقطوها: قولي إلى أين؟ من أرسلك؟ مع من اتفقت؟ اعترفي، الصفقة كم؟ من وراء ظهورنا ولكل جهة مرجع في الإتفاقات؟! تلاعب وغدر! عندئذ صرخت الفتاة: النجدة أيها السيد ! نادتني الذي أنقذتها ذات يوم من الشبهة ومن الدليل، والتقط في ضميرها الصدق وعرف الحقيقة! صرخت: النجدة أيها السيد! فذهل الرجال. هذه الفتاة من زمن مضى فكيف وصلت إلى هذا الزمن؟ في أي عصر ضلت الطريق؟ مسكينة، تنادي الميت لينقذ الحي! أحاط بها الرجال وتفرجوا عليها كمن يتفرج على حيوان منقرض. ضحكوا، ثم قال أحدهم: اتركوها! هي الوحيدة في هذه البلاد، في هذا الزمان، التي لا تعرف أن ذاك الرجل في غيبوبة! ذلك دليل غربتها أو جنونها أو غبائها! دعوها! وأنت يا بنت، إلى أين ترحلين؟ آه، تخاف أن تقول أبحث عن بوابة لأهرب من البلاد، من الزمان! قالت: أريد أن أخرج من المدينة! ضحك رجل: مسكينة! لا تعرفين أيضا أن البلاد كلها اليوم سواء؟! ولذلك لا توجد طرقات إلا للساعين إلى الأرزاق! أمامك بلاد وحيدة فقط تستقبل.. الأبرياء! ورفع رأسه إلى السماء. فأطرقت الفتاة. قالت راجية: دلوني إذن إلى مأوى ذاك الرجل، أريد أن أودعه قبل الرحيل! أشار الرجال إلى أرض مهجورة نبت حولها الشوك: هناك! ماأزال تحت القوس الذهبي في غيبوبتي منذ سنين طويلة! لن أسمعك ولن أراك، ومع ذلك لن أمنعك من القيام بواجبك الأخير!
مشت الفتاة مسرعة إلى القوس الذهبي. فرأت مكانا كأسطورة ممزقة، ووجدتني غافيا والميزان على الطاولة. انحنت عليه في حنان، ولمست ميزاني المهمل. ياللعجب، في سرعة تراكم الغبار عليه؟! لمست شعري وانسكبت من عينيها دموع على أصابع يدي الشاحبتين. وعندئذ فتحت عيني. رآهيتها فتذكرت الفتاة التي أنقذتها. وفهمت أنها تبكي علي. وعرفت أنني غفوت زمنا، من اليأس أو من التعب أو من العجز. لمست الفتاة شعري، كما تلمس شعر طفل صغير. ففي تلك البرهة فهمت أنني أنا المهيب الجليل الشاب أبدا أصبحت مهملا، لاحاجة لأحد بي، ولارغبة لأحد بي. قالت لي: انهض، انهض! لاقيمة لك الآن، لكنها مع ذلك تخاف علي. خلال غيبوبتي فك أهل المدينة الزخارف من القوس الذهبي الذي جلست تحته سنين! سيخطر لهم أن مهابتي من معالم المدينة التي يجمعون من السياح ثمن زيارتها. سينظمون لجانا وشركات لترميم قوسي الذهبي وتلميع ميزاني، ويرفعون الفنادق حولي، وينظمون الزيارات إلي ! قالت لي: أسرع! ونزعت عني ثوبي الأسود، وألبستني بعض ثيابها، ولفت رأسي بمنديلها. وبدءنآ نغوص في غمامة شفافة. لم أسألها: لماذا؟ لأنني وأنا أبتعد أرى الناس يردمون البحر ويقصون الجبال ويدفنون الأنهار ويقطعون الأشجار، ينهشون الحياة قبل أن ينهش أحدهم الآخر. فأمسكت بيد الفتاة، واستدرنا إلى مملكة الصمت.....
إلى قانونية منتدانا_الأخت الكريمة سوسن_ ,,,,,وإلى كل من بحث عن ميزان