الحق والخير والجمال
هذه هى الكلمات الثلاثة التى عبر بها الفلاسفة عن غايتهم النهائية من الفكر
والتفكر
وجعلوا من معرفتها مثلا اعلى يستحق التضحية فى سبيله بكل مؤثر عند النفس من
رغبات ارضية وشهوات حقيرة محدودة ويستحق الرضا فى سبيله بكل الم ومعاناة .
فما معنى هذه الكلمات الثلاث ولما انحصرت المعرفة الفلسفية فى هذه الثلاث
فقط.
انه سؤال جدير بالفكر والتأمل بل انه روح الفلسفة وسرها العميق الخفى عن
البصائر والابصار .
واذا كان الامر كذلك فلا يوجد ما هو اهم من الاجابة على هذا السؤال والتصدى
لسبر اغواره واظهار خفاياه . ولعل هناك فائدة اكبر واعظم من مجرد معرفة
معانى هذه الكلمات الثلاث والاسرار الباطنة فيها واقصد ان يتضح لنا الفلسفة
الحقيقية ونميزها من تلك الرطانة والعى المريض الذى لا يكف ادعياء الفكر
واصحاب النظرات المزيفة والافكار السطحية من تصديع ادمغتنا وتعكير اسماعنا
به . ولعل هذه الفائدة هى المطلوب الاهم والاعم فى عصر الجهل والادعاء بلا
برهان او سلطان.
فما هو اذا السبب فى انحصار الفكر عند الفلاسفة الحقيقين فى هذه الكلمات
الثلاث ......... اعلم اخى القارئ اننا قد ننظر للشئ الواحد بثلاث اعتبارات
اما نظريا واما عمليا واما جماليا وهذه ثلاث نظرات للشئ الواحد وهى موجودة
فى كل نفس بشرية ولا يختص الامر بالفلاسفة وحدهم وانما هى فطرة انسانية
عامة وشاملة ولا يتصور ان يشذ عنها انسان ولو كان مجنونا . ولنضرب مثلا
يوضح هذه الفكرة للاذهان وليكن مثالنا هو الماء فهو موجود من الموجودات
يمكن ان نتأمله نظريا وعمليا وجماليا وهذه ثلاث تأملات مترتبة على بعضها
البعض فلا يصح تأمل عملى الا بعد تأمل نظرى ولا يصح تأمل جمالى الا بعد
تأمل عملى فهى ثلات تاملات مرتبة بعد بعضها البعض بنفس هذا الترتيب.
الماء نظريا
اذا تأملنا الماء نظريا فاننا نقول هو سائل ولا طعم له ولا رائحة ولا لون
وهو مكون من ذرتين هيدروجين ودرة اكسجين وهو يغلى عند درجة حرارة معينة وهو
غير قابل للانضغاط الى حجم اقل...... فكل هذه هى احكام نطلقها على الماء
عند تأمله نظريا
ومن خلال هذا المثال نستطيع ان نقول ان التأمل النظرى للشئ هو معرفة صفة
موصوف او علاقة سبب ومسبب وجميع المعارف النظرية التى تبحث عنها العلوم هى
قضايا تعبر اما عن صفة وموصوف واما عن سبب ومسبب وهذا مطرد فى اى علم
حقيقى مثل العلوم الطبيعية والانسانية على السواء.
فتأمل الشئ نظريا هو معرفة علاقته بغيره وهذه العلاقة لها شكلان اما صفة
وموصوف مثل قولنا (الماء سائل) فهذه قضية تعبر عن معرفة نظرية لاننا نعرف
الماء ونفهمه فهما تصوريا لذاته ونعرف السيولة ونتصورها فى اذهاننا ثم ننسب
السيولة للماء ونجعلها صفة له . اما الشكل الثانى للمعرفة النظرية فهو
السببية مثل قولنا ( الحرارة تسخن الماء) فهذه علاقة سببية بين الحرارة
وسخونة الماء وفحواها ان الحرارة هى السبب فى سخونة الماء التى نشعر بها
بحاسة اللمس. فالغرض من تأمل الشئ نظريا هو معرفة علاقته بغيره وهذه
العلاقة اما اتصاف واما سببية.
تأمل الماء عمليا
معنى تأمل الشئ عمليا اى اننا نرغب فى معرفة نسبته الينا ضرا ونفعا ولذة
والما .فكون الشئ ضارا او نا فعا ولذيذا او مؤلما ليست بصفات ذاتية له
وانما هى احكام عملية نطلقها عليه حسب اثاره علينا من حيث اللذة والالم وفى
مثال الماء فاننا اذا تأملناه عمليا اى رغبنا فى معرفة نسبته الينا من حيث
النفع والضر واللذة والالم نقول ( الماء نافع) لاننا نستعمله فى النظافة
والوضوء وتوليد الكهرباء وزراعة النباتات اللازمة لحياة الانسان . فنحن
هنا نبحث عن فائدة عملية للشئ ولكن هذه الفائدة العملية قائمة على معرفتنا
بعلاقاته بغيره اى انها قائمة على المعرفة النظرية بالشئ. وقد نحكم على
الماء حكما عمليا مضادا فنقول ( الماء ضار) لانه قد يكون سببا فى الغرق
وبالتالى الموت وقد يكون سببا فى تدمير المدن الساحلية او المحاصيل
الزراعية اذا زادت كميته . فهذه هى افات الماء ومضاره العملية.ولا يخلو شئ
فى هذا الوجود عن فوائد ومضار ولذلك فانه نافع وضار فى نفس الوقت ولكن نافع
من جهة وضار من جهة اخرى..
فالغرض من تأمل الشئ عمليا هو ان نعرف حكمه من حيث النفع والضر حتى اذا
عرفنا هذا طلبناه وسعينا لتحصيل فوائدة وهذا لا يكون الا بالعمل وهذا بدوره
لا يكون الا بمعرفة كيفية العمل. فهذه علوم مرتبة على بعضها البعض.
تأمل الماء جماليا
اما اذا تأملنا الماء جماليا فاننا نقول ما اجمل خرير الماء وتدفقة الوديع
من نبع صغير وما اروع ذلك الصخب المندفع من شلال منحدر من اعالى الجبال
وما اجمل حبو الماء بين جذور الا شجار ليرويها ويمنحها قدرة على الاثمار.
فهذا هو التأمل الجمالى للماء وغايته ان نعرف حكم الماء من حيث الجمال
والقبح فهل هو جميل ام قبيح. وكل شئ فى هذا الوجود فله الينا نسبة جمالية
فلابد اولا من معرفة حكم الشئ من ناحية الجمال فاذا عرفنا هذه النسبة
تذوقنا واللذة الجمالية هى تابعة لتذوق الجمال بالضرورة.
فهذا هو السر فى تلميحات الفلاسفة واشاراتهم لانحصار الفكر فى الحق والخير
والجمال ولكنهم ينمازون عن العوام برغبتهم فى الخلاص من الاوهام التى تجعل
العقل يخطئ فى حكمه فيرى الشئ حقا بينما هو باطل ويرى الجمال قبحا ويرى
الخير شرا . فالناس ملوثون بالاوهام التى تجعلهم فى غفلة عن الحق والخير
الحقيقى والجمال الحقيقى والغرض من الفكر انما هو الخلاص من هذه الاوهام
ومعرفة الاشياء كما هى وليس كما تبدو لوعينا المنحط الغارق فى المحسوسات
والعلل القريبة.
وكما اننا قادرون على تأمل تلك الاشياء الجزئية التى نراها فى عالمنا هذا
بالاعتبارات الثلاث اى نظريا وعمليا وجماليا فكذلك الانسان اى انسان يمكن
ان يتأمل الوجود كله كشئ واحد لا كثرة فيه من خلال هذه الاعتبارات الثلاث .
وهذا التأمل للوجود كله كشئ واحد بهذه الاعتبارات الثلاث هو موجود فى كل
عقل بشرى حتى المجنون نفسه فكل انسان لديه اعتقادات عن جملة الوجود نظريا
وعمليا وجماليا
ولكن هذه الاعتقادات قد تكون حقيقية وقد تكون مزيفة والغالب هو الزيف
والضلال.
اما اعتبار الوجود كله نظريا فهذا هو ما يسميه الفلاسفة بالفلسفة الاولى او
الالهيات ويناظرها عند عامة الناس ما يسمى بالدين سواؤ أكان وضعيا ام
سماويا .فالدين فى حقيقته هو تمثيل رمزى لحقيقة الوجود كله نظريا . اما
العباقرة فهم بحكم الذكاء المفرط لا يكفيهم الاقتصار على معرفة مثال
الحقيقة ولكنهم يرغبون فى معرفة الحقيقة فى ذاتها وكما هى بلا تمثيل او
رموز . وهذه معضلة كبرى لان العقل البشرى قاصر عن هذه المعرفة ولذلك تنقضى
سنوات فى عالم التيه ما بين تناقض ونسبية
وتضارب فى المشاعر .
اما تأمل الوجود كله عمليا فهو رغبة فى معرفة الخير النهائى من وجودنا لانك
لن تقدر على معرفة نسبة اى شئ اليك من حيث الخير والشر الا اذا عرفت هذه
الغاية النهائية والخير النهائى ويدخل فى ضمن هذه المعرفة التيقن من
استمرار الحياة والخلود بعد الموت وبالتالى البحث عن الاسباب التى تنفعك
بعد الموت اما اذا لم تلتفت للعاقبة فانك ستقصر نظرك على الخير الدنيوى
وهذه معرفة سهلة قريبة لانها واقعة فى التجربة المحسوسة اما احوالنا بعد
الموت فهى مجهولة لا تقع فى التجربة ولم يرجع شخص الينا بعد موته ليخبرنا
ماذا وجد ويخبرنا عن الاعمال النافعة لنا فى الاخرة ووجه كونها نافعة.فهذه
معرفة لا تنال بالعقل وانما يجب ان نصدق فيها الانبياء ونؤمن بصدق ما قالوه
عن يوم اخر وعن الاعمال النافعة والضارة فى الاخرة ودون ان نعرف لما كانت
نافعة ولما كانت ضارة لان هذا لا يكون الا بعد التجربة.
وكذلك يمكن للانسان ان يتأمل الوجود كله جماليا ويالها من لذة ما بعدها لذة
لانك ستدرك الجمال الابدى وجها لوجه وسوف تنسحق عروق قلبك تحت وطأة الشعور
بالجلال اللانهائى وسوف تفنى روحك عند مطالعة الجمال الكلى الشامل الذى
يتدفق ما بين الاشياء.
وانه لمن حماقة بعض البشر قولهم ان الوجود قبيح وانه ملئ بالظلم والعبث كما
يحلو لبعض الوجوديين ان يعبروا عن مشاعرهم تجاه الوجود من اشمئزاز وقرف
وخوف ورعدة وقلق . وكل هذه المشاعر هى تابعة لاعتقاداتك الجمالية عن جملة
الوجود فمن اعتقد ان الوجود قبيح او شر فلابد وان يتشائم ولا بد وان يشعر
بالعبث الكونى الشامل. ومشكلة هؤلاء انهم لا يتظرون للوجود فى جملته وانما
يقصرون نظرهم على جزء منه ولذلك فهم يدركون قبحا ولا يدركون جمالا ومثلهم
كمثل شخص نظر للوحة فنية بارعة الجمال ولكنه قصر نظرة على مساحة ضئيلة من
هذه اللوحة فلم يرها فى جملتها ولكنه رأى جزؤا منها فيه لون اسود . فقال
للفنان الذى رسمها ما هذا القبح ان لوحتك كلها سوداء . ولو رجع هذا المعتوه
قليلا للوراء لرأى اللوحة فى كليتها وشمولها وعرف وقتها ان هذا اللون
الاسود هو السبب فى جمال اللوحة ولو فرضنا عدم وجوده لكانت اللوحة قبيحة
بالفعل.
ومن هذا المثال يظهر لنا صدق من قال انه ليس فى الامكان ابدع مما كان فان
لم ترى هذا الابداع والجمال الكونى الشامل فاعلم انك تنظر لجزء من لوحة
الوجود بينما انت فى غفلة عن اللوحة فى شمولها. فلا قبح فى الوجود ولا نقص
ولا قصور
بل هو جمال صرف وابداع محض انما العيب فى قصورك ونظرتك الجزئية.
منقول منتدى انسانيات