قد لا تصدقون قصتي ..ومع ذلك أشعر أن من واجبي أن أرويها لكم ..علكم تشاركونني .....هذا كله ما أطلبه منكم ...وليس من المستبعد أن أكون أول من يطلب منكم هذا النوع من المشاركة .... في الدهشة ..! وأنا أعرف مسبقا كما تعرفون أنتم طبعا أن الدهشة ..تعني تعثر الوعي والحس بشكل ما ..وقد تعني غيابهما في لحظة من اللحظات .. التي يعيش فيها المرء تجربة شخصية ..أو في لحظة من اللحظات التي يعيش فيها المرء قصة من ..باب المشاهدة أو القراءة .. وستعيشون أنتم قصتي قراءة ،تعيشون غرابتها كما عشتها أنا بداية ونهاية ..والغرابة قصة مشاهدة .!
قد يختارك رئيس عملك ويخصّك بجائزة تحفيزية لتفانيك ولانضباطك في العمل، والعمل انضباط وقد تكون محضوضا مثلي إذا كانت الجائزة هي رحلة إلى بلد تقضي فيه عطلتك الشتوية..فهذا ما حدث لي ...فقد قررت إدارة مجلس العمال إرسال المجموعة من عمالها_وطبعا كنت منهم _ كمناضلين أو مناصرين ،وليس شرطا أن تكون جنديا في الصف حتى تُسمى مناضلا،فقد تكون مناضلا حتى وأنت في إجازة..!!!! ...قررت هذه المرّة _والمرة تعني المعاودة_ قررت إرسالنا إلى جنوب إفريقيا،والجنوب قد يكون شمالا إن كان فيه ذهبا، وكم أنا سعيد لأني كنت سأجاور المناضلين من بلدي ...الذين يرابطون هناك ليعيدوا لنا مجدنا الضائع...نعم!! حققنا كل الأمجاد ...إلا هذا المجد!....ومن يدري ربما يكون المجد في جلد منفوخ ...ينط هنا وهناك ...يركله شلة من الغُمر، عقولهم في نعالهم المدببة ...وحتى رؤوسهم مدببة ...جميل أن ترى المجد في أشياء دقيقة مثل دبوس...!!. نعم كل الظروف مهيأة للمجد ...البساط أخضر ...و قمصان خضر ...!!! على كل حال سأذهب وسأدفع بصناع المجد ...سأصرخ بكامل ما أوتيت من صراخ ...علينا إدخال الكرة في المرمى لنصطاد المجد في الشبكة .
حتى أظل قريب من أفكاركم وعواطفكم وممارساتكم العادية ... فالمناضلون الخضر هم الوجه المشع للوطن في الخارج بصورة مطلقة بلا جدل ولا مراء ... ولا مماطلة ..فأنا شخص دائما أعبّر عن أفكاري وعن رأيي في نفسي في ثقة وصراحة تامة ،...وأعبّر عن رأيي في الآخرين .... دون مجاملة! فنحن المناضلون، دائما نريد أن نؤكد ذاتنا ،والذات عند ذوي الشخصية أساس الوجود ! نريد أن نضمّ ذاتنا ..ونضع اسماءنا فوق العديد من الأسماء اللامعة ! وكان هذا بغض النظر ...بغض النظر عن الأعمال التي تبدعها هذه الأسماء ..ولو كانت في مجال الكيف ...والكيف نوع من الممارسة الخلاقة ! ولا بأس أن يخالفني بعضكم في هذا الرأي .. وهو رأيي على أيّة حال!
وعندما وصلنا إلى هناك وُزعنا على عدة أماكن وكان حظي أنا أن أجاور أبناء المجد فدخلت إلى مدينة المَلك الأسود الواقعة على نهر ساحر.
ونزلت فيها بفندق من الدرجة الأولى وكنت فيه وحيدا ..أي لم يرافقني أحد من زملائي.
قدمت لي غرفت تطل على هضبة جميلة تتخللها بعض الحدائق و الغابات الصغيرة ..التي جعلت للمنظر طابعا خاصا بدالي متميّزا جدا لم أشاهد مثله خلال جولاتي في بلدان ومدن أو أن مثله فيها لم يجلب انتباهي بهذا الشكل الفريد...وكانت حساسيتي الجمالية قد نمت وتطورت .
ولكم فرحت لأني سأقضي في هذه الغرفة الجميلة بعض الأيام دون أن يكلفني ذلك شيء..فالشركة هي التي ستدفع التكاليف الكل في الكل وسأصرف مخصصات السفر في أمور أخرى ..
وكان أول ما جلب انتباهي هو أن الغرفة كانت تحوي على ثلاجة وفي الحين فكرت ..بل هتفت بيني وبين نفسي هذا هو النظام وهذه هي الحضارة ..لقد فكر صاحب الفندق في كل شيء فكل ما لديك أو ما تأتي به معك من فواكه أو مأكولات ..إن أنت لم تشعر بالرغبة في الأكل في المطاعم تستطيع أن تحفظه فيه وتجد فيه على الأقل الماء ..وقد تضع ذلك أنت بنفسك وعلى هواك نقيا باردا تشربه عند الحاجة وكم في الصيف من حاجة إلى الماء.
شعرت بضرورة التعرف على هذه الثلاجة ودفعني فضول غير عادي إليها فلا شك أن شكلها على صغرها جميل من الداخل وقد يكون أجمل من الخارج الناصع البياض ..كان المنظر يغري العين حقا بفتحها واكتشاف عالمها الباطني وما يمكن أن يزخر به من قيم صناعية ومعايير جماليية ...
وسارعت عند هذا الحد إلى فتحها في لهفة ..وإذا بعيني لا تقعان إلا على محتوياتها من مشروبات كحولية وغازية .
اعتراني فجأة شعور ثائر مدمر ..كيف ..؟
أتحوي غرفتي ..!! وأنا الذي جئت مكافحا ومرشدا مع أبناء المجد إلى السلوك القويم
أتحوي غرفتي...!! على مشروبات كحولية وغازية ..._غير الماء إن وجد_ ولا أحد يدري ما قد يتضمنه غازها من مواد مخدرة ...فأنا رجل يصعب على مثلي أن يتبين خيط الحلال من خيط الحرام ... وكما يصعب عليه أن يصرف الحد الفاصل ..بين النجاسة والطهارة ...وكيف يمكنني ذلك وأنا لا أعرف غير الماء الطاهر والطهور المطهر ...
ولم ألبث أن قلت في نفسي ها أنت يا نفس ..تكشفين ميدانا آخر للكفاح ..لا بد أن تلحقي الأذى بكل كافر وملحد .
كل من لا يعيش كما لا يتطلبه دينه القويم ...وأخذت أردد أنا له ووطنت على أن أسيئ للكافر ..أنتقم منه في غمرة كفاحي وأسيء للشركة وأنتقم منها لأن مسئوليها يعيشون غير المعيشة التي أرتضيها لهم.
فهم يقلدون الكافر في حياته ..حينا وفي سلوكه حينا آخر.
حقا لا بد أن أسبب الخسارة للكافر وأسبب الخسارة للشركة لأنها تابعة له في بلده على نحو ما تخضع له قوانينه وعاداته وأعرافه وتقاليده السيئة .
أسبب للكافر الخسارة بإتلاف ما أمكن من المشروبات الكحولية ...وأسبب الخسارة للشركة بإتلاف المشروبات الغازية ...أو ما يظن أنه من المشروبات الغازية ........
ونفذت ما صممت عليه في الحين فالتقطت زجاجتين من الكحول ..وانطلقت بهما في شموخ نحو دورة المياه ...وصببت ما تحويانه من سائل ذهبي اللون ..بفرحة متناهية ..وأخذت كذالك زجاجتين من الغازية ..وقبل أن أصبهما تأملت إحداهما قليلا ثم فتحت لأعرف طعمها ...وإذا هي فعلا مشروبا غازيا عذب المذاق فشربتها فقد كانت صغيرة الحجم دفعة واحدة وأعدت الأخرى للثلاجة على أن أشربها فيما بعد وحين يحين ا وقتها الأكيد آتي عليها .
لابد أن تكون خسارة للشركة موجعة على أن تكون خسارة صاحب الفندق أشد وجعا ؟؟
وخسارته هو معنوية بطبيعة الحال ..مرتبطة بشعوري نحوه ..وكل شيء داخل في أجرة الغرفة
وهزتني عند هذه العبارة فرحة ففتحت الثلاجة وشربت زجاجة غازية أخرى ..
نهضت صباح اليوم التالي مغتبطا بما حققته من نضال فرحا بانتقامي المدمر.
وجاء بعدئذ من أخذني إلى المحل الذي كان علينا أن نرى صناع المجد وهم يتدربون على بساطهم الأخضر على ركل الجلد المنفوخ ..لكن وآسفا حيل بيننا وبينهم إلى إشعار قادم...رغم أن هناك أناس من جاليتنا تكبدوا الوصول من بعيد لرأيتهم ...ولكن لم يكن هناك أي استنكار أو غضب
فذلك ما حدثتني به تصفيقات الحضور الخاصة وتهافتهم على المكان .....و بعدها دعيت لتناول الطعام خارج الفندق وعندما عدت إلى الفندق لأستريح قبل أن أخرج للقيام بجولة في المدينة مع أحد مسئولي الشركة ..اتجهت مباشرة إلى الثلاجة لتناول مشروب غازي مع أني لم أكن أشعر بالعطش ..فقد أردت أن أسبب الخسارة ..للشركة لا غير ..ففوجئت بأن كل شيء عوض سواء ما شربته من المشروبات أو ما أتلفته منها ...وكم سررت بذلك لأن كفاحي سيستمر ..وضحكت أعماقي وأنا أصب الزجاجتين الأخريان في دورة المياه ..وأثني بما تبقى من زجاجات الغازية ...وأنهيت مهمتي في أمسية ذلك اليوم باتصال بمجموعة من جاليتنا هناك وقررت العودة إلى الوطن قبل منتصف النهار،قررت العودة لأن أصحاب المجد لم يفلحوا في إدراكه...لا يهمّ سأعود أنا بالمجد و النصر...وانطلقت في عزم وواصلت كفاحي في تلك الأمسية وقد أرقت هذه المرة ..زجاجات الجعة رويت بها دورة المياه مع أنها مرتوية دوما لا تعرف انقطاع الماء اطلاقا ..خلافا لما هو عليه الأمر عندنا في أحوال عديدة تختلف حدتها بين منطقة و أخرى في الشمال والجنوب ..
وقمت في الصباح وأنا أتغنى بآياتي وأورادي ومدائحي ...وكانت فرحتي كبيرة بما حققت من كفاح من ناحية وبالعودة إلى البلد من ناحية أخرى _رغم أننا فشلنا في استرجاع المجد الأخضر_...تاركا للشركة أن تدفع الثمن الكل في الكل ..وجمعت الأغراض ونزلت لتناول الفطور في مطعم الفندق .
وهناك وجدت المرافق في انتظاري وكان شابا صموتا ..وطلبت بعدئذ إحضار حقيبتي من الغرفة ..فأحضرت إلى مكتب الاستقبال بعد حين ..فتناولتها أريد الخروج مع مرافقي ..
ولكن رئيس المكتب الاستقبال ...طلب مني أن أنتظر قليلا وناد عاملا آخر وهمس في أذنه شيئا ثم قال لي اذهب معه إلى ذلك المكتب ..وطلب مني أن أترك حقيبتي حيث هي إلى أن أعود ..وما إن دخلت حتى قدمت لي فاتورة الحساب ..وقالت لي المحاسبة ..الشركة لا تدفع ثمن المشروبات الكحولية التي تناولتها فعليك دفعها أنت .
فأصابني ما يشبه الذهول وكانت أعماقي تصرخ ..لم أشرب لم تشرب ..لم يشرب ....من شرب نخب الكفاح ؟؟؟؟ أهذا هو الكل في الكل ..قد أضعت المجد ...كما أضاعته الرؤوس المدببة .