لَكَمْ أودّ في هذه اللحظة بالذات أن أصرخ و...أصرخ !و الإلحاح على الصراخ في مناسبة من هذا النوع حرقة متفجرة .ترى هل بقي فيكم من لم يعاني هذه الحرقة المتفجرة ؟ الحقيقة أنّنا في غضبنا الداخليّ نمتلك عددا لا يحصى من هذه الحرق المتفجرة ..لو أننا استطعنا حصرها في مكان معيّن..لو أنّنا استطعنا ذلك لأمكننا أن نصنع منها قنابل أو صواريخ موجّهة يصل مداها إلى مدارات معيّنة ...إلا أن غضبنا _للأسف_من طراز فارغ لا يخرج من الأعماق غير الدخان والصمت ...وقد يكون الصمت صوت الدخان ! وهو دخان قلّما يدلّ على أن هناك لهيبا و...حركة !
حقا وحقا .. أريد أن أصرخ ، بل أنا أصرخ الآن ..ركزوا أنظاركم في حروف كلماتي وستلاحظون أنّها تصرخ صراخا صامتا..يتوثب بين الحروف والفواصل والنقط و ...السطور ! أصرخ ، ولكن الآذان المتسلطة _واحرقتاه _لا تسمعني لا تسمع أصوات صواريخ الحرق المتفجرة ،وهي قواعد الصراخ الأليم ، وإنما تسمع صداها ،ورفيف أجنحتها ،وحفيف أثوابها المُخملية ،وكم للنفوس
المتسلطة من صدى ورفيف وحفيف! فكيف أنتظر منها أن تسمع صراخي الصارخ ،وصوتي العميق ؟
أجل لن تسمع صراخي ولو ساعدتها فيه بنت الجبل ! ولست أدري لما سمي الصدى في اللغة العربية .. بنت الجبل ولم يسم ابن الجبل ،ففي الصدى شهامة وفحولة ! ولست أدري أيضا لماذا جعل الصدى اسما لنوع من البوم _والبوم شؤم صراخه في العديد من المعتقدات الشعبية – يدير رأسه قبلك أينما درت وكأنّه...! أيكون صراخي صراخ شؤم وبوم ؟إنّ صداي يحرمني سرّية ما أريد أن أصرخ به لمهجتي وحدها ،والمهجة في كامل حقيقتها سر... الوحدة ! وأنا لا أصرخ إلا حين أنفرد بنفسي ....لا أسمع غير الأصداء التي تنطلق من أعماقي نيرة ، مشعة ،صامتة صمت الشعاع الباهر !
لعلكم انتبهتم أن صراخي تحمله كلماتي المحترقة .صراخي هو ما أخطه من معالم وسطور،هو ما أكتبه لكم بين الحين والحين ..أنتم يا من حظيتم بنعمة القراءة ! فهل فكر واحد منكم في الظروف التي أمارس فيها عملية الكتابة ، وفي الهيئة التي أتخذها ليتمّ لي ذالك ، وفي الضوء الذي أكتب تحت نوره ؟ أعتقد أنّكم لم تفكروا في شيء من هذا القبيل ،فمعظم الناس اليوم –وقد يكون في كلمة كلُّ إسراف –لا يفكرون إلاّ في الأكل والشرب و.. والتسلية من النوع الرخيص إلى حد الملل والتخمة . وهذه التخمة يمكنها أن تلهم أصحابها التفكير في كاتب من الكتاب ،تأكله الأحزان ، وتشربه الكلمات ،وتسليه العبارة والسطور والفقر والصفحات وقمة فرحته.. الأعمال المنجزة شفعا ووترا .
لهذا يندر أن يشعر أحدكم برغبة في القراءة.. إن كانت للقراءة سلطة عليه وسيطرة ..وإذا هو قرأ عملا من أعمال كاتب من الكتاب ..فإن ذهنه يصور له –بمجرد إقباله عليها ، وقد يلهيه ما يصوّره له عنها _أن كاتبا يكتب أشياء جميلة ومفيدة ومسلية لا بد أن يكون _- كالطبيب – مُدَرْهَمًا ومرفّها ، يجلس في مكتب فاخر ، يضاهي مكتب الوزير ،لأنّ كثرة ما ينشره هنا وهناك من دراسات لابد أن تمكنه من الرخاء والصحة والسعه ،وسيارته تضحك أناقتها الداخلية والخارجية من أيّة أناقة أخرى ..وذات مساحة طويلة مفردة زيادة في الأناقة والتفوق والتميّز .أما عن آلياتها وعن تجهيزاتها ومقاعدها فلا تسأل ...فقد تعجب ويصعب عليك التخلص من.... العجب! والعجب إذا طال صار حسدا ينذر بتمزق بعض الألياف الداخلية الرفيعة .
هكذا يتصوّرني من يقرأ ومن لا يقرأ .. لأنّه يقيس كل شيء بقياس... التاجر ! ومع معرفتي بأنه لن يقرأ ظروف الكتابة عندي في برجي ..وبرجي –وليكن واثقا من بعر وقار –لا من عاج ...فإني أصف له فيما يلي هذه الظروف وكأنّي أصفها لنفسي بين كتل البعر والقار والوحل ...غير المرئية :
أثاث البهو والبهو من البهاء إلا أنّ بهوي لا بهاء فيه ! شبه مهترىء، ليس فيه ما يلهم أحدا وصفا أو فكرة أوحادثة .ولعل أجمل مافيه بعض النباتات الممتدة على جدرانه ..رغم ما يتميّز به من ضيق ! ومكتبي- ينام فيه بعض أفراد أسرتي- صغير لا يكاد يترك لي مكانا أقف فيه لأبحث عن كتاب من الكتب ...رفوفه معوجّة ،محدودبة من الأسفل ،خطرها على من ينام أو يقف تحتها كبير ..وكم من مرة خشيت أن يقع في بيتي ما وقع - فيما يقال-للجاحظ ، العبقري الفذّ فيقتل أحدنا ..دونه أتكون له ذرة من عبقريته !
وأخذت الكتب تزاحمني حتى في غرفة نومي ،فتكدست فيها العلب والطرود الكبيرة المعبأة بالكتب والوثائق والدفاتر – وبعضها من سهر الليالي ودفاتر الأيام –والمخطوطات والمسودات ،..إضافة إلى الأجهزة وقطع الغيار.. الخاصة بآلات والأجهزة المنزلية أو بالسيارة –السيدة العجوز- وأصبح من الصعب علي أن أعثر- مع الهموم وضعف الذاكرة المتنامي- على كتاب أو وثيقة أو بطاقة ،سجلت فيها شيئا في يوم ما أو مستلة أحتاج اليها لأمر من الأمور ولم يعد في امكاني السفر للحصول على وثائق ومعلومات جديدة ،قد تتيح لي الاستغناء عن بعض الوثائق العتيقة المطمورة في الطرود ، لا أعثر عليه أو عليها إلا بعد مشقة كبيرة ،وقد يحدث لي أن أفتح عشرة طرود وملفات قبل أن أعثر على ما أريد ..فالكتابة وثائق وسجلات ومراجعات وتوثيقات أيضا ...في كل المعارف والثقافات المختلفة ،ولي إلى ذلك مائدة صغيرة قرب سرير النوم .. تأخذ نصيبها من الغرفة .!
أجلس إلى هذه المائدة ..أو المنضدة الصغيرة إذا شئتم ..في وقت الكتابة ، ولا أجلس إلى صاحبكم مربع الرأس"الحاسوب" _الذي تجلسون إليه وأنتم تقرؤون ما تقرؤونه الآن_ولا أدغدغه في راحته المربعة أيضا، لأني أخشى أن تصبح أفكاري الناضجة مربّعة، و التربّع رياضة تمتّع في زمننا ،وأفضل التربّع عندي وقت الكتابة في الليل ، فمشاكل الحياة اليومية لا تتركني أكتب في النهار ،ومن بين هذه المشاكل ضجيج الأطفال وأبواق السيّارات ...الباعة ،التي لا تتوقف قبل بلوغ نهاية الحي بعد خمسمائة متر وزيادة .!وبذلك لا يترك لي النهار وقتا أختاره للكتابة وإذا حدث وترك لي ذلك فإني أفتقد عادة الكتابة من كثرة التوقع و الانتظار! وليس لي مصباح صغير أضعه فوق المنضدة وأكتب على ضوئه ،ومن ثم فإني أكتب على مصباح الغرفة العادي ،الذي ينشر ضوئه في كل الجهات ، فاضطر إلى وضع منشفة على رأسي أظلل بها عيني تجنّبا للوهج والبريق !فالضوء يضعف ويقوى ! وكثيرا ما يُؤلمني هذا الضوء لضعفه وشحوبه وخفوته إلى حد ما ..فقد يعزّ.. علي في بعض الأحيان أن أجد مصباحا وسطا .. فصناعتنا تكره أوساط الأمور وتوفر لك عكس ما تريد !ولكن الذي يألمني أكثر هو نوم أمي الغالية فوق السرير تحت الضوء ...والضوء مزعج في قوّته وخفوته على سواء، وهناك من يصعب عليهم النوم أثناء اشتغاله ! وأمّي المسكينة صابرة لا يزعجها الضوء فقط ، وإنّما يزعجها كذالك كل الأصوات التي تصدر عن المائدة والقلم والورق كلما كتبت أو تحركت ،بحثا عن وضع ملائم ومريح فوق يبوسة الكرسي ،التي تقابلها في خط عمودي يبوسة الأفكار حين تتأبى أن تتحولّ إلى جمل ! أتراكم تقدرون الجهد الذي يبذل من أجل السلامة والإفادة ؟
وقد يحدث فوق ذالك أن تزعجني البعوضة ،وتحسم أفكاري وهي على وشك الاكتمال .. تلسع قدمي تشرب دمي ، ثم تطرب أذني ..وكأنّها تسمعني صوتها مبالغة في الاستهانة و التحدي! وأسارع إلى ضرب أذني بيدي وأصفعها صفعا ساحقا ..أو أريد أن يكون ساحقا..ولكنها تفلت مني وتترك الوجع لي وحدي وتهبط كالطبق الطائر جديد تحت المنضدة أو تحت السرير وقد تحوم فوق أمي حبيبة حياتي ..إلا أنّها لا تلسعها وكأني بدمائها تفتقر إلى حلاوة دمي ! وكم أتعاجز في البداية عن مطاردة البعوضة اللعينة،لأني أريد أن أحصر فكرة ما، أنجز عملي أو أنجز جزءا منه على الأقل .وفي النهاية أبادر إلى مرشة المبيد وأترصدها ، وما أن تحط فوق الجدار حتى أرشها بغضب و حنق، ويتطاير الرذاذ فوق والدتي فتئنّ وتشكوا ...ألا يستطيع العبد النوم في هذا البيت ؟ إنّني متعبة وأحب أن أنام !
لا تغضبي يا أمّي لقد حميتك من بعوضة مروحية تقتل فيلا ! فتتثائب وتعود إلى النوم وأظل أسمع تنهدها فترة غير قصيرة !
وأعود أنا إلى مصارعة الضوء الخافت والضيق والبعوض ...وبعض الأصوات الأخرى،التي يختلف بعضهاعن بعض من ليلة إلى ليلة .. مرة أبواق السيارات ..وكأن هناك أعراسا ومسرات ليلية وفي الحقيقة هي كذلك ،فنحن في بلدتي ،الناس لا يهتمون لراحتك في سبيل سرورهم الليلي خاصة ليلة الخميس و ما أدراك ما ليلة الخميس ،ومرة كبار صغار أعجبهم السهر ،فراحوا يلعبون بالكرات الحديدية ليالي متتالية في بعض الأحيان تستمر حتى الثانية أو الثالثة صباحا ...ولا شيء يحميك لا من الحي ولا من غيره ولو طلبت النجدة فهي نجدة لا تنجد أحدا ..اللهم إلا إذا هو قتل ..ويا ويحك إن أنت وجهت إلى الكبار الصغار أي نوع من أنواع الخطاب ..فالليل عندهم أبعد ما يكون عن الكتابة والفكر والجمال والشعر والسكينة !_فليسوا مثلكم معشر أعضاء منتدى التخاطب !فأنتم خطباء ليل حقا وأنا كذلك إلا يوم الخميس _ الليل عندهم ليس أكثر من اللهو والصفاقة المسلية .
وأنتهي في معظم الليالي من الكتابة مع تباشير الفجر الأولى ..وكم من مرة سمعت زمارة توقظ صاحبا أو زميل من نومه دونما مراعاة واعتبار ،وأنجز بذلك كلمات وكلمات ..أرجوا لها أن تجد من يقرؤها، من يحبها ،ويحاول أن يتذوّقها ويصغي إلى أنّاتها المستورة حين تنشر ...في منتدى أو صفحة التخاطب، وهي صحيفة فكر لا صحيفة ذنوب ! لكن ما أكثر ما تغدوا الكتابة ذنبا حتى عند من يمارسها ! ومن عادتي أن أوزع ما أنجزه على الجرائد و المجلات في اليوم نفسه وكل همي الوصول إليها قبل وصول القارئ ،فهي حاملة رسالتي إن كانت لي رسالة ! وتساعدني في التنقل بين مراكز الجرائد والمجلات سيدتي العجوز ...سيارتي التي تحرص دوما أن أدفعها قبل أن تتحرك وتحملني وهي تغني وتصفر ! كالبعوض !حتى هي تمارس سلطتها علي دون توقف ...وكأنها بالفعل سلطة !ومع ذلك أبتهج – رغم ضيق ذات اليد وضياع المقابل وقلة التقدير .. بل انعدامه كلية- كلما وصلت هكذا إلى ...معجزة الكتابة .