"التعليم" في مقدمة ابن خلدون
تمهيد:
أفرد ابن خلدون كامل" الفصل السادس والأخير" من المقدمة" للعلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه وما يعرض في ذلك كله من الأحوال "وقد قسّمه إلى 50 فصلا يمكن توزيعها إلى المجالات الآتية:
1. مقدمة الفصل وخصصها للتأكيد على ثلاثة أفكار رئيسة تبرز من عناوين الفصول التي تضمنتها :
الفصل1 : في أنّ العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري.[ "...وتتشوف نفوس أهل الجيل الناشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التعليم من هذا فقد تبين أنّ العلم التعليم طبيعي في البشر.]
الفصل2 : في أنّ التعليم للعلم من جملة الصنائع.
الفصل3 : في أنّ العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة.[والسبب في ذلك أنّ تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع وقد كنا قدمنا أنّ الصنائع إنما تكثر في الأمصار وعلى نسبة الصنائع في الجودة والكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش...]
2. أصناف العلوم الواقعة في العمران لعهد ابن خلدون: [ الفصول من 4 إلى 26: العلوم الشرعية والعقلية والمنطق والفلسفة والسحر والكيمياء ثم من 36 إلى 50: علوم اللغة والأدب ]
3. طرق التعليم وأصناف العلماء: [ الفصول من 27 إلى 35 ].
و يمكن، أن نستنتج انطلاقا من هذا الجرد السريع للفصل السادس من المقدمة، أمرين، هما:
إن تخصيص الباب السادس والأخير من المقدمة للعلم والتعليم ينسجم منطقيا مع رؤية ابن خلدون " للعمران البشري " المبنية وفق منهج تصاعدي" من الأغرق في الوحشية والبداوة إلى الأعلى في المدنية والحضارة [ انظر الفصل 3: في أن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة ] حيث يقسم الناس إلى بدو وحضر : البدو وهم الذين يكتفون بالضروري فقط و الحضر وهم الذين يتجاوزن الضروريات إلى الكماليات ومنها تعلم الصنائع والعلوم فالتعليم عنده من توابع الحياة في الحضر لحاجة أهل الحضر إليه ولأنه أيضا من عوائد الترف وحب الإطلاع [لأنه أمر زائد عن المعاش]… ولكن هذا لايعني إطلاقا أنه يؤمن بأن مرد ذلك إلى فرق في المدارك العقلية بين البدو والحضر [فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله وان نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها وليس كذلك ] .أو بين أهل المغرب والمشرق[حتى إنه ليظنّ كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أنّ عقولهم على الجملة أكمل...وليس كذلك وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة] وإنما يعيد ابن خلدون هذا التفاوت إلى الفرق في البيئة وما تحويه من تراث ومكتسبات وتجارب ومعلمين مهرة [ فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو]
إن تخصيص سدس المقدمة برمته للشأن التربوي يمكننا من الحديث بكل اطمئنان عن نظرية تربوية خلودنية متكاملة تشمل " الغايات التربوية - المحتوى المعرفي - طرق التعليم - العلاقة بين المعلم والمتعلم وشروط نجاح كل منهما .
نظرية ابن خلدون التربوية:
1- الغايات التربوية العليا : للتعليم وظيفة اجتماعية عمرانية فهو مظهر من مظاهر التعاون في المجتمع من أجل مصلحة المجموعة وحفظ نوعها وهذا لا يتحقق إلا بإفادة الفرد والمجتمع في نفس الوقت أي باكتساب " ملكة نافعة " فالتعليم عنده صناعة خاصة ، غايتها إثبات ملكة العلم في نفوس المتعلمين لا حمل المتعلمين على حفظ فرع العلم [ ...فدل على أن هذه الملكات غير الفهم والوعي والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر : الفصل الثاني] فالتعليم الصحيح عند ابن خلدون هو " الموظف في محتواه وطرقه توظيفا يمكن المتعلم من اكتساب ملكات فكرية و جسمانية تفيده وتفيد مجتمعه ، وأن هذه الغاية هي التي تحدد المحتوى التعليمي والطرق التربوية .
2- المحتوى التعليمي - التعلمي : تميّز ابن خلدون في هذا المجال بأربعة أفكار رئيسة:
أولا: تقسيمه العلوم إلى قسمين:
أ - علوم آلة ووسيلة: كالنحو والبلاغة والحساب والمنطق...
ب- علوم غاية ومقصد:كتفسير القرآن والحديث والفقه والطبيعيات والإلهيات...
ويتشدد ابن خلدون في التمييز بين النوعين ويدعو إلى معرفة الهدف من العلوم الآلة قبل كل شئ والوعي بدورها من حيث هي مجرد وسيلة و آلة لاكتساب علم آخر هو الغاية والمقصد ويعلل دعوته إلى عدم التبحر في الآلة بالأسباب الآتية:
* سبب خارجي: التبحر في الآلة يخرجها عن القصد منها فهي آلة ووسيلة لغيرها.
*سبب داخـــلي: الحصول على ملكة في علوم الآلة صعب المنال.
* التبحر في الآلة لا يكون إلا على حساب المقاصد فيطول زمن التعلم بدون موجب..[ الفصل 30 : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل حيث يقول : " فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ] والخلاصة أنه لا يرفض تعلم العلوم الوسائل وإنما يرفض أن يصبح تعلمها عائقا أمام تعلم العلوم المقاصد التي هي غاية كل تعلم ولأنّ اكتساب الملكة فيها ممكن ويسير [ فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها ... فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته ....]
ثانيا :رفضه التعليم الموسوعي :لأنه مضر بالتحصيل وعائق له [والعمر ينقضي في واحد ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية...لكان التعليم سهلا :الفصل 28]كما يرفض بشدة المختصرات المضرة بالعلم كألفية ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية والخونجي في المنطق لصعوبة لغتها فيضيع العمر في شرح المصطلحات وليس في تمثل معانيها ناهيك عن أنها لا تسمح بالتكرار الضروري لحصول الملكة: [...فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فاركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكينها...: الفصل 28]
ثالثا : رفضه الصارم لبعض العلوم وتحذيره من تعلمها لأسباب متعددة:
1- الفلسفة [ الفصل 24 : في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها]
2- التنجيم [الفصل 25: في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غاياتها]
3- الكيمياء [ الفصل 26 : في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عند انتحالها]
رابعا : نقده الصريح للبرامج التعليمية السائدة في عصره[الفصل31: في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه ]
منطلقا في ذلك من مقارنة دقيقة لمحتوى التعليم في بعض الأقطار الإسلامية آنذاك:
* المغرب: القرآن مع الخط.
* الأندلس: القرآن والخط مع بعض العلوم.
* تونس: القرآن والخط مع بعض العلوم.
* مصر : القرآن وصحف العلم بدون خط.
ولم يتردد ابن خلدون في نقد البدء بتعليم القرآن منذ الصغر والاقتصار عليه وخاصة في المغرب وبدرجة أقل في تونس [ فأما أهل افريقية و المغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور على ملكه اللسان جملة ... فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام ...] لذلك كان ابن خلدون أميل إلى محتوى التعليم الأندلسي وأُعجِب خاصة بالمفكر ابن عربي الذي ينقل عنه ضرورة البدء " بالشعر العربي ثم الحساب ثم القرآن ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه" ويعلق على مذهب ابن عربي بقوله " وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال فقد جرت العادة على تقديم القرآن خوفا من انقطاع الطفل عن التعليم قبل حفظه ثم يعقب بقوله : " ولو حصل اليقين باستمرار الصبي في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب أولى بالأخذ " .
3- الطريقة التربوية: وردت أفكار ابن خلدون في الطريقة التربوية الأنجع مبثوثة في فصول عديدة، ويمكن تلخيص هذه الآراء في النقاط الآتية:
1- تهيئة المتعلم لقبول العلم: يرفض ابن خلدون طريقة إلقاء الغايات قبل الشرح أو البدء بالمسائل المستعصية على فهم المتعلم خشية أن يكون ذلك حاجزا بينه وبين الفهم الصحيح فالمطلوب هو البدء بالأيسر والأسهل. [ الفصل 29: في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته "... وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكامل عنه ... وإنما أي ذلك من سوء التعليم " ]
2- التعليم بالتدرج : إن أنجع طريقة لتلقين العلوم هي طريقة التدرج التي تعتمد على ثلاث تكرارات:
*أولها تقديم المجمل من العلم ينتج عنه حصول: ملكة جزئية ضعيفة
*والتكرار الثاني يقوم على تفصيل المجمل والغاية هي تحصيل الملكة الجيدة :
*و التكرار الثالث يقوم على مراجعة العلم وتدقيق المسائل الغامضة وبه تحصل الملكة التامة
وبدون هذه المنهج يصبح الفهم عسيرا والحصول على الملكة صعب المثال.
3- عدم خلط العلوم وتداخلها: ينصح بأن لا يخلط على المتعلم علمان معا فانه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما .
4- عدم إطالة زمن التعلم لأنه مدعاة للشعور بالكلل والملل والنسيان.
5- عدم المباعدة بين جلسات العلم ] الحصص [ لان المباعدة تضيّع المكتسبات فيصعب حصول الملكة ..
6- أهمية التطبيق وضرب الأمثلة المحسوسة في تحصيل الملكة التي هي صفة راسخة تحصل عن استعمال الفعل وتكرره مرة بعد أخري حتى ترسخ صورته وهي صورة العلوم لدى المتعلم.
7- فتق اللسان بالمحاورة والمناقشة فهي الكفيلة بتكوين ملكة التصرف في العلم عند المتعلم وهذا مهم لان الغاية من حصول الملكة هي توظيفها في الحياة والقدرة على التوظيف لا تكتسب إلاّ بالمحاورة والمناقشة [ الفصل 2: في أنّ التعليم للعلم من الصنائع : و أيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها فتجد طالب العلم منهم [ سكان المغرب لعهده ] بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصّل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم وما أتاهم القصور إلاّ من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك.]
8- رفض الشدة على المتعلمين: عقد ابن خلدون فصلا مستقلا [ الفصل 32: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم ] هاجم فيه العنف والقهر في التعليم لمضاره المتعددة.
- مضار نفسية: التضييق على النفس...
- مضار أخلاقية: التعويد على الكذب والخداع والغش خوفا من العقاب.
- مضار اجتماعية إنسانية: فقدان الإنسان لثقته في قدرته في الدفاع عن نفسه وأهله ووطنه ينتج عنه موت الحمية والوطنية وبذلك يتحول التعليم من محرك للمجتمع إلى مدمّر له.
4- شروط التربية عند ابن خلدون : هي نفسها شروط حصول الملكة لأنها الغاية القصوى من كل تعليم وحصول الملكة متوقف نوعية المعلم والمتعلم :
أ - المعلم: وهو الملكة الأصل: يجب أن يكون:
ملما بالعلم الذي ينقله .
صاحب طريقة جيدة ويقبل بالنقاش والحوار.
لينا ، يقدم الاقتناع على الشدة .
محترما لذات المتعلم بحيث يصنع منه عنصرا نافعا مفيدا للمجتمع لا مضرا به.
ب- المتعلم: خصّ ابن خلدون المتعلم بالجزء الثاني من الفصل 29: [في وجه الصواب في تعليم العلوم...]وقد بدأه بقوله : " واعلم أيها المتعلم : " وفيه يؤكد على" أنّ من أجلّ شروط المتعلم ، الاجتهاد والاستعداد لتلقي العلم . ولكن مع إيمانه الراسخ بأنّ شرط الاستعداد فطري موهوب من الله عز وجل لذا ينصح بطلب العون منه: [" فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب"]
تقويم نظرية ابن خلدون التربوية في ضوء العصر:
في نظرية ابن خلدون الكثير من العناصر الايجابية الرائدة من منظور معاصر نجملها فيما يلي :
1- تمييزه بين الغايات التربوية[ القانون التوجيهي وملامح المتخرج ]والمحتوى [ البرامج التعليمية ] والطريقة [ المقاربات البيداغوجية]
2- جعله الغاية ] حصول الملكة [ هي التي تحدد المحتوى ] البرامج [ والطريقة ] البيداغوجيا المناسبة [ .
3- تأكيده على أهمية زمن التعلم وضرورة تخصيص الوقت الكافي للتعلم وهو ما أكدت عليه بيداغوجيا الأهداف حاليا من ضرورة الربط بين الهدف وزمن تحققه
4- تعريفه للملكة بأنها القدرة على توظيف العلم في الحياة [ ...فدل على أن هذه الملكات غير الفهم والوعي والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر : الفصل الثاني]يتقاطع مع مفهوم الكفاية المعاصر. v
5- أهمية التكرار في حصول الملكة وفي هذا يتقاطع مع ما توصل إليه العرفانيون حول الذاكرة بعيدة المدى التي تخزن فيها المهارات التشغيلية العليا .
6- أهمية إتقان اللغة والمصطلحات كشرط لتعلم بقية العلوم ] الفصل 28 [ .
7- الإيمان بالفروق الفردية بين الناس: [" وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب بسهولة ".]
8- العناية بالمناخ النفسي الذي تتبلور فيه شخصية المتعلم لذلك رفض استعمال الشدة وهذا فيه تقاطع مع البنائية ...
ولـــــــــــــكـــــــــــــــن :
هذه التقدمية في الفكر التربوي الخلدوني لا تحول دون نقده في نقطتين على الأقل:
1- أولا: رفضه لطريقة ابن عربي رغم إعجابه بها بسبب مراعاته الشديدة للعادات والتقاليد .
2- ثانيا: التناقَض بين اعتبار غاية التعليم القصوى إفادة المجتمع وبين اعتباره التعليم أرقى الكماليات لذلك أخره (شكلا ) في المقدمة ( ومضمونا ) في العمران البشري بما يعني أن التعليم :
- لا يمكن أن يؤثر في حياة البدو إطلاقا .
- يأتي بعد تحقق كل الحاجيات فينحصر دوره بالتالي في التنظيم المجتمع أخلاقيا في حين آن التعليم الآن هو محرك المجتمع ومصدر كل تحولاته القيمة الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية...
حسن بن حميدة متفقد المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية بنابل وبن عروس
المصدر : أنوار العدد 9