أثر تعلُّم القرآن في الملكة اللسانية عند ابن خلدون :
يرى ابن خلدون أن تعلّم القرآن وحده لا يكفي للحصول على الملكة اللسانية " الفصاحة والبلاغة " ، يقول : ( فأما اهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة ، وذلك لأن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ، فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها ، وليس لهم ملكة في غير أساليبه ، فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي ، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام )
في حين يقول عنأهل الأندلس : ( وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي ،....)
وأيّد كلامه بكلام القاضي ابن العربي ، يقول ابن خلدون : ( ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب ويدعو على تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة ) .
ثم يذكر ابن خلدون سببين لاكتساب الملكة اللسانية وحصولها :
السبب الأول : كثرة الحفظ .
يقول : ( حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب ، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم ....... وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع ، تكون جودة الاستعمال من بعده ، ثم إجادة الملكة من بعدهما )
السبب الثاني : تعلّم القرآن الكريم والحديث النبوي ! !
يقول : ( ويظهر لك من هذا الفصل وما تقرر فيه سر آخر ، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية ، في منثورهم ومنظومهم . فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار ، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدرا من الدولة العباسية ، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد ، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم .والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة .
والسبب في ذلك أنّ هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث ، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما ، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم ، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها ، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك ، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة .وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة )
سؤالي أيها الأفاضل :
1- ألا يشمُّ من كلام ابن خلدون رائحة مذهب الصرفة في قوله : ( أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله ... ) ؟
2- أليس ابن خلدون متناقضا ، إذ إنه يرى أن الاقتصار على القرآن وحده يقصر عن حصول الملكة اللسانية ولكنه في مقام آخر يرى أن السبب الثاني في حصول الملكة هو سماع القرآن والحديث النبوي ؟
3- ذهب بعض الباحثين في رسالته العلمية التي هي بعنوان " مفهوم السليقة اللغوية في التراث النحوي عند العرب " ذهب إلى أنه لا تناقض في كلام ابن خلدون السابق ، فابن خلدون يقصد أن من توقف جهده على ما حصله في صغره من قراءة القرآن وحفظه دون فهم معانيه ومقاصده فإن الملكة اللسانية تقصر عنه ، وهذا يؤيده الواقع المعيشي ، أما من طال به الزمن ، فتدبر معاني القرآن ودرس تفسيره ، وفهم ألفاظه وجمله وأسلوبه فإن ملكته اللسانية تقوى به ..
فهل توافقون هذا الباحث ؟ !