5- التساؤل وماهية "الموضوع التاريخي":
جوهر التساؤل أو الاستفسار هو الكشف عن الإمكانيات وتفتحها. سوف نرى ذلك بأي معنى. عندما تؤسس إحدى اعتقاداتنا أو أفكارنا مشكلا تبعا لما يقتضيه الاستقصاء التأويلي الجديد وعندما تتجلى كفكرة مسبقة، فهذا لا يدل على أنها تترك مكانها لـ"حقيقة نهائية" (vérité définitive) وهي الأطروحة الساذجة للنزعة التاريخية الموضوعانية. هو نسيان أن الاقتناع الذي يفقد مكانه وأن "الحقيقة" تعزلها في الوقت الذي تستقر في هذا المكان الشاغر، هما أحدي الأعضاء لسلسلة غير منقطعة من الأحداث، فالحكم المسبق "القديم" ليس فقط مقصيا. لأنه في الواقع، سيكون له دور هام يؤديه لاحقا وإن كان هذا الدور شيئا آخر غير الذي أداه سابقا، عندما كان مضمرا. ينبغي القول أيضا إن الحكم المسبق المعزول لا يمكنه أن يؤدي دوره الجديد سوى كشيء مستغل لأقصى حد. فإذا كان من المستحيل استبدال اقتناع ما أو عزله كحكم مسبق لأنه بالضبط الاقتناع الآخر الذي يطالب بمكانه لا يمكنه تقديم كتاب اعتماده ما دام الاقتناع المطارد لم ينكشف هو الآخر ولم يهزل كحكم مسبق. فكل وضعية "جديدة" تسعى لتعويض وضعية أخرى تحتاج دوما إليها (كوضعية سابقة)، لأنه لا يمكنها التصريح ما دامت تجهل لأجل ماذا وانطلاقا من ماذا تعارض سابقتها.
نلاحظ هنا بروز علاقات جدلية بين "القديم" و"الجديد"، بين الفكر المسبق الذي يرتبط عضويا بنسقي الخاص من الاقتناعات والاعتقادات، بمعنى الفكر المسبق الضمني والعنصر الجديد الذي يحاول عزله، بمعنى العنصر الأجنبي (الغريب) الذي يتحدى نسقي الخاص أو أحد عناصره؛ نفس الأمر بالنسبة للعلاقة بين اعتقادي "أنا" (mienne) عندما يفقد قوة إقناعه المضمرة بظهوره كحكم مسبق والعنصر الجديد الذي لا يزال في هذه اللحظة خارج نسقي من الاعتقادات ولكنه يصبح الآن منه بظهوره كـ"آخر" حقيقي غير اعتقادي السابق. بتعبير آخر، ثمة علاقات جدلية بين "نسقي" غير الصحيح و"نسقي" الصحيح؛ بمعنى الحكم المسبق المضمر الذي أصبح يعزل كحكم مسبق: أو أيضا بين "نسقي" الذي أصبح صحيحا بفضل الإعلام الذي أصبح ينخرط في نسق اعتقاداتي واقتناعاتي، ويصبح ضمنه الآن؛ مما يسمح بالقول إنه يدخل من خلال معارضته التي يبديها للحكم المسبق المرفوض ويظهر من خلال هذا التعارض "كآخر غريب وأجنبي". الوسيط الشامل لهذه الجدلية هو التساؤل أو الاستفسار. رفض اعتقاد ما كحكم مسبق والكشف في الإعلام التأويلي عما هو مختلف حقيقيا، هو أن يجعل من "نسقي" المضمر "نسقا" صحيحا، ومن "الآخر" غير المماثل "آخر" مماثلا، وهو أن هناك إمكانية متوفرة أو إمكانية جديدة تنكشف عبر التساؤل.
فالتاريخانية الموضوعانية هي نزعة ساذجة لأنها لا تذهب إلى تفكيرها النهائي. تركن غباوة إلى تخميناتها المنهجية، وتنسى نهائيا التاريخية التي تعد عنصرا منها. ينبغي للوعي التاريخي الذي اقترح أن يكون واقعيا أن يعتبر نفسه أساسيا كظاهرة تاريخية. غير أن تحديد أو وضعية الوعي كوعي تاريخي تبقى مسألة شفاهية ما دام الوعي التاريخي غير محقق: بمعنى يجب مساءلته وسبر أغواره جذريا. فثمة فكرة "الموضوع التاريخي" الذي يختزل إلى التلازم الساذج للفكر التاريخي الموضوعاني. فتاريخية الموضوع هي بالنسبة للتاريخانية الموضوعانية عبارة عن وهم ينبغي التغلب عليه: الموضوع "الفعلي" الكائن وراء الأوهام ليس موضوعا تاريخيا-بتعبير آخر، الموضوع التاريخي كما تراه التاريخانية الموضوعانية هو مزيج "لأجل ذاته" و"لأجلنا"، مزيج "الموضوع التاريخي الفعلي" و"أوهامنا التاريخية". التساؤل الجذري يقصي فكرة "الموضوع التاريخي" كما هو موصف كبناء للفكر الموضوعاني، المبرر -أقول جيدا المبرر- بالرغم من أن الأمر يتعلق بتعليل أو تبرير مضمر عبر التاريخية الأصلية للمعرفة والموضوع التاريخيين اللذين يشتركان في القرابة. مفهوم "الوهم التاريخي" (illusion historique) كان نتاج تأويل ذاتوي أو ظاهراتي لهذه الأصالة (originalité): فيما يخص مفهوم "الموضوع الفعلي واللاتاريخي"، ينتج عن تأويل موضوعاتي أو طبيعي؛ وهذان التأويلان يتضامنان ويتكاملان.
ليس فقط المفهوم وإنما أيضا عبارة "الموضوع التاريخي" يبدوان لي غير قابلين للاستعمال. ما نريد تعيينه من خلال هذه العبارة ليس هو "موضوع" وإنما "وحدة" "الأنا" و"الآخر". أذكر مرة ثانية ما ركزت عليه مرارا: كل فهم تأويلي يبدأ وينتهي بـ"الشيء نفسه". لكن ينبغي، من جهة، تجنب التجاهل إزاء الدور الذي تؤديه "المسافة الزمنية"، التي تقع بين البداية والنهاية؛ وينبغي، من جهة أخرى، إجراء تجسيد مثالي "للشيء نفسه" كما تفعله التاريخانية الموضوعانية. فـ"لا-أمكنة" (dé-spatialisation) "المسافة الزمنية" و"لا-أمثلة" (dés-idéalisation) "الشيء نفسه"، يقوداننا إلى إدراك كيف أنه من الممكن معرفة "الموضوع التاريخي" "الآخر" فعليا في مواجهة الاقتناعات والاعتقادات التي تنتمي إلينا، بمعنى كيف يمكننا معرفتهما في الاثنين معا؟ فمن الواضح أن الموضوع التاريخي، بالمعنى الحقيقي والموثوق به للكلمة (authentique)، ليس "موضوعا" وإنما "وحدة" أحدهما ووحدة الآخر. فهو العلاقة بمعنى "الانتماء" الذي يظهر عبره كل من الحقيقة التاريخية وحقيقة الفهم التاريخي. فهذه "الوحدة" هي التي تؤسس التاريخية الأصلية التي يظهر فيها كل من المعرفة والموضوع التاريخيين بالطريقة التي يحترم فيها انتماؤهما المتبادل. فالموضوع الذي يأتينا عبر التاريخ ليس هو فقط الموضوع الذي نحدق إليه من بعيد، وإنما "المركز" الذي يظهر فيه الوجود الفعلي للتاريخ والوجود الفعلي للوعي التاريخي.
أقول إذا إن مقتضيات التفكير في الحقيقة التاريخية -الخاصة بفن التأويل- تأتينا مما يمكن أن أصطلح عليه اسم مبدأ الإنتاجية التاريخية (principe de la productivité historique). الفهم هو إجراء وساطة بين الحاضر والماضي، وتطوير في الذات كل السلسلة المرتبطة بالمنظورات التي يحضر عبرها الماضي ويتوجه إلينا، بالمعنى الراديكالي والشامل، الأخذ بزمام الوعي التاريخي لا يعني التخلي عن النشاط الأبدي للفلسفة، وإنما الطريقة المعطاة لنا لبلوغ الحقيقة المطلوبة. وأرى في علاقة الفهم باللغة الطريقة التي ينفتح فيها الوعي بالإنتاجية التاريخية(1)
ثانيا - التفكيك وفن التأويل: Déconstruction & Herméneutique
إن الحوار الذي أثير بين الممثلين الذين قرروا بصفة محايدة متابعة بادرة الفكر الهيدغري، الحوار الذي أبى إلا أن يكون ثمرة لقاء جمعني بدريدا في باريس هناك سنوات خلت، يتركب من بعض الصعوبات الخاصة. هناك أولا عائق اللغات. فهو يتميز دائما بعظمة هنا أين يحاول الفكر أو الشعر جاهدين للتخلي عن الأشكال التقليدية لسماع الإرشادات الجديدة المقتبسة من لغتهم الخاصة. أرقى درجة تتمثل في اقتفاء أثر هيدغر، لكن هذه الوضعية تنطبق بوضوح أيضا على اللقاء الذي جمعنا في باريس. فطبعته الألمانية تحت عنوان "النص والتأويل" (فنك-فرلاغ، ميونيخ، 1985) تعاني مما عانته المساهمات الفرنسية في نشرتها الألمانية. فيفقد أسلوب دريدا في التفكيك من ليونته.
بالإضافة، لم يساعدنا الفن اللغوي لنيتشه على إيجاد أرضية وفاق بيننا. وهذا ناشئ عن قراءتنا المختلفة لنيتشه. يرى بعضهم في ذلك مهزلة في محاولات ومساعي يؤولونها كنهاية ليس فقط للميتافيزيقا وإنما أيضا للفلسفة باختصار. من هنا، كل المحاولات الأخرى تهدف إلى فهم نيتشه بطريقة أحادية تفقد كل أساس. وعليه ينكر دريدا المحاولة التي يمثلها التأويل الهيدغري لنيتشه. فهو يتهم كل تأويل أحادي لأثر نيتشه على أنه أسير العقل المركزي (logocentrisme) للميتافيزيقا. لم يسلم هيدغر هو الآخر من حلقة الميتافيزيقا. ذهبت إلى حد التسليم بأنه في حالة نيتشه، رغم كل القساوة التي يستعملها هيدغر في قراءته للنصوص الفلسفية أو الشعرية، يبدو لي التأويل الهيدغري في التماسك بين "إرادة القوة" و"العود الأبدي" تأويلا مقنعا وقاطعا. إنني هيدغري بلا منازع عندما أرى في نيتشه الانحلال الذاتي للميتافيزيقا وفي فكر هيدغر محاولة الوصول إلى لغة وفكر جديدين (لا يمكنهما أن يختلفا عما هما عليه). لكن يمكننا أن نتساءل: ألم يكن بإمكان دريدا كتابة الجملة السابقة؟ وكيف أن دريدا لا يمكنه الاكتفاء بترجمة الإضافة إلى الفرنسية بين قوسين؟ فيبدو أن ثنائية الرأس التي يقدمها نيتشه نفسه، قد تكون أرضية مشتركة بين هيدغر ودريدا. سأكون إذن العنصر الضال ضمن الحقول الهزيلة للميتافيزيقا بحملي لمشروع فن التأويل كفلسفة.
طبعا لا يرضيني أبدا مثل هذا الوصف. هل أنا حقا تائه عندما تصورت نفسي تابعا لهيدغر عندما تكلم عن مجاوزة (Uberwindung) أو تحمل (Verwinden) الميتافيزيقا؟ صحيح أنني احتفظت بكلمة "فن التأويل" (herméneutique) كما وضعها هيدغر في صلب فلسفته الأنطولوجية حول الكائن-هنا (Dasein) والذي قرر التخلي عنها لاحقا. لا يعني هذا أبدا أنني أحتفظ أيضا بالأنطولوجيا الأساسية المفكرة في دلالتها المتعالية. فهي فعلا الطرق الجديدة المأخوذة عن هيدغر في كتاباته المتأخرة والتي تتضمن مواضيع الفن والشيء واللغة في بعدها التأويلي والتي سمحت لي بالتأكيد على مساري الخاص. لا أرى حقيقة لماذا أرزح تحت الميتافيزيقا بالمعنى الوجودي-اللاهوتي (ontothéologie) أين أصبحت المجاوزة والاحتمال هما النشاط الفكري كما حدده هيدغر. تعتبر الميتافيزيقا من منظور هيدغر "العقل المركزي" (Logocentrisme) عندما يبهم السؤال "على ماذا تقوم الكينونة" سؤال "هذا" (Là) للكائن (être). عندما يحاول هيدغر عبثا إيجاد الـ"هذا" وسؤال "الكائن" (عوض سؤال ماهية الكينونة) ضمن مفهوم "الحقيقة" (aletheia) عند الفلاسفة السابقين على سقراط، فهذا يؤكد من منظوري أنه اعتبر دائما الفكر الإغريقي كفكر ينحو مسار الميتافيزيقا. فانتهى هذا الفكر إلى النزعة الوجود-لاهوتية (ontothéologie) أين اشتبك سؤال الوجود مع سؤال الكينونة السامية. يتعلق الأمر بهذه الميتافيزيقا التي امتلك اللاهوت المسيحي صورتها والذي سيطر لاحقا لعقود طويلة من الزمن. مع التحول الذي أحدثته النزعة الإسمية (nominalisme) ضمن هذا التراث، فإن سؤال الوجود عموما أصبح غير مفهوم في عصر الانفتاح العلمي. هذا ما اعتقد هيدغر اكتشافه بتحليله للكينونة-الدائمة وما تعود اللاهوت المسيحي اعتباره كعلاقة "لا نهائية العقل" (intellectus infinitus) بنظام جواهر الخلق (les essences de la création). "انطولوجيا الكينونة-الدائمة) هي بلا شك أمر مستهدف عندما يتكلم دريدا عن "ميتافيزيقا الحضور" أين تسيطر قساوة تحليل الزمن من طرف أغسطين وهيدغر.
لقد تجاوز الوجود والزمان (Sein und Zeit) هذا المفهوم للكائن. فهو ينتمي الآن إلى البنية التأويلية للـ"وجود" لكي لا يكون كينونة-دائمة، وإنما وجود -نحو- المستقبل (être -vers-le-futur). عندما أضع من جهتي كائنية الخطاب (l’existential du discours) بجانب الحوار "كمسار حقيقي نحو الكلام (La parole)" وعندما أضع أمام المشهد النور الذي يدعونا الآخر للمشاركة فيه والذي يؤسس ما اصطلح عليه اسم صحة "الوجود-مع" (Dasein). منهجيا، لا أبقى على نفس الوضع الذي ابتدأه الوجود والزمان والذي هو "الوجود-هنا" الذي يفهم لوجوده. في العمق، يعتبر هذا الفهم الذاتي في جميع أشكاله عكس الامتلاك والوعي بالذات. لدينا هنا الفهم الذي يعرض نفسه للمناقشة والذي لا يتأسس فقط على الإنية (La mienneté) التي تظهر بوضوح في مواجهة الموت وإنما التي تشتمل أيضا على تحديد الذات من قبل الآخر الذي يتأسس ضمن حوار اللغة. أن يكون هناك دائما الحوار -مهما كانت طبيعة المكان والموضوع والمخاطب- حيثما يطرأ شيء ما على اللغة، أن تكون هذه الغيرية (altérité ) لشيء أو لكلمة أو لشعلة (غوتفريد بين Gottfried Benn) ذلك هو الذي يؤسس عالمية التجربة التأويلية. اعتبارا لمزاعم الفهم، ليس هناك أي تناقض في القول بأن تجربة الفهم هذه تنطوي على حدودها الخاصة. بالعكس تماما، عالمية التجربة التأويلية ترتبط بكل تأكيد مع تحديد حقيقي لكل تجربة إنسانية ومع الحدود المفروضة على تواصلنا اللغوي ومع إمكانية التعبيد. هو أن حياة الحوار ترتكز -كما بين ذلك هابولت Humboldt- على دلالات متموجة والاتفاق على أنه ثمة عدم تفاهم ضمن كل فهم وأننا نتفاهم دائما لنفتح مجال إمكانية "التبادل"، كما هو الأمر مع توقيع عقد أين يتنازل الطرفان. أخيرا، ما يميز خصوبة الحوار المتمثل في القراءة (تلك التي تبحث عن الفهم) هو أن "النص" في حد ذاته يتحدث عن شيء ما. مثلا الشعر كمعاهدة قسرية بامتياز، بدون الإحالة إلى "المؤلف" ولا إلى صوته، وإنما إلى عمق المعنى والرنين (الدلالي) الذي يفلح القارئ في سماعه.
يتبع ذلك أن الحوار الذي هو نحن بالذات لا يتقيد مطلقا بنهاية. فليس هناك كلمة أخيرة مثلما لم تكن هناك كلمة أولى في هذا السياق. كل لفظ هو في حد ذاته جواب ويعني دائما إعادة طرح سؤال. لا أتبع دريدا عندما يؤكد على أن التجربة التأويلية لها علاقة بميتافيزيقا الحضور، بل وينال حتى من حيوية الحوار. يتكلم هيدغر وبتوضيح نقدي عن "سطحية الإغريق" اعتبارا لتجربتهم العينية ولمفهومهم حول الفكرة (eidos) ولتسويتهم بين اللوغوس ومنطق الخطاب الشعري. كان بإمكاننا نعت ذلك بنزعة العقل المركزي (Logocentrisme) واستخدام هذا النعت للتعبير عن الارتباط الوثيق الكائن بين كيركغارد ولوثر والعهد القديم انطلاقا من أن التجربة اليهودية-المسيحية للإيمان تلقت عزمها على سماع صوت الإله. لكن اعتبار نقد العقل المركزي عقلا مركزيا آخر، هو حسب نظري تجاهل لسر اللفظ. هو أنه يتعلق الأمر دائما بلفظ نطقه شخص وإن شخصا آخر يفهمه. ماذا يستلزم هذا من فكرة الحضور؟ ومن يسمع إذن صوته الخاص؟ يبدو لي أن النقد الذي وجهه دريدا لهسرل (Husserl) فيما يتعلق بالمبحث المنطقي الأول وحول مفهومه للإعلان (l'annonce) في كتابه القيم "الصوت والظاهرة" (La voix et le phénomène) قاده إلى افتراض خاطئ. يبدو لي أنه افتراض يحمل نتائج غير مرضية تجاه هيدغر وفن التأويل.
لا يمكنني تجاهل التقارب الكبير بين الخطاب (discours) والمكتوب (L'écrit) المتواري خلف قدرات اللغة في صيرورتها كتابة. أعتبر أيضا كل لغة كـ"مسار نحو الكتابة" (لإعادة العنوان الذي عنونت به محاولة قمت بها سنة 1983). لكن ماذا تعني الكتابة إذا لم تكن مقروءة؟ أقتسم بلا شك مع دريدا القناعة التي تعتبر أن النص مستقل عن مؤلفه وعن قصده. عندما "أقرأ" فإنني لا أحاول إعادة سماع الصوت المألوف للآخر. بالعكس، لقد علمتنا التجربة أن النص المألوف لدينا قد يبدو لنا غريبا عندما يقرأ بصوت المؤلف الذي كتبه. صحيح أنه لا أستطيع فهم النص إذا كانت الإشارات المكتوبة ليس فقط مفككة ومحولة إلى أصوات، ولكن أيضا في الحالة التي يصبح فيها النص ناطقا، ومعنى ذلك أنه مقروء بتغيير وتعزيز وتشديد المعنى. فن الكتابة -وهذا أمر لا يخفى على أكبر كاتب في مستوى دريدا- يتجلى في سيطرة الكاتب على عالم الإشارات المؤسس من جملة النصوص بحيث تكون عودة النص إلى اللغة أمرا يقع بمفرده. في العصور الحديثة، يتعلق الأمر غالبا بلغة مجردة عن الصوت، ولكن هذه اللغة تتكلم أيضا عبر اللعبة العجيبة المتبادلة بين المعنى والصوت التي تميز الكتب المكتوبة جيدا والتي تجعل الشعر ضمن حقل "الأدب". أريد حقا أن أعرف ما شأن الفهم والقراءة بالميتافيزيقا. أقول أيضا إن الفهم هو دائما الفهم بنمط آخر (Comprendre autrement). لكن لا يمكننا أبدا تثبيت كل ما يتحرك ويختلف ضمن هوية صارمة، عندما يلتحق كلامي بالآخر وأيضا عندما ينضم النص إلى قارئه. هنا أين نجد الفهم، فليس ثمة فقط هوية أو تطابق. الفهم معناه أنه بإمكان الشخص أن يقيم في مكان شخص آخر ليعبر عما فهمه وما يمكنه قوله بهذا الشأن. هذا لا يعني بوجه من الوجوه أنه يعيد ما قاله. الفهم هو، بالمعنى الحرفي للكلمة، تمثل سبب الشخص الآخر أمام المحكمة أو أمام أي دعوى أخرى، كفيل لضمان نفسه.
غير أن دريدا سيعترض بلا شك أني لا آخذ نيتشه بعين الاعتبار، بمعنى أفول أو نهاية الميتافيزيقا، القطيعة التي توهم كل هوية واتصال مع الذات مثلما مع الآخرين. تلكم هي أوهام العقل المركزي التي لم يفلت منها هيدغر كما تبين ذلك من خلال قراءته لنيتشه. كل هذا هو من نتاج هيجل بمعنى من نتاج الميتافيزيقا. طموح هيجل هو أن يوفق جدليا القطيعة مع الغيرية (كل غيرية) بغية الحصول على معرفة الذات ضمن الكائن-الآخر. بيد أن هذا الأمر يختزن الإنجاز الأخير للميتافيزيقا، لكنه لم يعد مألوفا منذ نيتشه. كل خطاب يتحدث عن المعنى وعن استمرارية المعنى لا يمكن اعتباره سوى بقايا الميتافيزيقا. هكذا يؤدي مجهودي في فن التأويل إلى الوقوع ثانية في المثالية عندما يدرج تجربة الفن في اتصالية الفهم الذاتي. هوية الذات هي في الحقيقة وهم. يبدو أننا نجد هنا تصورا خاطئا عن فهم الذات. يمكنه أن يرضى بعدة آراء متضاربة، لكن عبارة فهم الذات تبدو لي عادية وخاصة أنني استعملتها باستلهام من اللاهوت البروتستنتي الحديث وأيضا باتباع التراث اللغوي لهيدغر. هذه العبارة تدل على أن المسألة لا تتعلق باليقين الراسخ تجاه الوعي بالذات. عبارة فهم الذات تتضمن أن الإنسان لا يفلح أبدا في فهم ذاته، بحيث إن فشل هذا النوع من الفهم واليقين بالذات يفتح سبيل الاعتقاد (la foi). نفس الأمر يتعلق بالاستعمال التأويلي للعبارة. فهم الذات هو أمر لا يمكن تحقيقه، عملية يعاد فعلها لتصطدم دائما بالفشل. الإنسان الذي يحاول فهم ذاته بغية تحقيق وجوده يجد نفسه أمام عدم الفهم الجذري للموت. أتساءل إذن: هل هذا هو مسار الميتافيزيقا؟ هل هذا هو العقل المركزي؟
نصل إلى المشكل الرئيسي الذي يصحب كل نشاط تأويلي والذي يجد نفسه بدون شك مصدر القلق الذي يستشعره دريدا من محاولاتي الفكرية: فن التأويل يحاول جاهدا الاعتراف بالغيرية كما هي والآخر كآخر وأثر الفن كتصادم والقطيعة كقطيعة واللامفهوم كما هو، ولكن هل يبالغ في التسليم بالتفاهم والاتفاق؟ هذا هو العتاب الذي وجهه إلي "يورغن هابرماس" (J.Habermas) بطرحه لظاهرة التفاهم الملتبس الذي يحول الاتفاق إلى مجرد وهم وخداع وربما أيضا إلى استعمال تمويهي. يذهب اتهامه بدون شك نحو اتجاه آخر، نحو تبرير سياسي، ولم يكن الهدف هو التساؤل عما إذا كان هناك فعلا الوقوع في ميتافيزيقا الحضور. لكن عمق القضية لا يتغير. يعرفنا "لفيناس" (Lévinas) كيف أن هذا الاعتراض يمكنه أن يكون جديا، حتى بالنسبة للذي لا يدافع عن خيار سياسي. فأنا جد واع بأن الجهد المبذول قصد الفهم يعرض نفسه دوما لخطر الاستهواء عبر الرغبة في الإفلات من الاختيار والذي نجد أنفسنا من خلاله ككائنات فعل (action) ينبغي لها أن تحيا جماعيا.
فليس عبثا أو بدون قصد إذا أشرت هنا إلى كيركغارد. أعترف أن تكويني الخاص استمد إحدى بصماته من التعارض الكيركيغاردي لحقلي الأخلاق والجمال. تتواجد فضلا عن ذلك في صلب خياري التأويلي لصالح الاتصال المخطط سلفا والمرسوم في هيئة المساعد غيوم (Guillaume) في الخيار. يتعارض فيه الاتصال الأخلاقي مع الفورية (L'immédiateté) الجمالية واللذة الجمالية ومع النقد الذاتي الأخلاقي لإرادة -الحصول- على-وعي (vouloir-avoir-une-conscience). عندما استوعبت هذا لأول مرة في سن التاسعة عشرة، كنت أبعد ما يكون عن إدراك مشكل "الوساطة" (médiation) اللانهائي للتفكير الهيجلي الذي كان يجول هنا. لكن، سيكون لي كل الوقت لإدراكه.
أستطيع الآن فهم النعوت التي وصفت على إثرها محاولتي التأويلية كفن التأويل الجدلي (herméneutique dialectique). ليس فقط أفلاطون، وإنما أيضا هيجل الذي أعتبره قد أعانني في ميدان الفكر، ولكنني أحاول جاهدا مقاومة "وساطته اللانهائية". لا يشك دريدا لحظة واحدة في وجود ميتافيزيقا الحضور في كتاباتي ما دمت أتكلم بـ"لغة ميتافيزيقية"، ثم أليست هذه اللغة هي لغة جدلية؟ هذا ما ألاحظه أيضا في النقد الذي مارسه دريدا تجاه هيدغر عندما يعتبر أن هذا الأخير وقع مرة ثانية في اللغة الميتافيزيقية. ألم يقل هيدغر نفسه إننا مهددون في الوقوع في اللغة الميتافيزيقية؟ حقا، لقد قالها أيضا بشأن استقبالي وتطويري لمنطلقه "التأويلي".
أتساءل من جانبي ماذا تعنيه عبارة "لغة الميتافيزيقا". هل ثمة شيء من هذا القبيل؟ فما أخذته عن المجهود الضخم لفكر هيدغر الشاب وخصوصا أنني توجهت سذاجة نحو التراث المفاهيمي للكنطية الجديدة، هو أن المنطق الهيجلي اشتغل كمهنة زودت بعض الآليات التي استعان بها كل من ترنديلا بنورغ، كوهن، ناتتووب، كاسيرر ونيكولاي هارتمان-وما تعلمته من هيدغر أيضا هو المعنى الذي اتخذته "المفاهيمية" (La concenptualité) والذي تتخذه في ميدان الفكر. وما تعلمته خصوصا هو: كل اغتراب الذات الذي يختفي في التراث المفاهيمي للفكر الحديث. عندما التقيت بهيدغر، اتبعت في الحال أسلوبه الغامض في الهدم. انسجم هذا أيضا مع طموح رافقني مع مجهوداتي الأولى في الفكر الموجهة نحو كلمة شاعرية (poétique). سمحت لي بالإضافة الدراسات المحضرة في ميدان الفيلولوجيا من تعزيز مجهودات الفكر هذه في ميدان تاريخ المفاهيم. غير أنه لم يكن بإمكاني متابعة هيدغر أو أي مفكر آخر عندما تكلموا عن لغة الميتافيزيقا أو اللغة "الصحيحة" للفلسفة ولاشياء مماثلة. ليس هناك سوى لغة واحدة، تلك التي نتكلم بها مع الآخر ونتوجه إليه. عندما نتكلم لغة أخرى غير لغتنا الخاصة، فإن المسألة تتعلق ثانية بلغة معبرة مع الآخر والتي من خلالها أصغي إلى الآخر. كل واحد يعلم إلى أي حد يصعب إدارة حوار بين متحاورين من لغة أجنبية عندما يتكلم كل واحد منهما بلغته الخاصة وإن استطاع أن يفهم أحدهما الآخر نسبيا.
عندما نتكلم عن لغة الفلسفة، فلا نفكر سوى في المفاهيم التي تتبلور في تجربة الفكر المتجه نحو الكلام. صحيح أن المفاهيم تختار وتحدد في العلم كعلامات أو رموز. فلهم بذلك دلالة تواصلية بحتة بحيث تعين التجربة بطريقة أحادية المعنى وتصبح بذلك مراقبة. يسمح هنا التحقيق والترميز أحادي المعنى بتكرار التجربة. تجد خدعة هذه الرمزية (Symbolique) المفاهيمية الخاصة بالعلوم تعبيرها الأقصى حيث يمتد هذا الأسلوب إلى المعطيات المعقدة والواقعية للتجربة التي لا يمكنها أن تكون منتجة ومكررة مثلما جرى هذا في تجربة العلوم الطبيعية. حالة العلوم الاجتماعية خصوصا، أين تسود لغة عالمية (Lingua internazionale)، هي التي تنطبق على هذه الوضعية. الموسوعية الذكية لماكس فيبر (M.Weber) قد رافقها إفراط فعلى من التعريفات. نعترف أن هذا الأمر معقول حيث تتعلق المسألة بتصنيف معطيات التجربة. لكن عندما يتعلق الأمر بالفلسفة فإن رغبة التحديدات تخون بالأحرى الهاوي. ينبغي للفلسفة أن تنصت إلى الحكمة القديمة التي تتكلم عبر اللغة الحية. لقد قارن أفلاطون هذه المسألة -بطريقة غير رومانتيكية- مع فن الطباخ الجيد الذي يقطع لحم الصيد وفق المفاصل دون نشر العظام (فيدروس).
لقد تطورت الفلسفة بالمعنى الغربي للكلمة عند اليونان، مما يسمح بالقول إنها استمدت "مفاهيمها" من لغتها الخاصة. لكن اللغة هي دائما لغة الحوار. فمن يستطيع أن ينكر أن استعمال اللغة المنطوقة من طرف الناس لم تفتح لهم بعد الطريق نحو فكرهم الخاص؟ قائمة المفاهيم في كتاب دلتا لميتافيزيقا أرسطو هي صورة ممتازة تعبر عن تطور المفاهيم انطلاقا من الاستعمال (usage). فتحليل مختلف دلالات الألفاظ كما يقدمه أرسطو يهدف إلى تشكيل المفاهيم الأساسية الخاصة بفكره. إنه يحتفظ في نفس الوقت بالعلاقات العميقة التي تربطه باستعمال الألفاظ. تعتبر قائمته المفهومية كتعليق حي لمفاهيم فكره الأساسية. بيد أن الاغتراب الذي طرأ عن المفهومية (conceptualité) الإغريقية أثناء ترجمتها إلى اللاتينية واندماجها في اللغات الحديثة، يجعل من التعليق تعليقا غير منطوق. فهو بذلك يطرح نشاط الهدم. لكن كلمة هدم (Destruktion) عند هيدغر لم تعن أبدا الهدم الخالص والبسيط وإنما اتخذت معنى التفكيك (démontage). فهو يقترح رد الأشكال المفهومية المتحجرة إلى تجاربها الأصلية للفكر بغية استنطاقها من جديد. فلا يهدف هذا الهدم إلى الإحالة على أصل مبهم، أصل (archè) بالمعنى الذي نريده. يتجلى هنا سوء تفاهم محتوم اعتدنا إبرازه ضد هيدغر الأخير. فيما يتعلق بالهدم الجزئي الذي كمله هيدغر لمفهوم الذات وتجديده بمفهوم الماهية وبالفهم الإغريقي للوجود ككائن -دائم-étant subsistant، ينبغي النظر إلى أن هذا الهدم لمفهومية ميتافيزيقية سمح لهيدغر بتعبيد الطريق لفهم أفضل لتجربتنا المعاصرة للوجود وللكائن.
يمكن متابعة كلمة المرور للهدم ضمن قصد وأهداف مختلفة جدا. سيكون دوما نقد المفاهيم التي لا تقول شيئا. يجري الهدم الهيدغري لمفهوم الذات المحال على الكلمة الإغريقية: Hypokeimenon ضمن قصد خاص. لكنه لا يهدف أبدا حتى عند هيدغر إلى تصحيح الاستعمال اللغوي. فحسب نظري، هو تجاهل جوهر المفاهيم الفلسفية أكثر من أن يكون توقعا لما يفرضه الاستعمال المبحثي لكلمة محددة جيدا من سلاسل حقيقية للاستعمال اللغوي الذي يستند إليه الخطاب الفلسفي أو ذلك الذي حدد في النص الفلسفي. لا يزال في أذني رنين الأسلوب المقدس الغامض الذي أعلنه لي أساتذتي الجامعيون عندما كنت مبتدئا وهو أن غموض الألفاظ "السامية" و"المتعالية" قد خان الاستهواء الفلسفي. لقد وضع كنط دفعة واحدة ونهائيا حكم هذا الغموض. أجرؤ على القول اليوم إن في هذه النقطة بالضبط يعتبر كنط في حد ذاته هاويا فلسفيا. فليس من النادر أن يستعمل نفسه مثل الجميع لكلمة تعالي transcendantal بمعنى السمو transcendant. نفس الأمر يحدث بالإغريقية مع مفهوم الفكر أو التفكير phronesis. يتعارض الاستعمال الشائع للكلمة مع التحديد اللفظي الذي فرضه أرسطو دون أن يعارض هذا الأخير الاستعمال الشائع. فمن الخاطئ إذن محاولة استخلاص نتائج كرونولوجية (زمنية) لاستعمال هذا اللفظ عند أرسطو. فهو برهان بينته فيما مضى ضد "فرنر ياغر" (Werner Jaeger). ينبغي أن يمنح لي شيئا مماثلا. عندما أواصل التكلم عن "الوعي" وخصوصا "الوعي بالعمل التاريخي" فلا يعد هذا إيمانا لا بأرسطو ولا بهيجل. فالمهم هو معرفة أن الوعي ليس شيئا (res). لهذا السبب، ليس من الضروري تطهير الاستعمال اللغوي لكل المفاهيم "العقلية". هكذا يمتلك النقد المعروف للمفاهيم "العقلية" أو الذهنية عند فتجنشتين وظيفة برهانية تذهب وفق براغماتية اللغة ونقد الدوغمائية في ميدان علم النفس. لكن فتجنشتين نفسه لم يكتب بلغة خالصة من الشوائب. فالسياق العام هو الذي يبرر الاستعمال اللغوي.
هدف الهدم هو السماح للمفهوم أن يكون منطوقا داخل نسيج لغة حية. هنا يتجلى نشاط فن التأويل. فلا علاقة له بالاستحضار المبهم والغامض للأصل (origine) وللأصلي (originel). لقد علمنا هيدغر مثلا كيف يمكننا الاعتراف بحضور الملكية (propriété) وبحضور الأويكوس (oikos، المنزل) في كلمة أوزيا (ousia، الجوهر)، وهو ما سمح بنفوذ جديد في الفكر الإغريقي حول الوجود. لا علاقة لهذا الأمر بالرجوع إلى أصل سري (حتى وإن وقع أحيانا لهيدغر التكلم سريا عن صوت الكائن). سمحت هذه اللمحة في الفكر الإغريقي لهيدغر في التحرر من الاغتراب المدرسي (scolastique) ليجد نفسه بوضعه على طريق مبحث الوجود والزمان (Sein und Zeit) حتى النتائج النهائية الخاصة بزمانية الكائن (La temporalité de l'être) التي اصطلح عليها لاحقا اسم الحدث المتوافق أو المناسب (Ereignis). كان بإمكان كل هذا الأمر أن يدرك على طريق هدم تراث المفهومية المتحجرة. فثمة تساؤل آخر لمعرفة السبب الذي حث هيدغر على إثارة المفهومية المتحجرة، بمعنى ضمن أي بؤس خاص باشر هيدغر هذه المفهومية. فمن المعروف أنه كان مبررا بالشكوك التي شارك فيها "فرانز أو فربيك" Franz Overbeck" حول موضوع اللاهوت المسيحي. لقد أخذ هيدغر عن لوثر أنه إذا كان من المفروض الرجوع كل مرة إلى أرسطو، ينبغي في النهاية إنكار أرسطو.
أن تكون مسارات فكره الخاصة قد استعادت قوتها من الطاقة الشاعرية لهولدرلين (Hölderlin)، فهي جرأة محفوفة بالمخاطر. فمن السهل جدا أيضا أن نحاكي بعض الاستعارات مثل "صوت الكائن" وأن نرى في ذلك بطلانا عاطفيا أو فراغا بسيطا. لكن تحتاج المسارات الجديدة للفكر إلى إشارات جديدة لتصبح مسارات. فالذي يبحث عن مثل هذه المسارات فهو يترصد العلامات أينما وجدها. فلا أتصور أنه سقوط ثان في نزعة العقل المركزي للميتافيزيقا الإغريقية عندما التفت إلى الجدل الأفلاطوني المفتوح وعندما حاولت اتباع هيجل في تجديده النظري واعتماده على أرسطو. هكذا اتبع أفلاطون (ولكن أيضا برمنيدس كما أقربه في الأخير هيدغر) العقل نفسه إذا استيقن بضعه غير المضبوط. لكنه لم يتخل عنه ذلك جسدا وروحا. هو أن مجهوده الجدلي والجدلي-الحواري (dialogique) المستمر استطاع دوما الحفاظ على السر الأعلى للحوار بحيث لا تكتفي المتابعة بتحويلنا، وإنما تدفعنا دائما نحو أنفسنا بتشابهنا مع أنفسنا. إذا استطاعت الطاقة الشعرية الأفلاطونية إكمال ما فعلته سابقا، بمعنى أنها حاضرة من جديد لكل قارئ، هو أن أفلاطون نفسه قد أتم هدم الألفاظ المتحجرة -وفي معظم أساطيره، تعلق الأمر بتفكيك محتويات فقدت طاقة اندماجها- وهذا الهدم هو الذي يحرر الفكر.
لا ننفي حتما أن الأسلوب الغامض للـ"لوغي" (Logoï، عقل، كلام) لا يبطل استعماله أبدا والذي يلتزم طريق البرهنة (argumentation) المنطقية والجدلية، قد رصف الطريق لتاريخ العقلانية الغربية. هو مصيرنا التاريخي جميعا كوارثين عن الغرب من أن نجد أنفسنا مجبرين للتكلم ضمن لغة المفهوم التي تعتبر أن هيدغر، رغم محاولاته الشعرانية (poétisantes)، اعتقد رؤية الشعر والفكر مع هولدرلين "على جبال بعيدة جدا". يشتمل هذا المصير على مقامه الخاص. لا يمكننا أن ننسى أن الفصل بين الفكر والشعر هو شرط إمكان العلم ودعا الفلسفة إلى ممارسة نشاطها المفهومي، حتى وإن كان هذا المشروع الفلسفي يبدو مرتابا في عصر العلم. لا أتوصل حقيقة إلى رؤية ماذا يعنيه التفكيك عند نيتشه أو عند دريدا بعزله لهذا التاريخ.
الهوامش
(*) Esquisse des fondements d’une herméneutique.
(**) Déconstruction et herméneutique.
(*) العناوين الفرعية من فعل المترجم.
(1) الاستلزامات النسقية لفن التأويل التاريخي كما قدمت خطوطها العامة هنا والمكانة التي تحتلها اللغة كظاهرة قد أوضحتها كلها في القسم الثالث من كتابي الحقيقة والمنهج: الخطوط الكبرى لفن التأويل الفلسفي، باريس، لوسوي، 1978.
المجلة العربية للعلوم الادبية