الدلالة بين المقصدية والتأويل قراءة في تأويل النص الديني ـــ د.منقور عبد الجليل ـ الجزائر
تمهيد :
إن الاحتياطات المنهجية، والتي ترافق كل ممارسة تأويلية، أفضت إلى اعتبار المعنى في الخطاب مكتشفا وليس جاهزا، ذلك لأن تحليل النسق الخطابي الذي ورد في إطار مشكل أو متشابه، يمر عبر تحديد الطرق الموصلة للمعنى أو الحكم. وتلك الطرق قد ترتد إلى ما هو نسقي وإلى ما هو سياقي، بل إن الأمر قد يبدو معقدا جدا في أثناء إجراء تفاعل بين نص القراءة –نص الخطاب المؤوَل- ونص القارئ المؤوِل نص البيئة المعرفية والثقافية. إذ تلك الاحتياطات تستوجب استحضار كيفية إنتاج المعنى وطرائق تداوله، ووظائفه العلائقية، التي يمد بها طرقا إلى عالم المراجع أو عالم الإحالات..
إن من التحليلات الإجرائية التي جعلت الخطاب الشرعي، خطاب لغة وليس خطاب معنى، أنه يقدم مفاتيح نسقية على مستوى سطح التركيب لاكتشاف بناه العميقة المشكلة من حقول دلالية متجانسة، وإن الرابط بين السطح والعمق في التركيب الخطابي هو ما يسمى في حقل تحليل الخطاب المعاصر بـ "الإرغامات النسقية" وهي تعني جملة التراكيب التي تنسل من التركيب النسقي لنص الخطاب الشرعي، مع اختلاف في حقلها الإحالي، ثم إن عملية التشكل والتشكيل التي طبعت جدل النص مع الواقع، طرحت مسألة مراعاة مقتضيات التخاطب، من قبل الخطاب القرآني على الخصوص، فيما يتعلق بالمجتمع الأول الذي تلقى الوحي،وعبر عصرئد عن تفاعل حقيقي بين خطاب اتخذ معجم البيئة المعايشة معجما خاصا له، وبين بنية معرفية لا زالت مشدودة إلى معجمها القديم وقد عبر ابن قتيبة*عن هذه الخاصية الجديدة التي بها خطاب النص الجديد فيما أورده من قول الصحابة للرسول عليه (صلى عليه وسلم ):يا رسول الله إنك تأتينا بالكلام من كلام العرب ما لا نعرفه ونحن العرب حقا.
إذن بين ما عرفه العرب في بيئتهم اللغوية، وبين ما لم يعرفونه دلالة ومعنى، نشأ جدال داخل الخطاب القرآني نفسه منطلقه: الأساس الذي بنى عليه النص القرآني معجمه، وهو أساس المنظومة اللغوية العربية القديمة، والمرمى الأبدي الذي سيج به القرآن حقوله الدلالية ليعبر عن وقائع لم ترد بعد، فكان التعارض بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية، من جهة، وبين الدلالة اللغوية والدلالة العرفية من جهة ثانية، كما نشأ جدال علمي بين الأصولين في دلالات حروف الربط والوصل، وما تعلق بها من اختلاف في طرائق الاستنباط وتحديد الدلالة.
- التأويل ومقصدية الخطاب:
إن الخطاب القرآني- في المنظور الأصولي - يعتمد أساسا على أفانين اللغة العربية وما فيها من أصناف أساليب التعبير عن المعنى، وعن معنى المعنى، كما أشار إلى ذلك عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"(1) ، وهذه الخصوصية المتميزة في اللغة هي التي رشحت الخطاب القرآني لكي يفتح على التأويل، وأن أساس هذا الانفتاح ،هو ما في أساليب التعبير اللغوي من صنوف المجازات والصور البلاغية، التي تجعل اللغة التي أنزل بها القرآن الكريم تفرض الظاهرة التأويلية في معانيها واستدلالاتها. وبيان ارتباط هذه الظاهرة بالنص القرآني على وجه الخصوص – "بأن التأويل بدأ مع التفسير وجعله هذا ،يتعلق بالدلالة اللفظية، والتأويل بهذا المفهوم لم يفرض، ولم يكن وليد اتجاهات عقلية، وإنما هو ظاهرة استوجبتها خصائص اللغة العربية، وما تتميز به من كثرة الوجوه، وحسن المطاوعة، ولا حيلة لأحد في دفعه (أي التأويل) ما بقيت اللغة"(2).
لقد ظهر التأويل في الثقافة الإسلامية أول ما ظهر لسد ثغرة كان الرسول – عليه الصلاة والسلام- يملأها إذ كان هو الشارح المفسِّر، والمؤوِّل المفتي، وقد بدا التأويل في أول الأمر حرجا، ثم تطور مع تطور الأحداث في العصر الأول وبروز أحزاب وشيع استعملت التأويل أداة لخدمة مذهبها، وترويج اتجاهاتها التي كان لها خطرها على الفكر الإسلامي(3).
وقد كان تبرير بروز الظاهرة التأويلية، هو السياق التاريخي العام الذي استدعى مزاحمة العقل للنقل، وكذلك البنية المعرفية للعقل العربي التي امتلكت وسائل المحاورة والمجادلة، وغدت بذلك خطابا تتمظهر فيه أصول المعرفة الخاصة بذاك الزمن، بل غدت بنية سطحية لبنية عميقة هي المعرفة المتحكمة في التمظهر اللفظي والدلالي للخطاب.يقول محمد علي الكبيسي في جدلية الخطاب والمعرفة "لكل حقبة زمنية خطابها الخاص الذي يصوغ ابستيميتها، ويصوغها في الوقت نفسه، هكذا يغدو الخطاب متنقلا معدلا، ومعيدا لتوزيع هذه العلاقة، منبعثا بنظامه الذي لا يعدو أن يكون نظام المعرفة ذاتها"(4).
إن إجراء تحليل للخطاب، يتأسس بداءة على النسق الذي صيغ ضمنه هذا الخطاب، لأن ذلك مدعاة للوقوف على المنظومة المعرفية التي أنتج فيها، وأخذ من محيطها العلمي آلياته وأدواته في تصريف المعنى، ذلك أن كل إقصاء للسياق التاريخي من تحليل الخطاب، هو إبعاد للنواة المركزية التي تشد إليها نسق الخطاب، وتعيّن له حقله الدلالي. يقول خاليد السبكي حول هذه الفكرة:" فتحليل الخطاب لا يستند إلى أسس ميتافيزيقية فضفاضة وغير محددة، وإنما يستند إلى تلك النتاجات.التي تتجسد تحديدا في الممارسة اللغوية التي يتم من خلالها التعبير عن المنظومة المعرفية للعصر الذي تم فيه إنتاج هذا الخطاب"(5).
هذه الممارسة اللغوية التي تعد مرجعا لمنظومة الخطاب ، تتحاور في وجودها وعدمه، مع البنية المعرفية التي تعمل على إظهار مقومات في لغة الخطاب، وتخفي أخرى، بحيث يسلك التأويل طريقه ليربط الدلالة بعلة وجودها.
إذ ثبت لدى علماء الأصول أن الحكم الدلالي في الخطاب الشرعي يدور مدار علته وجودا وعدما، وهو يقترب إلى مفاهيم محللي الخطاب المعاصر، إذ يقول ميشال فوكو في هذا المجال:"أن نسائل اللغة لا في الاتجاه الذي تحيل إليه، بل في البعد الذي يقدمها لنا كلغة"(6). وهي إشارة إلى أن الخطاب يوظف كل قدرات اللغة للوصول إلى البعد الدلالي المراد، مع العلل النسقية والمنطقية التي تسند طريق الوصول إلى هذا البعد.
إن اعتبار الخطاب التراثي ذا خصوصية تاريخية، يقود إلى ضرورة التعامل معه بمنطق التاريخ، ويعني ذلك قراءة إنتاجية، للخطاب في إطارها الزمني، وهذا لا يسوغ حصر دلالات هذا الخطاب في ذلك الإطار، وإنما المنهج التاريخي المعاصر يفيد أن الخطاب التراثي في ابستيميته الثقافية، لازال يمثل التأثير الظاهر في كل معارف العصر، وليس لذلك من تفسير إلا لأن الخطاب التراثي يملك سلطة يمارس من خلالها هذا التأثير، على الرغم مما تحمله آليات الرؤية الجديدة لهذا الخطاب إن على مستوى المنهج أو على مستوى البنية المعرفية. يقول خاليد السبكي وهو يعاين تاريخانية الخطاب:" فهو (أي الخطاب التراثي) ينتمي إلى التاريخ. ولا يمكن النظر إليه إلا من خلال تاريخانية جديدة (...) لأنه يمثل قطعة من التاريخ أنتج في زمن مضى.
وظل يحمل مجموعة من المرجعيات الثقافية التي كان يشكلها السياق الثقافي العام الذي كان وراء تشكل كل الممارسات الثقافية"(7) هذه الجدلية المنتجة، عبر قراءة تاريخانية جديدة للخطاب التراثي، تكتسب آلياتها الإجرائية في بعث روح جديدة في الخطاب، من وسيلة التأويل، التي ترمي في أخص أهدافها إلى ربط دلالة الخطاب في إطاره التاريخاني، بدلالته الجديدة في إطاره القرائي الحديث،ضمن حركية ثقافية اجتماعية تؤسس لفعل الفهم والإفهام، وقد عد (غادامير) الفهم والتأويل جدلا بين الماضي والحاضر،ويكون ذلك في كيفية تداول المعنى في الماضي وفق بنية دلالية معينة من جهة أولى، وفي تبيان رد فعل القارئ في الحاضر حيال الرسالة الخطابية الموجهة إليه من جهة ثانية(8). وهذا ينطبق على الخطاب القرآني في إحداث هذه الجدلية الإيجابية بين نص القارئ ونص القراءة لدى الوعي المعرفي المعاصر، إذ أشار إبراهيم أنيس في معرض حديثه عن دلالات الألفاظ، إلى أن القرآن الكريم، أضحى مع تقادم الزمن يطلب قراءات وتفسيرات جديدة، وهذا ما أتاح للعلماء الكتابة حول ظواهر لفظية ودلالية داخل النص القرآني تتعلق بالمنهج الجديد الذي صار يطبق على فهم الخطاب الشرعي، انطلاقا من إبراز مفاتيح للفهم والتأويل، كالخطاب الظاهر والخطاب الباطن، والحقيقة والمجاز،والطبيعة العلائقية بين العلة والحكم في النص، من أولئك العلماء أبو عبيدة في كتابه "مجاز القرآن" وابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" .
وغيرهما من الكتب، وقد اتضح لأصحاب هذه الكتب أنه لا يمكن فهم ألفاظ القرآن إلا بعد التعرف على أساليبه، وما يمكن أن ينطوي وراء تعبيراته من المعاني والمقاصد(9).
2-متعلقات تأويل المقصدية :
إن الخطاب القرآني الموغل في التشابه، يشكل نسقه التعبيري على نحو مشكَل، ليقابل بذلك إشكال الواقع المتعدد والمختلف،وبذلك، واجه العلماء هذا الإشكال المزدوج ببيان وسائل التقريب بين النسق الذي يبدو ثابتا والواقع المتغير والمتسارع، وهو بيان عماده التأويل ويتفرع إلى ثلاثة وسائل:
إما أن يبيّن الخطاب المتشابه نفسه بواسطة ما يوفره من أدوات التأويل، كإسناد النص الدال على الخصوص غير المبين إلى النص العام، أو العكس.
وإما أن يبيّن الخطاب المتشابه بقرائن خارجة عن سياقه اللغوي، إلا أنها لازمة له عقلا وتاريخا.
وإما أن يبين الخطاب المتشابه، بنفسه، من جهة إلا أنه بيان ناقص يحتاج إلى قرائن راجحة تعود إلى النسق أو المنطق أو إلى كليهما. يقول السيد عبد الغفار مجملا هذه الوسائل:" ويصبح الموقف أمام أسلوب الخطاب. إما أن يعرف هذا الأسلوب بنفسه، وإما أن يعرف بنفسه وغيره، وإما أن يعرف بغيره"(10). ومع ذلك فإن التأويل لا يوصل إلى اليقين الدلالي المحايث للعصر، إلا إذا كان إسناده على دليل قوي يعضد به الحكم ويرجح به الدلالة بحيث إذا ما أجريت عملية استبدال لدلالة اللفظ بالدلالة المؤولة استقام السياق التركيبي،ولا يكون ذلك مستساغا في عمومه إلا "بشرط موافقة الدلالة الجديدة المؤول إليها اللفظ التركيب الأسلوبي"(11).
وقد وضع الإمام الشاطبي معايير التأويل الصحيح حاصرا إياها في اثنين:
أن يكون التأويل قد أحال اللفظ إلى دلالة صحيحة، متفق عليها بالجملة.
أن يكون موضع اللفظ، قابلا للدلالة المؤول إليها من الناحية اللغوية، بوجه من وجوه الدلالة الحقيقية أو الشرعية أو العرفية(...)جاريا في ذلك على سنن العربية في التعبير والإنشاء والإبلاغ"(12).
وقد نلتمس لهذين المعيارين في التأويل، أمثلة مما أجراه علماء التفسير واستنباط الأحكام. من ذلك ما أورده "القرطبي" في تفسيره للآية الكريمة و'عصى آدم ربه فغوى"(13)، فبين خطأ التأويل الذي فسر لفظ "غوى" بمعنى "بشم" من كثرة الأكل.
جاء في القاموس المحيط: غوى الفيصل بشم من اللبن، أو منع الرضاع فهزل وكاد يهلك – يقول القرطبي: "غوى": "أي فسد عليه عيشه والغي: الفساد، وهو تأويل حسن، أما التأويل بمعنى: بشم من كثرة الأكل، وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا، فيقول في: فني وبقي، فنى وبقى... تأويل خبيث لأنه لا يوافق السياق اللغوي وإن كان له أصل في الكلام العربي(14).
إن لكل خطاب منطقه الخاص سواء في حواره مع الواقع، أو رجوعه إلى الدلالة، ومن ثمة فالوقوف على القواعد المنظمة لنسق الخطاب على نحو معين، هو وقوف على ابستيمية اللغة المحيلة على بنية التفكير في عصر من العصور، والأخذ بطرائق الممارسة الخطابية. يقول ميشال فوكو: "إن تحليل الخطابات نفسها يضعها أمام مشهد انحلال عرى الروابط، التي تبدو لنا ظاهريا أنها جد وثيقة، بين الكلمات والأشياء، وأمام ظهور مجموعة من القواعد الخاصة بالممارسة الخطابية"(15) وينحو هذا التحليل إلى اعتبار سطحية النسق التعبيري منفذا وحيدا لأغوار حقول دلالية مختلفة، ذلك أن تعدد المقول الخطابي من منظور قرائي محايث، يفضي إلى تعدد المدلول وانفتاح أفق الفضاء الدلالي على القراءات المتباينة: إن من القرائن التي أشار إليها علماء الأصول قرينة قراءة خطاب الآية من الداخل، بمعنى تأويل المتشابه في الخطاب في أثناء إجراء عملية الاستبدال، وهي قرينة أخرى من القرائن التي تعطي للتأويل صحته المتعلقة بصحة وسلامة قواعد الإسقاط الدلالي.
ويبدو التأويل متسعا على اعتبار أن الوحدة الدلالية (l'unité Sémantique)، تنطلق من الكلمة كوحدة أساسية في تشكيل الجملة والخطاب، وقد تنطلق من الوحدات الأقل من الجملة كالفونيم المتصل أو أصغر من الفونيم وهو الصوت المفرد، كل هذه الوحدات يأخذ بها التحليل لنسق الخطاب، بل إن مقاربة المتشابه بالمحكم من الصيغ والألفاظ.يجعل النص كله مشتملاً على تلك الصيغ والألفاظ المتشابهة والمحكمة دالا واحدا لكونه يفضي إلى دلالة موحدة وهو ما يتعلق بظواهر لغوية أخصها تعدد المعنى للفظ من جهة، وتعدد اللفظ للمعنى من جهة أخرى.
وتعالق المتشابه بالمحكم ، يرتقى إلى اعتبار السورة القرآنية مهما طالت، وحدة دلالية، تجمع إليها وحدات أصغر تتعلق؛ بالآيات والنصوص والمشاهد على اختلافها. ففي قوله تعالى
اللهَ نورُ السَّمواتِ والأرضِ((16) وقع لفظ (النور) بين الصفة والاسم، لكن زال ذلك التردد الإحالي حين ذكر الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة "مثل نوره"، فأضاف النور إلى نفسه، ولو كان الله هو النور نفسه لما أضافه إليه. يقول القاضي عبد الجبار:" أقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول، وإن كان ربما يقوى ذلك بما يتقدم المتشابه أو يتأخر عنه، لأنه هو الذي يبين أن المراد به ما يقتضيه المحكم"(17).
إن المحور الذي يدور حوله البحث في نظام الخطاب الحديث، يكمن في تفكيك بنية النص لتحديد المقول الخفي، من خلال المقول اللفظي، وذلك لاعتبار اللغة تخون الدلالة، إما خيانة طبيعية أو خيانة قصدية. ويتعلق الأمر هاهنا بإحداث انزياح، في صيغة مركزية في نسق الخطاب عن دلالتها الأصلية، وتشكيل اصطلاح جديد، داخل الاصطلاح القديم لكون الصيغة غيرت مجالها الدلالي تغييرا مؤقتا فقط.
وهذا ما يحاول علماء أصول الفقه إبرازه، حين يقاربون النص الشرعي مع الواقع الجديد، إذ تأكد لديهم أنه لا وجه واحد للحقيقة وإنما هي ذات قيمة نسبية تتغير حسب معايير الحكم وطرائق اكتشاف المعنى واستنباطه. كما أن المعنى نفسه يتكاثر مع تكاثر الوقائع حتى يستحيل معنى آخر، حين تتوافر لدى العالم المؤول وسائل جديدة تغدو بفضلها الرؤية للنص ذات دقة وشمولية وعمق.
إن الخطاب الشرعي يساق لقصد إيضاح دلالة متعلقة بالحكم المنوط به التكليف، ويضع لأجل ذلك ضوابط نسقية متعلقة باستدلالات عقلية يتراوح معها اللفظ بين التعميم والتخصيص، أو التقييد والإطلاق، وما إلى ذلك من الوظائف التعالقية (fonctions relationelles)، ويرتبط ذلك كله بتعيين قصدية المتكلم من خلال سياق الكلام، أو قصدية الخطاب من خلال مقوله اللفظي. يقول الجويني في هذا المجال: "لو ظهر لنا خروج معنى عن قصد المتكلم، وكان سياق الكلام" يفضي" إلى تنزيل غرض الشارع على قصد آخر، فلست أرى التعلق بالعموم الذي ظهر فيه خروجه عن قصد الشارع. وهو كقوله، عليه السلام، فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر". فالكلام مسوق لتعيين [العشر ونصف العشر]. فلو تعلق الحنفي بقوله –عليه السلام-: "فيما سقت السماء العشر" ورام تعليق العشر بغير الأقوات فلسنا نراه متعلقا بظاهر"(18) ذلك أن العلاقة بين القصدية الشرعية ونسق التركيب الحامل للدلالة والحكم هي علاقة بين بنية سطحية وبنية عميقة، وبينهما وسط رابط هو التأويل، بحيث أن إخراج حقل من الدلالات عن الحكم بلا مسوغ نسقي أو عقلي.كما أشار إلى ذلك الجويني في تعليقه على خطاب الحديث الشريف السابق، غير جائز ينقل خاليد السبكي تعريف (امبرتوإيكو) للخطاب في كتابه "حدود التأويل" ويربطه بإخراج اللغة من حالة إلى حالة: حالة الثبوت المعجمي إلى حالة اشتغال جديد يتوقف على إحداث أنظمة إبلاغية خطابية داخل النظام اللغوي المألوف، فالتعريف اللساني لا يتعدى الخطاب من منظوره أن يكون اللغة في حالة الاشتغال، إنه اللسان (langue) وقد اضطلع بتشغيله الفاعل المتكلم(19). فحوّل اللغة داخل النص، لتدل على الظاهر والباطن معا، وتدعو إلى قراءة تملي نصها الواقعي على لغة النص، إن للقراءة النسقية للخطاب، والقراءة السياقية لمضمونه، وتدبر موقعيته داخل النص، وربط أجزاء المراجع والإحالات التي يرجع إليها الخطاب عبر وسائل الربط كالضمائر وأسماء الإشارة وغير ذلك مما يحقق للخطاب انسجامه الدلالي واتساقه التركيبي داخل منظومة النص، كل ذلك يعين بقدر بارز على تحديد دلالة الخطاب، أو ترجيح احتمال دلالي من ضمن احتمالات متعددة، يقتضيها اللفظ، أو مجموع الألفاظ داخل الخطاب. يقول السيد عبد الغفار: "يستدل على معاني الألفاظ بما تقدمها من الكلام، وبما تأخر عليها، وأحيانا يتمرد اللفظ على الأسلوب فلا يسلم قياده للسياق في تحديد معناه (...) والواضح أن تلك الدلالات الأسلوبية للكلمات (...) هي دلالات مؤقتة تتغير بتغير الأسلوب وظروفه"(20) ذلك أن المنظومة اللغوية حين تأخذ حركتيها داخل المجتمع اللساني تقذف بقيم فوق اللغة، تتعلق بمناحي عرضية في المعنى الأساسي للفظ. إلا أنها قد تكون هي المرادة من وراء إطلاق اللفظ، أو تعيين موقع مقامي له داخل السياق اللغوي. يؤخذ هذا الموقع كقرينة لغوية لصرف اللفظ إلى دلالته المرادة.
ذلك أنه إذا دار معنى الخطاب بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، فإن الراجح هاهنا هي الحقيقة الشرعية، إلا أن تكون ثمة قرينة واضحة تدل على إرادة الحقيقة اللغوية. لا الشرعية ومثاله قوله تعالى من سورة التوبة: "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم"(21). فالخطاب موجه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ودلالة لفظ (صل) يحمل هاهنا على الدعاء لاقتضاء السياق اللغوي هذه الدلالة اللغوية، وتنتفي حينذاك الحقيقة الشرعية، وما هو ملاحظ أن النص القرآني بقدر ما أعطى للمعجم العربي القديم حركية أكثر وذلك بإدخاله في الاستعمال اللغوي، ونقل بعض عناصر هذا المعجم من الحقيقة إلى المجاز الذي أضحى هو الآخر حقيقة، إلا أنه أورد نماذج خطابية وظفت فيها تلك العناصر في المجالين معا: مجال الحقيقة ومجال المجاز كما هو الشأن في الآية الكريمة السابقة.
كما أنه إذا دار اللفظ بين الدلالة اللغوية والدلالة العرفية، فالأخذ بالدلالة العرفية أولى، وقرينته ليست لغوية في هذا المقام، وإنما هي منطقية عقلية، ذلك أن تعارف الناس على نظام تواصلي أدعى في تقرير مراجع ألفاظ الخطاب في نطاق الدلالة العرفية، ولذلك فإن العرف أسبق في الاحتجاج من الاصطلاح والتواضع العامين: فلفظ (الدابة= الوارد في قوله تعالى: "وما من دابة إلا على الله رزقها". يدل في لغة الاصطلاح على كل ما يدب على الأرض ويشمل حقله: [الإنسان- الحيوان ...] ولكن خصص هذا اللفظ في عرف الاستعمال وأضحى يدل فقط على الحيوان. وقد استعمل المعنيان معا في نصوص كثيرة من القرآن الكريم، تارة المعنى اللغوي وتارة أخرى المعنى العرفي. وهذا جريا على سنن العرب في كلامها، فبين معجم اللغة المتداول وقت النزول القرآني، ومعجم الخطاب القرآني قواسم مشتركة عديدة، إلا أن ثمة ملامح تمييزية جوهرية تكمن في اتخاذ نفس هذا المعجم، معجم العرب للتعبير عن ما هو متعال ومطلق ومعجز. يقول نصر حامد أبو زيد: "إن البحث عن خصوصية اللغة الدينية ينطلق من مسلمة أساسية مفادها قدرة هذه اللغة على تحويل الآني والتاريخي والنسبي- الاجتماعي- إن شئنا الدقة- إلى مجال "المطلق" و"المتعالي" و"الأزلي".(22)
ولقد أبان العلماء عن الاحتياطات المنهجية التي تراعى في أثناء الممارسة التأويلية للنص الشرعي على الخصوص، وما تعلق بها من إلمام بسنن التطور اللغوي والدلالي، وخصائص العربية في التعبير، وملاءمة سياق المقال لسياق المقام، يشرح السيد عبد الغفار هذه المسألة الخاصة بمقاربة النص الشرعي بأدوات التأويل وطرائقه فيقول: "لابد من تقديم العقل، ومراعاة ظروف النص، عند التأويل في المقام الأول، ثم النظر إلى اللسان العربي بعد ذلك وإن كانت الأخطاء الواردة في التأويل بصفة عامة ترجع (...) إلى المتناول للنص وليس في النص نفسه"(23).
وهذا ينبني على أن النص يقدم أدوات التأويل لمن يحسن التأمل ويستعمل أدوات النظر والمقارنة والتعليل اللغوي الدقيق.
إن التأويل، للنص الشرعي في المقام الأول، ونصوص التراث الإنساني في المقام الثاني، عرف أوج نشاطه الإجرائي في القرن الثالث الهجري، وهو قرن كان يموج بالحركات الفكرية، والمذاهب الفقهية، والفرق الكلامية، وقد وقف (ابن قتيبة) (ت 276) مدافعا عن منهج اللغة في استنطاق بنية النص وتأويل دلالته.
يقول في هذا الموضع: "لم أعد في أكثر الرد عليهم طريق اللغة، فأما الكلام فليس من شأننا"(24) وهو يعني بقوله فرقتي الجهمية والمشبهة. ونجد ابن قتيبة العالم اللغوي يتخذ المنهج التأصيلي أساسا من أسس التأويل، ومن الأمثلة التي ذكرها في كتابه "الاختلاف في اللفظ" موقف كثير من علماء الأصول والتفسير الذين جانبوا الصواب في دلالة لفظ (ذرأ) في قوله تعالى: "ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس"(25)، إذ استند هؤلاء على إرجاع دلالة هذا اللفظ إلى معنى (دفع وألقى) على قول الشاعر المثقب العبدي- على لسان ناقته:
تقول إذا ذرأت لها وضيني
أهذا دينه أبدا وديني.
ولقد بين ابن قتيبة أن هذا الإرجاع خاطئ ينبني عن جهل بأصول اللغة، لأن اللفظ الذي عين له أولئك المفسرون والعلماء حقله الدلالي هو (درأ) وليس (ذرأ) فإذا كان اللفظ الأول يدل على معنى (دفع وألقى) فإن لفظ (ذرأ) وهو المقصود في الآية الكريمة له دلالة (خلق).ويتخذ ابن قتيبة هذا الموقف التأصيلي لكي يقدم فوائد في التأويل حين التعامل مع السياقات اللغوية المختلفة إذ يقول معلقا على لفظ (ذرأ) المصحف إلى لفظ (درأ): "وأحسبهم (أي المفسرين وعلماء الأصول) سمعوا بقول العرب: أذرته الدابة عن ظهرها أي ألقته، فتوهموا أن (ذرأنا) من هذه المادة، ولو كانت من هذه المادة لقيل: ولقد أذرينا لجهنم، وإن كانوا سمعوا قوله تعالى "فأصبح هشيما تذروه الرياح" أي تنسفه وتلقيه، فتوهموا منه أيضا. ولو أريد ذلك لكان في الآية (ولقد ذرينا لجهنم) وليس يجوز أن يكون (ذرأنا) في هذا الموضع إلا (خلقنا) كما قال تعالى: "ذرأ لكم في الأرض"
وقال: "يذروكم فيه" أي يخلقكم في الرحم. ومنه قيل: ذرية الرجل لولده، وإنما هو خلق الله"(26).
3- الخطاب والتأويل :
إن تلك السمات التي تعلقت بلغة العرب، سواء في كيفية صرف اللفظ إلى معناه أم اكتشاف المعنى من السياق، أم ترجيح ما هو مسند بقرائن وأدلة واضحة، كل ذلك نجده قد بثه الخطاب القرآني في متون نصوصه، ,وإلى ذلك رجع علماء الأصول حين اهتموا بإيجاد توفيق بين مقتضيات الواقع المتغير وطبيعة النص، كما أنهم استنطقوا بنية النصوص وتجاوزوا الظاهر فيها، على اعتبار أن النص بمنظور تأويلي قاصر على تأدية المقصدية على وجه متيسر، وهو اعتراف بوجود فجوات داخل النص يتم ملؤها من قبل المتلقي.
فالمتلقي إذن من هذه الجهة منتج للنص، بل ومنتج لما لم يقله النص في ضوء مقوله اللفظي وسياقه التاريخي. يقول خاليد السبكي موضحا هذه الفكرة:" ثمة فجـوات" تتخلل النصوص، وتلك الفجوات هي التي تساعد على تجلية الجوانب المسكوت عليها، فالخطاب يمثل عملية تكون من وراء إخفاء بعض المكونات والسكوت عنها وإبراز أخرى"(27). ويعمل التأويل العقلي المنطقي والتأويل اللغوي النسقي، والتأويل السياقي التاريخي، على ملء تلك الفجوات بما يتلاءم مع روح الخطاب ومقتضيات التخاطب.
إن التأويل في صوره المتعددة، ونتائجه المختلفة يرتد أساسا إلى قدرة المؤول على فهم النص واستنباط الحكم الدلالي، ذلك أن الخلل الواقع في انحراف التأويل عن تلمس المعنى مرده إلى المؤول ومدى قدرته على التفاعل مع دلالات النص وأحكامه. ينقل السيد عبد الغفار تقسيم ابن تيمية في كتابه "مقدمة في أصول التفسير، ص 20." للعلماء والمؤولين وكيفية تعاملهم مع النص وأحكامه فيقول:" وقد لفت إلى هذا (أي تعامل العلماء مع النص) ابن تيمية في تقسيمه للناظرين إلى النصوص: فمنهم من يعتقد في المعنى ويحمل الألفاظ عليه، من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، ومنهم من يراعي مجرد اللفظ دون النظر إلى ما يصلح للمتكلم به في سياق الكلام. وقد وصل هذا عند بعض الفرق إلى الإغراق في الباطنية، أو التطرف في التشبيه، ومرد هذا كله إلى موقف المؤول نفسه أمام النص"(28).
وقد تمكن العلماء الذين تمرسوا على قواعد اللغة، وأصول التعبير، من وضع ضوابط مطردة في التعامل مع النص القرآني لتحديد مقصدية خطابه، وبينوا بشكل تفصيلي أهمية الروابط في السياق اللغوي للخطاب لإعطاء النص انسجامه واتساقه، وإبراز دلالاته وأبعاده المعنوية. إن نظام الخطاب القرآني يتأسس على نسق تركيبي، يوظف من خلال ذلك أدوات الوصل بين الجمل والعناصر الفاعلة في الخطاب، من ذلك حروف العطف ودورها في تحديد الدلالة الموجهة في النسق، فإذا كان ثمة ارتباط شرطي بين المعطوف والمعطوف عليه، بحيث يكون المعطوف عليه سببا في حصول المعطوف ووجوده.كان النظام الخطابي مستدعيا لحرف الفاء دون غيرها، أما إذا انتفى هذا الارتباط كان العطف بالواو، وهذا التمييز العلمي مبني على قيم نسقية ضرورية لاستكمال انتظام الخطاب في الشكل ليكون دالا بعمق ودقة في المضمون، يشرح الفخر الرازي هذه القاعدة التركيبية ذات المنحنى الدلالي فيقول:" كل فعل عطف عليه شيء، وكان الفعل بمنزلة الشرط، وكان ذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو وكقوله تعالى
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها...( فعطف (كلوا) على (ادخلوا) بالفاء، لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها (...) فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق بوجوده"(29).كما صار الشكل دالا على المضمون، فكانت هذه القاعدة التي تحكم بنية الخطاب التركيبية المسندة إلى أدوات الوصل، فيحدث أن ينعكس ذلك كله على البنية الدلالية.
إن نظام الخطاب بقدر ما يعطي لنسق التركيب انسجامه ونصيته، فهو يفتح مجالا آخر لرجحان المعنى بين عناصر النسق مجتمعة، أو اختصاصه بالعنصر الأخير من نسق التركيب،على اعتبار أن هذا النسق جاء على نظام خطابي يجمع إليه جملا مترابطة وفي ذكر واحد، فقد كانت هذه المسألة محل خلاف في اختصاص حكم ما بعد أداة الاستثناء بجميع عناصر النظام النسقي للتركيب أو بالعنصر الأخير، ذلك لأن تعلق هذه الأداة بطرفي الاستثناء من جهة، ووقوع جملة الاستثناء في ارتباط نسقي مع جملة أخرى، يجعل أمر دلالة الاستثناء في اضطراب. يقول الإمام الجويني موضحا هذه الإشكالية:" إذا اختلفت المعاني، وتباينت جهاتها، وارتبط كل معنى بجملة، ثم استعقبت الجملة الأخيرة مثنوية، فالرأي الحق الحكم باختصاصه بالجملة الأخيرة، فإن الجمل. –وإن انتظمت تحت سياق واحد – فليس لبعضها تعلق بالبعض (...) وإنما ينعطف الاستثناء على كلام مجتمع وفي غرض واحد"(30).
لقد أتاح الخطاب القرآني للعقل أن يتأول في ما عرض من الآيات التي تساوت فيها خصائص لفظية انعكست على الدلالة، كإيهام وجود تناقض، أو قراءة تصحيفية للفظ، أو اشتقاق معكوس للكلمة، وما إلى ذلك مما عرف في حقل أصول الفقه بالمتشابه مقابل المحكم.
ومادام المتشابه هو محل لاختلاف النظر وتشعب الاستدلال والاستنباط فهو مُشْكل يقول ابن قتيبة:" أصل التشابه أن يشبه اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان... ثم يقال لكل ما غمض ودق متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره كالحروف المقطعة، فالتشابه فيها الاشتباه والالتباس، ومثل المتشابه المُشْكَل وسمي مشْكَلا أُشْكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله"(31). ثم إن الخطاب القرآني الذي تشابهت آياته، يطلب اهتماما آخر بنسقه التركيبي لفحص المنحى التأثيلي لمفرداته من جهة، وبيان القرائن التي سمحت بإخراج اللفظ من دائرة الظاهر إلى دائرة التأويل، وفي ذلك يقول ابن تيمية محددا وظيفة المؤول:«والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر»(32).
وتتلازم الوظيفتان لتجعل الخطاب الذي حوى المتشابه أصنافا أخرى من الخطابات على طريق ما يسمى في علم التأويل بالإرغامات النسقية، وهي تعني مجموع الجمل التي تنسل من الجملة نص الخطاب، لتغطي حقولا مختلفة من الدلالات،كما مثلنا لها في غير هذا الموضع فالتأويل يدخل اللفظ في الخطاب أو مجموع الألفاظ في تلازم علائقي نسقي يكون محلا لإنتاج الدلالات ذلك أن "النص لا يشتمل على المعنى، وإنما يدل على طريقه، فالعلامات التي تكونه لا تحيل على نفسها، وإنما على شيء آخر يستفاد من السياق ووسائط التلفظ المقامية"(33).
هكذا يغدو التأويل مشكلا لحقيقة هي مجزأة على حيثيات قرائية في مقامات مختلفة، فتبرز صورها وإن كانت تعبر عن طبيعة واقعها إلا أنه تعبير متزامن ومؤقت، ذلك أن المعنى غير جاهز، والدلالة تتحصل من خلال نسق التدليل.
هذا النسق يجمع إليه طرفين: طرف يرتد إلى بنية التفكير الدلالي الذي يعطي أنماط تحصيل الدلالة والكشف عن أبعادها الاجتماعية والقيمية. وطرف يعود إلى عملية الإدراك نفسها التي يعين عليها تحصيل أدوات الاستنباط والنظر يقول سعيد بنكراد:" كل إنتاج للمعنى مرتبط بمادة مضمونية سابقة في الوجود على التحقق من جهة، ومرتبط من جهة ثانية بسيرورة معينة للتعرف والإدراك. إن العمليتين معا تشكلان سيرورة التدليل (...) ولن تكون هذه السيرورة سوى الطريقة التي يتم بها تنظيم الوحدات المقتطعة من النسق الدلالي الشامل وفق استراتيجية محدودة للآثار المعنوية المراد إنتاجها"(34).
إن المعنى ـ بهذا المنظور الشامل الذي يقدمه التأويل- لصيق بالممارسة اللغوية، والاستعمال الفردي والاجتماعي للمنظومة اللغوية، ولذلك فإن إدراكه في حالة تجرده لا موقع له داخل المنظومة الفكرية والمعرفية للمجتمع اللغوي، وهذا يقود إلى اعتبار تحليل الخطاب نفسه مقابلة بين خطابين خطاب القراءة وخطاب التحليل، الذي هو منظومة فكرية ومعرفية مسبقة تدخل في تفاعل مع منظومة الخطاب المزمع تحليله وهذا ما يعلل نسبية الحقيقة ومحدودية الدلالة "فلا وجود للمعنى إلا من خلال استثماره في وقائع مادية للإدراك والمعاينة"(35).
هوامش البحث:
* هذه الاجراءات التأويلية تحتكم إلى أسس موضوعية قوامها البنية
المعرفية التي تصدّر الخطاب، والبنية التحليلية التي تُعمل أدوات الفهم و هي نتاج لبنية معرفية مخالفة ،تحاول أن تخضع مدوّنة الخطاب للفهم المحايث .
1- انظر .عبد القاهر الجرجاني –دلائل –ص251 –موفم للنشر -1991
2-علي النجدي ناصف: من قضايا اللغة والنحو – ص 82 – ط 1975- القاهرة.
3-انظر: السيد أحمد عبد الغفار- النص القرآني بين التفسير والتأويل – ص 25 – دار المعرفة –ط02-1982 بيروت.
4-محمد علي الكبيسي: فوكو وعقلانية الخطاب – مجلة العرب والفكر العالمي. ص 74. عدد 17-18.
5- خاليد السبكي: التراث والخطاب، مجلة جذور، عدد 8، سنة 2002/ج8 مج 4...
6-ميشال فوكو:" حفريات المعرفة – ترجمة سالم يفوت – ص 106، المركز الثقافي العربي – المغرب- 1986.
7-خاليد السكي – المرجع السابق، ص 454.
8-محمد بن عياد التلقي والتأويل ، مجلة علامات – ص 17-18- عدد 10- 1998.الرباط -المغرب
9-انظر: دلالة الألفاظ، ص 180 – ط- الأنجلو – القاهرة 1971.
10- النص القرآني بين التفسير والتأويل – ص 128.
11-المرجع السابق، ص 134.
12- انظر الموافقات في أصول الشريعة –الإمام الشاطبي ج3، ص 99 – دار المعرفة 1984 – بيروت
13- سورة طه، آية 121.
14-انظر: القرطبي محمد بن أحمد الأنصاري الجامع لأحكام القرآن – ج 6 ص 4267.
15-ميشال فوكو: حفريات المعرفة، ص 41.
16-سورة النور، الآية 35.
17-القاضي عبد الجبار: متشابه القرآن، ج1، ص 8. ، تحقيق عدنان محمد زرزور- دار التراث – القاهرة –1974
18- الجويني(عبد المالك بن عبد الله بن يوسف):البرهان في أصول الفقه ج1ص: 202-تعليق صلاح بن محمد بن عويضة –ط01-1997- دار الكتب العلمية بيروت .
19- انظر- خاليد السبكي: التراث والخطاب ص: 423.
20- السيد عبد الغفار: النص القرآني بين التفسير والتأويل ص:137 إلى ص:139.
21-سورة التوبة، الآية 103.
22-نصر حامد أبو زيد- الخطاب والتأويل- ص: 107- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- ط1 2000.
23-السيد عبد الغفار: النص القرآني بين التفسير والتأويل ص: 135.
24-ابن قتيبة: الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة- ص 12 تحقيق محمد زاهد ط 1961. دار السعادة- القاهرة.
25-سورة الأعراف. الآية 179.
26-ابن قتيبة: المصدر السابق: ص: 16-17.
27-خاليد السبكي:" الخطاب والتراث، ص 426. 28-السيد عبد الغفار: النص القرآني بين التفسير والتأويل، ص 28.
29 ـ محمد الفخر الرازي:" التفسير الكبير"، ج3، ص 4.–دار الكتب العلمية –ط02-1986 بيروت .
30-الجويني: البرهان في أصول الفقه، ج1، ص 142.
31-ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن – ص 74. تحقيق السيد أحمد صقر، ط، الحلبي، القاهرة، 1954.
32-ابن تيمية:" الاكليل في المتشابه والتأويل. ص 23. ط 1968. القاهرة.
33-أحمد الفوحي: ضوابط التأويل، علامات، عدد 13- سنة 2000. الرباط -المغرب
34-سعيد بنكراد: المعنى بين التعددية والتأويل الأحادي – ص9. علامات – عدد 13 سنة 2000.الرباط -المغرب
35-المرجع السابق، ص 10.