المنحى الحجاجي للخطاب القرآني وأثره في منهج الاستدلال الأصولي
د. الحسن بنعبو
أستاذ الدراسات الإسلامية كلية الآداب بأكادير
عمل الباحث في هذا البحث على بيان ما إذا كان النظر الأصولي في طبيعة المظهر العقلي في فهم دلالات النص القرآني على الأحكام الشرعية قد سلك في ذلك سبلا تراعي استيفاء الشرائط البرهانية في التحديد المنطقي لدلالة الخطاب الشرعية، أم اتبع في ذلك منهجا يراعي المظهر الحجاجي لخطاب الشارع. وذلك وفق المحورين التاليين: الأول: مفهوم الحجاج والدلالة الحجاجية. الثاني: الأثر الحجاجي للخطاب القرآني في منهج الدلالة الأصولية.
يكون النظر العقلي إلى خطاب الوحي من أجل فهمه واستكشاف دلالاته التشريعية على مستويين:
الأول: نظر من جهة أنه اجتهاد عقلي يستهدف تبين مفهومه ومنطوقه، وهذا ما عناه الغزالي في قوله: إن الأقوال تدل على جانب من معانيها "بصيغها، ومنظومها، أو بفحواها، أو باقتضائها وضروراتها.."[1].
وتحليل خطاب الشارع على هذا المستوى يخضع لعملية "التأويل" وفق منهجية محددة وقواعد مضبوطة، بحثها علماء الأصول في مباحث الدلالة بتفصيل.
الثاني: نظر عقلي عند غياب دلالة النص على الحكم يستهدف استبيان أحكام ما استجد من وقائع وأفعال، وهو ما غلبت عليه الممارسة الاستدلالية القياسية.
إذا المنهجية الأصولية في استثمار خطاب الوحي في مجال التشريع وفق ما سطره العقل الأصولي هي على مستويين: تأويلي واستدلالي.
وسأعمل على بيان ما إذا كان النظر الأصولي في طبيعة المظهر العقلي في فهم دلالات النص القرآني على الأحكام الشرعية -تأويلا واستدلالا- قد سلك في ذلك سبلا تراعي استيفاء الشرائط البرهانية في التحديد المنطقي لدلالة الخطاب الشرعية، أم اتبع في ذلك منهجا يراعي المظهر الحجاجي لخطاب الشارع.
المحور الأول: مفهوم الحجاج والدلالة الحجاجية
أ. مفهوم الحجاج
في اللغة: الحجاج والمحاجة مصدران لفعل حاجج، جاء في لسان العرب: حجج: الحج: القصد. وحجّه يحجه حجا: قصده. والحجة: البرهان، وقيل: الحجة ما دفع به الخصم[2]. ويقال حاجه محاجة وحجاجا أي نازعته. وحجه يحجه حجا: غلبه على حجته[3].
والملاحظ من خلال هذه التعاريف أن الحجاج يختص بالدلالة أساسا على معنيين وهما: معنى القصد، ومعنى الإقناع عن طريق الجدال والتخاصم الفكري.
وإذا قارنا دلالة الحجاج في اللغة العربية بدلالتها في لغة أجنبية كالفرنسية، فإن معنى Argumentation في اللغة الفرنسية التي تقابل معنى الحجاج لا تختلف من حيث الجوهر عن معناها في العربية. إذ أن لفظة Argument تحيلنا في القاموس الفرنسي "روبر- إلى معنى الاعتراض أو طرح موقف مصاحب بحجج تؤيد وجهة النظر"[4].
مفهوم الحجاج في العلم الإسلامي وفي النظريات الحجاجية المعاصرة الغربية
- الحجاج عند الغربيين المعاصرين
الحجاج في الدراسات والأبحاث المعاصرة الغربية -التي تهتم بالخطاب والبعد الحجاجي فيه هو كما عرفه ميشال مايير M.Meyer: "جهد إقناعي. والحجاج متجسد في كل لغة من حيث إن الخطاب يستهدف إقناع من يتوجه إليه"[5].
ويعني أن الحجاج خاصية للخطاب، من حيث إن المخاطب يستهدف من خلاله إقناع المستمع بوجهة نظر معينة وإفحامه بها. قد تؤثر فيه قصد فعل أمر ما أو تركه.
ويقوم الحجاج عند بلنجر على "سلسلة من الحجج المترابطة، وأحيانا على زخم من الحجج المتواكبة يغيب معها المنهج البين، وتروم جميعها استمالة الآخر للقبول، بل الاعتقاد بصواب ما يذهب إليه المحاج ونفعيته، وذلك على خلاف ما يراه خصمه "[6].
والجديد في الدراسات المعاصرة التي اهتمت بالحجاج هو أن موضوعه غدا علما قائما بذاته، ومؤطرا بجملة من النظريات المعرفية التي تضبط أوجه استعمالاته في المجالات المعرفية المختلفة. ولاشك أنه قد تفاعل مع الأبحاث المعاصرة التي تم إنجازها في علوم اللغة والمنطق والفلسفة.
ولم يعد الحجاج مرتبطا ارتباطا عضويا بمجالات معرفية تقليدية كما كان في السابق شديد الصلة بفن الخطابة والجدل.
لقد أصبح الحجاج مجالا "لخطابة جديدة تهتم بالبحث في وسائله، وهي غير تلك التي تتعلق بالمنطق الصوري والتي تتيح لنا استقطاب الآخر وتحفيزه على تبني الأطروحات التي نعرضها عليه"[7].
- الحجاج في العلم الإسلامي
مفهوم الحجاج في العلم الإسلامي هو شديد الارتباط بممارسة الخطابة والجدل الفكري عند المسلمين، وذلك أن الفاعلية الحجاجية يراد منها عندهم مغالبة المخالف في المذهب أو الرأي بإظهار الحجة.
ولا يهم في الحجة أن تفيد البرهان أو الإقناع، لأن المطلوب هو إفحام السامع. ولأن الحجة بحد ذاتها لا يراد منها ما أفاد معنى قاطعا.
فالحجة "هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا"[8].
والحجة الإقناعية: "هي التي تفيد القانعين القاصرين عن تحصيل المطالب بالبراهين القطعية العقلية، وربما تفضي إلى اليقين بالاستكثار"[9].
وقد عرف الأستاذ طه عبد الرحمن الحجاج بأنه "كل منطوق به موجه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها"[10].
الحجاج -بهذا الاعتبار- خطاب، لكن ليس كأي خطاب، هو ما اقترن فيه قصدان؛ قصد الادعاء الذي اختص به المتكلم، وقصد الاعتراض الذي هو من حق المستمع، هذا فضلا عن أن الخطاب الحجاجي يستهدف به التوجه إلى الغير للإفهام.
وبهذا كان الحجاج وسيلة للتفكير والتواصل مع الآخر، والتفاعل بين طرفين من أجل جلب منافع أو دفع مضار أيضا. وهذا ما يمنح للخطاب الحجاجي أبعادا عملية.
خصائص الاستدلال الحجاجي
واضح مما تقدم أن الحجاج فاعلية خطابية تستهدف الإفهام والإقناع، وتبعا لذلك فإن بنيته الاستدلالية ستكون متميزة عن بنية الاستدلال البرهاني.
وليس حصول الاقتناع المفضي إلى العمل في الاستدلال متوقفا فقط على استيفاء شرط البرهانية فيه، إذ قد يلتمس في الاستدلال الحجاجي صورا استدلالية هي أوسع وأغنى من صور الاستدلال البرهاني.
فدعاة الاستدلال الاحتجاجي الطبيعي وأنصاره، لا ترى للبرهان ميزة تفضله على غيره من الاستدلال الأخرى الحجاجية في تحصيل الإقناع والإفادة العملية. إذ "قد تستوفى برهانية الدليل ولا يحصل معها اقتناع المخاطب، إذ لاشيء يمنعه -أي المخاطب- من أن يستمر على اعتقاده السابق ولو دل على سبيل برهاني مستقيم، فليس كل ما يحصله النظر يتحول إلى عمل... فالحجة الجدلية البالغة، على ما قد يشوبها من اعتلال في الصورة، خير من البرهان الصحيح غير المقنع"[11].
وعليه، فإن حجاجية الاستدلال ترجع إلى انبنائه على قوانين منطقية طبيعية غير صناعية، وما يميزها:
أولا: انبناء الاستدلال فيه على صور القضايا مجتمعة إلى مضامينها المحددة في إطار مقام تداولي معين؛ إذ يأخذ بعين الاعتبار مقتضيات الحال من معارضة مشتركة ومطالب إخبارية وتوجهات ظرفية.
ثانيا: قيام الاستدلال فيه على سرد كثير من الحجج تمتاز بالاختيار الحسن، والترتيب المحكم قصد إقناع المتلقي والتأثير فيه.
ثالثا: عدم خضوعه للصرامة المنطقية التي يتصف بها الاستدلال البرهاني، فإن لزوم النتيجة عن المقدمات ليس لزوما ضروريا ويقينيا. إنه لزوم "غالب على الظن"، لأن الحجاج ينبني على مقدمات ليست يقينية بالضرورة، فهناك دائما قدر من الاحتمال والشك يدفعنا إلى التماس مزيد من الحجج لتحصيل أكبر قدر من الإقناع.
رابعا: أخذه بصور الاستدلال مبناها على مبدأ "التفاضل والتراتب في صدق الأقوال، أي أن الاستدلال الحجاجي لا يقر بمنطق ثنائية القيمة (الصدق/الكذب)؛ إذ قد يفضي الاستدلال فيه إلى قيم متعددة تنزل مراتب قيمية بينهما. كأن تكون: أشبه بالصدق، وسطا بينهما، أشبه بالكذب.
خامسا: الحجاج في ارتباطه بالمتلقي يهدف إلى أن يذعن المتلقي لما يطرح عليه من أفكار، وقد يفضي به هذا الإذعان إلى العمل.
وقبل أن نتطرق إلى منهج التحديد الدلالي الحجاجي، ينبغي أن نأخذ فكرة عن منهج "الدلالة الصورية البرهانية".
ب. نظرية الدلالة البرهانية الأرسطية
انصب اهتمام المناطقة الأرسطيين في تحليلهم للقول أساسا على القول الجازم -أي الخبري- باعتباره قابلا للتقويم، أي بالإمكان إقامة دعوى الصدق أو الكذب عليه، والبنية الحملية هي الوحدة الأساس في دلالته. يقول أرسطو: "وإنما الجازم القول الذي وجد فيه الصدق أو الكذب، وليس ذلك بموجود في الأقاويل كلها، فأما سائر الأقاويل غير ما قصدنا منها فنحن تاركوها؛ إذ كان النظر فيها أولى بالنظر في الخطب أو الشعر. وأما القول الجازم فهو قصدنا في هذا النظر"[12].
ولقد اعتمد المنطق الصوري في تقويم القول، وتحديد دلالته على أصول برهانية صورية، باعتبار القول تركيبا من المفردات تتآلف بينها لتدل على معنى كلي للقول، وهي في شكلها وترتيبها مستغنية عن اعتبار مضامينها القصدية.
وذلك أن ما يفيده القول من معنى هو على مقتضى "الاستلزام الصناعي"، وأعني بذلك أن مدلول القول يُقوّم بناء على تركيب مدلولات أجزائه، وهي هنا المفردات، ولا يُقوّم على أساس التبعية للمعنى المراد تبليغه. وهو هنا محكوم بمبدأ عام يفيد أن المعنى الكلي متفرع على معنى الجُزء.
إذ أن تحليل القول الخبري وبخاصة الحملي منه يقتضي إعطاء أسبقية منطقية ونظرية لمعاني مفرداته، وهذا شرط ضروري كاف لتحصيل معنى القول الذي قد يكون فيه إيجاب أو سلب.
وذلك أن "كل واحد من هذه التي ذُكرت -أي الألفاظ المفردة- إذا قيل مفردا على حياله، فلم يقم بإيجاب ولا سلب أصلا، لكن بتأليف بعض هذه إلى بعض تحدث الموجبة أو السالبة "[13].
وإذا نظرنا في مصنفات المسلمين التي بحثت مسائل المنطق ودعاويه، فإنها تظهر انتهاجها نفس منحى أرسطو في تحصيل دلالة الخطاب؛ إذ لم تخرج عن قواعد التحديد المنطقية البرهانية في شكلها الصوري.
النظر إلى المركب يقتضي تحليله إلى أجزائه، وهذا ما سار عليه الغزالي وبينه في قوله: "وكل ناظر في شيء مركب، فطريقه أن يحلل المركب إلى المفردات، ويبتدئ بالنظر في الآحاد، ثم في المركب" أي أن معرفة دلالة المركبات القولية ينبغي أن تتقدمها عمليتان:
"أولها: إدراك الذوات المفردة... ثانيها: إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات"[14].
ولما كانت معرفة المفرد متقدمة على معرفة القول المركب، فقد رجع الأمر إلى فهم المفردات، "وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا"[15].
وينقسم التصور عند الغزالي، كما هو الشأن عند أرسطو أيضا "إلى ما يدرك أولا من غير طلب وتأمل، وإلى ما لا يحصل إلا بالطلب "[16].
وبناء على ما سبق، يمكن القول بأن الموقف المنطقي الصوري في تحليل القول واقتناص معانيه يحصل على المستوى اللغوي بضم معاني مفرداته بعضها إلى بعض، حتى تشكل وحدة مركبة للمعاني، يتم فيها الانتقال من المفرد إلى المركب.
وهذا التحليل الذي سار على قواعد صورية في التصديق وفي التصور لا يعير اهتماما للقائل، ولا لمقام القول، ولا للمتلقي، إذ أن طبيعته آلية صورية لاهتمامه بالعلاقات دون المضمون المادي للقضايا. فهو يرتبط باللغة الاصطناعية وليس باللغة الطبيعية ومن ثم استقلاليته عن كل فعل تداولي لكن التدليل الحجاجي الممارس في الخطابات الطبيعية على خلاف ذلك، وهذا ما سنعمل على بيانه في ما يلي.
ج. النظرية الدلالية الحجاجية
نحن هنا بصدد الخطاب الذي تضمر فيه معانيه، ولا يتعلق الأمر فيه بما يفيده من معنى ظاهر، وأكثر الخطابات التي تمارس بالقول الطبيعي -أي التي لا تنقل بلغة صناعية- هي من هذا القبيل.
وما يميز الخطاب المضمر التباس معانيه؛ إذ أن جمله تظل مفتوحة على معان عدة، كأن يدل لفظ واحد على معان مختلفة ومتباينة.
ولعل انفتاح التراكيب الجملية للخطاب الطبيعي على معان شتى هو مزية لها، وليس في ذلك منقصة من قيمتها التبليغية والإقناعية؛ لأن ذلك "يكسبها الطواعية الكافية لجعلها تستجيب لأغراض التبليغ التي لا تحصى"[17].
غير أن هذا لا يعني في الوقت ذاته انفتاح الخطاب على نحو مطلق لأي قراءة تأويلية، سواء اقتربت أو ابتعدت عن الدلالة الأصلية للنص، ومقصد المؤلف منه.
أما التعاطي مع الخطاب الحجاجي دلاليا فيكون على مستويين:
أولا: مستوى خارجي كلي حيث يشكل الخطاب في كليته حجة.
ثانيا: مستوى داخلي حيث يتجسد الحجاج في المعجم والروابط الحجاجية والاستعارات والأفعال اللغوية.
ولقد أصبح واضحا لدى الباحثين في النظريات التأويلية المعاصرة للخطاب، وفي اللسانيات التداولية أن لمقاصد المخاطب أثراً حاسماً في توجيه وتحديد معنـى الخطاب.
ومن ثم يفترض في التحديد الدلالي للنص انبناؤه على مقاربة لغوية وعقلية، وذلك من خلال إعادة ترتيبه، والوقوف على المقصد منه، والقيام بتأويل لمجموعة من الأمارات والأدلة، واستحضار كل من المقام والغاية. ولأن المتكلم لابد وأن يأخذ بمقتضيات الحال التي تتمثل في المعارف والمعتقدات الموجهة ثم المطالب والأغراض المراد فعلها.
المحور الثاني: الأثر الحجاجي للخطاب القرآني في منهج الدلالة الأصولية
أ. المظهر الحجاجي للخطاب القرآني
يمثل خطاب الشارع -وهو مرجع التشريع الإسلامي- الخطاب الطبيعي في أجل مظاهره؛ إذ ينطلق من معطيات القول الطبيعي أشكالا ومضامين، ألفاظا وتراكيب، ويشتغل عليهما استشكالا واستدلالا.
فلا عجب وهو يتواصل باللغة العربية وهي لغة طبيعية، أن يخضع لفاعليتها الحجاجية، ويقوم بتمام مقتضياتها، فالحجاج أصل في كل تفاعل بلغة طبيعية كما تقرر ذلك في الدراسات اللغوية والخطابية المعاصرة.
واللغة التي يحل بها الخطاب هي التي تمنحه الصفة الحجاجية؛ لأنها تمده بالعناصر الأولية والقاعدية الحجاجية تبليغا، وتدليلا، وإقناعا.
إن اللُّغة ليست مجرّد أداة للتعبير عن الأغراض الخارجية فقط وإنّما هي أساساً حقيقة. وإذا كان الوجود الحقيقي للغة هو وجود حواري، فهذا يؤكّد المنطق الذي بنيت عليه لغة القرآن من حيث هي لغة وحجّة بالغة بحسب ما ذهب إليه دارسو الإعجاز القرآني، أو ما يمكن أن يندرج ضمن ما تسعى إليه سيميائيات التواصل بدراسة أساليب التواصل أي الوسائل المستعملة قصد التأثير، وهذا يعيدنا إلى الوظيفة الأساسية للُّغات[18].
كما أن الخطاب الشرعي خطاب مفتوح على معاني دلالية مختلفة، وقد تصاغ منه قضايا شرعية متعددة بقدر تعدد أوجهه الدلالية، نظرا لأنه بضعة من اللغة الطبيعية يجري عليه ما يجري عليها، ولا يمكن بأي حال تجاهل أثر اللغة عليه سواء على مستوى محتواه، أو على مستوى مناهجه الاستدلالية ووسائله التبليغية.
وإن النظر الشرعي الإسلامي الذي يتخذ من الخطاب القرآني مرجعه، فعلى الرغم من انبنائه على معقولية قد تبدو للناظر غير المدقق أنها من جنس عقلانية صورية محضة، فهي خلاف ذلك مدينة بالكثير إلى لغة طبيعية كاللغة العربية، وما تنطوي عليه من خصوصيات وميزات تعبيرية.
ومهما بذل دعاة إجراء البرهان المنطقي المعهود في الاستدلال الأصولي من جهود لإبعاده عن نسقه اللغوي أو معقوليته اللفظية فإن هذه الأخيرة ستبقى على الدوام المرجعية والمؤطر الأساسي في ماله تعلق بأحكام الشريعة العملية.
ولهذا أتساءل كيف تغافل الذين فتنوا بالوجه البرهاني في المنطق الصوري عن كون ممارسة المنهج البرهاني في الاستدلال الأصولي تفضي حتما إلى الإعراض عن غنى اللغة وتعابيرها وما يترتب عن ذلك من إفقار الخطاب الشرعي من جهة أوجهه الدلالية.
ولقد أدرك علماء المسلمين هذه الخاصية الطبيعية في خطاب الشارع، ولم يألوا لذلك جهدا في إبرازها، فاعتنوا بها أعظم اعتناء، فكانت إسهاماتهم جد هامة في مجال تحليله وتحديد مستوياته.
وإن خير من قام منهم بذلك هم الأصوليون، فكانوا أبرز من أخذ بعين الاعتبار الشروط المنطقية المناسبة لطبيعة فهم دلالته ومعانيه من حيث إنه خطاب ينطلق من معطيات لغة قرآنية طبيعية كاللغة العربية لتبليغ المضامين الشرعية؛ ولا ريب أن ظهور المراد بيانه لا يكون إلا بواسطة اللسان الذي عنده من جهة ثانية.
وحتى وهم يضعون -أقصد الأصوليين- تعريفا للخطاب لا يغفلون عن تضمينه أوصاف الخطاب الطبيعي (القصدية، التأثير، الإفهام، الإقناع...) وفي ذلك إشارة منهم إلى الخاصيات الحجاجية لخطاب الشارع.
جاء في الإحكام للآمدي: الخطاب هو: "اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه"[19]. وجاء في تقرير الشربيني: "اعلم أن الخطاب فسر تارة بتوجيه الكلام إلى الغير، وتارة بالكلام الذي علم أنه يفهم أو الذي أفهم"[20].
ولعل أهم ما نستخلصه من هذه التعاريف أن الخطاب ليس كلاما يتلفظ فحسب، بل هو:
أولا: كلام منطوق موجه إلى الغير وهذا يقتضي أن يكون الخطاب بين اثنيـن. "فلفظ الخطاب والمخاطبة إنما يكون لغة بين اثنين ... "[21].
ثانيا: مستهدف إفهام المخاطب.
ثالثا: حضور القصد في العملية التخاطبية.
ب. حجاجية منهج التأويل الشرعي
الخطاب الشرعي لا يخلو هو أيضا من غموض يكتنف دلالته، وهو غموض ناجم عن احتمالية ألفاظه، أو تعارض بين دلالاته.
ولهذا رسم الأصوليون بدءا من الشافعي إلى اليوم منهجا في فهم دلالة خطاب الشارع يستند إلى مقاربة لغوية وعقلية، وهذا المنهج هو الأنسب من وجهة نظرهم؛ نظرا لمراعاته اعتبارات الإفهام والقصدية فيه، ولمراعاته أيضا لطبيعة النقل.
الدلالة المستخلصة من النص الشرعي، بالنسبة إلى المقاربة اللغوية والمنطقية تتشكل بفعل اعتبارات لغوية من جهة، ومنطقية من جهة أخرى، تُكون كلها مجتمعة مبررات الاستنتاج وشروطه.
في البداية يكون النظر في طبيعة دلالة النص هل هي صريحة أم احتمالية لأكثر من معنى شرعي. فإن كانت صريحة، أي أن الخطاب لا يتجاوز المنطوق من المعنى، والظاهر من الدلالة، فهو يستقل بإفادة المعنى بالدلالة الحرفية للقول.
وإن فهم الخطاب في هذه الحالة يكون بقطع النظر عن كونه صادرا عن متكلم معين، بحيث تبقى دلالة النص مشدودة إلى المعنى الوضعي للفظ، ولذلك ترى الغزالي يُقر أن من الخطاب ما يكون "تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة"[22].
أما إن كان خطاب الوحي ينفتح دلاليا ويحتمل أكثر من معنى شرعي، نظرا لغموض في المعنى أو خفاء وإضمار، أو تعارض بين دلالته ودلالات أخرى ظاهرة في نصوص أخرى، فإن هذا يقتضي سبر دلالاته الممكنة وحصرها بفضل توظيف مجموعة من القواعد اللغوية والمقاصدية.
أولا: القواعد اللغوية المتداولة في اللسان العربي الذي نزل به النص القرآني
لقد نزل القرآن الكريم بلسان العرب فمن ابتغى معانيه فليس له من سبيل إلا أن يطلبه من جهة هذا اللسان. يقول أبو إسحاق الشاطبي: "إن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة"[23].
ومن ثم فإن الناظر في مسالك الإفهام والفهم للخطاب القرآني لا يلبث أن يتبين له أنها من جنس ما عهده العرب في كلامهم وتداولوها بينهم، وهي على العموم أساليب بلاغية وحجاجية.
ثم إن الشريعة قد راعت ما عليه العرب من الأمية، ولهذا فإن الواجب في هذا المقام إجراء الفهم في الشريعة على وزان الاشتراك الجمهوري الذي يسع الأميين كما يسع غيرهم[24].
وهذا يقتضي أن ينزل القرآن على أساليب العرب في التعبير؛ حتى يتحقق قصد الإفهام والبيان، وغاية الشارع تأدية المعنى على نحو واضح جدا.
ولهذا جعله في صيغته اللّغوية خطاباً منطقياً من حيث هو معان متلقّاة في لغة يفهمها البشر هي اللُّغة العربية "من حيث هي واردة في مبان يدرك منها الناس المعاني المراد تبليغهم إياها، لكن بحسب اصطلاحهم على تأدية المعاني التي يمكنهم أن يدركوها بواسطة المباني التي تتّخذها الطبيعة البشرية طريقاً للوصول إلى هذه المعاني أو إلى تبليغها"[25]، ولما كان القرآن عربي اللغة فقد وجبت معرفة "سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها".
أي لما كان اجتهاد التأويل يقتضي تقديم دلالة شرعية راجحة فكان لابد من توظيف المبادئ والقواعد اللغوية في تقنين اجتهاد التأويل على عادة العرب في استعمال الموضوعات اللغوية من جهة المجاز والحقيقة، والعموم والخصوص، والإطلاق والمقيد، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم...
ثانيا : القواعد الوظيفية والمقاصدية التي توخاها الشارع من خطابه
وهي تروم استدعاء مقاصد الشارع باعتباره محددا أساسيا لمعاني جمل النص الشرعي التي تحتمل تأويلات عديدة.
ولهذا نجد جمهور الأصوليين قد ركزوا اهتماماتهم في تحديد دلالة الخطاب المضمرة، على قصد الشارع ومراده من خطابه؛ باعتباره وسيلة إجرائية لغلق الخطاب المفتوح. ولقد نحا هذا الاتجاه خصوصا من اهتم منهم بالبعد المقاصدي في التشريع.
يقسم ابن القيم دلالة الخطاب إلى نوعين: "حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك"[26].
كما يقدم لنا الإمام أبو إسحاق الشاطبي ضوابط في فهم مراد الشارع من خطابه، وهي تقوم أساسا على التدبر، و"التدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد"[27] وضابطه:
1. أن يصح على مقتضى الظاهر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية.
2. أن يكون له شاهدا: نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض"[28].
كما أن الغزالي يرى أنه لبيان مراد الشارع من خطابه، لزم الاعتناء بالاعتبارات السياقية والمقامية والتداولية. وهي كلها قرائن تساعد في تحديد المراد من خطابه.
يقول: "وإن تطرق إليه الاحتمال، فلا يعرف المراد منه حقيقة، إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى: "وءاتوا حقه يوم حصاده" [سورة الاَنعام/الآية:142] والحق العشر، وإما إحالة على دليل العقل، كقوله تعالى: "والسماوات مطويات بيمينه" [سورة الزمر/الآية:64] وقوله عليه الصلاة السلام: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان"[29]، وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس، أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضروريا يفهم المراد، أو توجب ظنا. وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللغة فتتعين فيه القرائن" [30].
وخلاصة القول في أن المنهج الأصولي يعتمد على القرائن الداخلية والخارجية في تحديد مقصد الشارع من خطابه، سواء كانت قرائن لغوية أو عقلية.
وهذا ما يبدو أن الغزالي قد سار عليه أيضا في أبحاثه الأصولية، خلافا لما انتهجه في أبحاثه المنطقية البرهانية؛ إذ لم يعط الأسبقية المنطقية والنظرية للقول المفرد في تحليله لخطاب الشارع، بل حل محلها الأسبقية الطبيعية للقول المركب، بمعنى أنه أخذ بعين الاعتبار القول في كليته.
ولهذا لزمه الاعتناء بشروط تحقق القول الشرعي طبيعيا من ضرورة وجود المخاطِب، والمخاطَب، ومعرفة المخاطَب لعادات المخاطِب ومقاصده، فإن "من عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته"*.
وفي الأخير لابد من المقاربة بين الدلالات المستخلصة، فإن حصل التماثل بين مختلف الدلالات اللغوية والمقاصدية فقد تحقق المراد من الاجتهاد والتأويل باستخلاص الدلالة المتماثلة، وإن وقع الاختلاف بين الدلالات المستخلصة فلا مناص من اللجوء إلى العمل بالقواعد الترجيحية لاستخلاص الدلالة المقدمة والمرجحة.
وما يمكن أن نخلص إليه في هذا العرض المركز للمنهج الأصولي في التحديد الدلالي للخطاب القرآني ذي المدلول الشرعي هو إهمالهم للمنهج الصوري في التحديد الدلالي، باعتباره غير ملائم للطبيعة الحجاجية للخطاب القرآني الذي يتواصل بلغة طبيعية وهي اللغة العربية، ومن ثم كان تفطنهم للتعارض الجوهري بين مبحث الدلالة الصوري ومبحث الدلالة الأصولي ذي الخصائص التداولية.
ج. حجاجية مسالك الاستدلال
النظر العقلي عند غياب دلالة النص على الحكم يستهدف استبيان أحكام ما استجد من وقائع وأفعال، وهو ما غلبت عليه الممارسة الاستدلالية الحجاجية. إذ لم يتخل الأصوليون عن القياس الفقهي، والاستقراء الأغلبي والسبر والتقسيم ... وكلها مسالك حجاجية مألوفة في البحث الفقهي والأصولي.
وإن من ينظر في المنهجية الأصولية من جهة آليات الاستدلال، فإنه لا يلبث أن يتبين له أن جمهور الأصوليين قد التزموا بنفس الآليات الاستدلالية والقياسية الحجاجية المعهودة عندهم، وذلك على مستوى التبليغ أو على مستوى إنتاج القول الفقهي، ومن غير حرج باد، ولا إشكال صريح.
ولا شك أن الأقيسة التمثيلية هي من أوسع المسالك العقلية الحجاجية تداولا وأغناها في الخطابات الطبيعية، والخطاب الشرعي واحد منها، ويظهر ذلك جليا من عدة جوانب أذكر منها:
أولا: الخطاب الطبيعي ينحو منحا عمليا ملتمسا التأثير والنفع، وتبعا لذلك فإنه ينزل المقاصد والمعاني المحددة للعمل المنزلة الأولى. ولما كان على هذا النحو من التوجه العملي فإنه ينبغي أن يلتمس له أدوات استدلالية تستجيب لأوصافه العملية، ولن تكون هذه الأدوات إلا من ضروب الأقيسة التمثيلية؛ فهي تمتلك بنية استدلالية لا تخلو من عنصر "القيمة العملية" التي توجه سلوك الغير، وهي النتيجة نفسها الملتمسة من الاستدلال القياسي. يقول الدكتور طه عبد الرحمان : "لما كان "القياس" لا تتحدد صلاحيته إلا بالاقتران بمجال قريب أو بعيد يرفع عنه "الالتباس"، أو يحد منه فإن فائدته ليست حمل الخبر ونقله لمن لا يعلمه نقلا مستقلا -كما لو كان قناة يعقد فيها الخبر من لدن المخبر ويحل من لدن المخبر به- وإنما مرجع فائدته أن المخاطب يستفيد منه دلالة سلوكية معينة ينبغي أن يتقيد بها عاجلا أو آجلا"[31]. ولنوضح ذلك بمثال:
الكلمة كالسهم ـــــــــــــــــ"المقيس" و"المقيس عليه".
يتعذر رده إذا خرج من قوسه ـــــــــ وهو "الوصف المشترك".
فاحتط عند النطق بالكلام ــــــــــــــــ وهي "النتيجة" أو "القيمة العملية" المستفادة من الربط القياسي، أو الدلالة السلوكية التي ينبغي الالتزام بها.
ثانيا: إن تعقل القول الخطابي يقتضي استحضار "الشاهد" الأمثل أو علاقة المماثلة أو المشابهة؛ لما في ذلك من تنبيه للعقل على اكتشاف العلاقات الدقيقة والمجردة الموجودة بين الأشياء، وفي هذا تقريب للمعنى المراد تبليغه وجعله في متناول أفهام المخاطبين، ولذا ينبغي أن تقدر للخطاب بنية قياسية مشتملة على هذه العناصر.
ثالثا: يأخذ الخطاب الطبيعي -كما سبقت الإشارة إلى ذلك- بمبدأ التراتب والتفاضل في صدق الأقوال، إذ لا تقوم الأقوال فيه على قاعدة ثنائية القيمة بأن تكون الأقوال فيه محصورة بين قيمة الانطباق وقيمة عدم الانطباق، بل تعتمد على درجات متفاوتة بقدر تفاوتها في قوتها التدليلية، منشئة بذلك ما أسماه "ديكرو" "السلم الحجاجي"[32] ،اهتم فيه بنظام وتراتب الحجج في الخطاب الطبيعي.
وهذا ما ينطبق أيضا على الخطاب الشرعي، إذ أنه لا يلتزم بثنائية القيمة الشرعية، بأن يكون خطاب التكليف دائرا بين الحرام والفرض فقط ولا وجود لمراتب تكليفية شرعية بينهما، بل على العكس من ذلك تتوسطهما درجتا المندوب والمكروه، وبينهما المباح، ومن ثم يكون حصيلة هذا الترتيب بناء سلميا يقوم من خلاله أفعال المكلف.
والملاحظ أن قوانين الاستدلال القياسي تحترم هي أيضا علاقة التراتب المنشئة للسلم، وذلك أن "الأصل" الذي يقاس عليه الفرع ليس إلا رتبة من مراتب انطباق الحكم الشرعي على أفعال معينة تشترك نفس الوصف، وقد صنفت في سلم عام متعلق بها. وقد يكون "الأصل" النموذج الأمثل الذي تحقق فيه الحكم، وقد يكون أدنى من ذلك.
وتبعا لترتيب الفرع بالإضافة إلى الأصل من حيث تحقق الحكم فيه تتحدد طبيعة الاستدلال، وهذا ما نجده محررا عند الأصوليين، فإذا كان الأصل والفرع متساويين في الدرجة سمي "قياس مساواة".
وأما إن كانت درجة الفرع أدنى من درجة الأصل من حيث تحقق الحكم فيه سمي القياس "قياس الأولى"، وإن كان عكس ذلك سمي "قياس الأدنى".
وختاما أجمل القول في أن الآليات القياسية التمثيلية هي أنسب المسالك العقلية في إثراء الخطاب الطبيعي، وإمداده بقوة التفرع والتكاثر؛ إذ بفضلها تتوالد الأقوال بعضها من بعض وتتكاثر، وهي كفيلة بتحقيق التماسك والانسجام بين أطرافه، ويكون ذلك على قدر استعمالها في الخطاب الطبيعي ورسوخها فيه. وهذا ما عبر عنه أحد الباحثين في قوله: "نعتقد أن فهم التمثيل على هذا النحو يجعله آلة لنسج خيوط خطاب ما مكون من عدة أجزاء، لكون الجزء لا يعني شيئا إلا بانتظامه في الكل الذي يصنعه التمثيل"[33] .
ولما كان الاستدلال القياسي على هذه الدرجة من الأوصاف الخطابية فإن أخذ الأصوليين بقياس التمثيل -أو ما يسمى عندهم بالقياس الأصولي- وبباقي الاستدلالات الحجاجية في تحليلهم للخطاب الشرعي يكونون بذلك قد قاموا خير قيام بالشروط المنطقية المناسبة لتحليل الخطاب الشرعي، لما لهذا الخطاب من خصوصيات لا يوفي الطريق البرهاني بمقتضياتها التدليلية والتبليغية، وذلك أن الخطاب الشرعي بضعة من الخطاب الطبيعي، بل هو أجل مظاهره.
فلا عجب إذن أن يهتم الأصوليون بالقياس الأصولي أيما اهتمام ويخصصوا له الحيز الأكبر من مباحثهم الاستدلالية، بحثوا فيه بتفصيل تعاريفه المتداولة، وحجيته، وأركانه، وأقسامه، وتناولوا فيه مسالك الوصف الجامع بين المقيس والمقيس عليه، ووجوه الاعتراض عليه، مستخلصين بذلك أهميته في مجال الاستدلال والتبليغ للأحكام الشرعية.
وبناء على هذا كله ألا يكون قد حصل لديهم سبق الانتساب إلى المرحلة الطبيعية التي انتهى إليها المنطق في الوقت المعاصر؛ إذ أن ردهم للمنطق البرهاني وإعمالهم للأقيسة الحجاجية والاستدلالات الحجاجية في المجال الشرعي ليدل بحق على درايتهم المنطقية، وليس في ذلك ما يدل على ارتدادهم ونكوصهم المعرفيي[34].
ولا ترى جملة من الدراسات المعاصرة المنجزة في منطق الخطاب ميزة للاستدلال البرهان على الاستدلال الحجاجي؛ إذ تؤكد ذات الأبحاث أن البرهان يتعذر إجراؤه في كل خطاب مصوغ بلسان طبيعي، وأن ما يجري في الخطاب الطبيعي -وفي مقدمته الخطاب القرآني- أساليب بيانية تنطوي على درجة من الحجاجية، قد تتخذ مفهوم الشاهد والشبه، وهو أقوى الاستدلالات وأتمها فيه.
ح. حجاجية مسالك الإقناع: الطبيعة العملية للفقه
وهناك جانب آخر قوى رجحان جانب ممارسة الاستدلال الحجاجي في الخطاب القرآني في منحاه الشرعي وهو يتعلق أساسا بالطبيعة العملية للفقه، وما يطبع الوضعية الإنسانية للمكلف من مفارقات يجعلان لا ريب ممارسة الفقيه لتفكيره وطرائق الاستدلال عنده بلغة طبيعية أجدى من ممارسة ذلك بلغة الأبنية الرمزية والصورية، لما قد ينجم عن ذلك من شكلانية الاستدلال، ومن ثم ضياع مقاصد التكليف الإلهي.
كما أنه ليس بإمكان أحد إنكار البعد الجدلي والحواري في الممارسة الفقهية، فالمسائل الفقهية لا تتجلى وتنقشع إلا بممارسة الجدل العقلي دفاعا عن مواقف الأصحاب، أو دحضا وتصحيحا لمواقف المخالفين في المذهب، ولاشك أن هذا العمل يتطلب انتهاج طرق حجاجية تنتهي في آخر المطاف لا محال على أرضية حوارية وجدلية.
ولعل في التراث الفقهي الذي راكمته إنتاجات أهل هذا الفن ما يدل على رسوخ منهج المناظرات والمساجلات الحجاجية عندهم، وما يوحي بأصالة الأساليب الحوارية ورسوخ قواعدها عند المسلمين.
ولا ريب أن ما ينطوي عليه الفكر الأصولي والفقهي من حوارية وجدل لا يخضع بتاتا لنموذج البرهنة الصورية والصارمة؛ فتلك الحوارية وذلك الجدل يقتضيان صوغ الأطروحات في طرائق حجاجية لا تستغني هي بدورها عن المناقشة والجدل.
الهوامش
________________________________________
1.المستصفى، ج 1/5، ط 1994م، دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت.
2.الكليات، أبو البقاء الكفوي. ص: 406، ط 1993 م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
3.لسان العرب، مادة حجج. ج 2/ 778. دار المعارف، القاهرة، د ت.
4.Le grand Robert. Dictionnaire de la langue française. P 535. T. 1. Paris 1989.
5.Meyer - Michel-logique langageet argumentationp136 .hachette- université 2émé édition paris 1982.
6.Jean elaner dans technique et pratique de l'argumentation (voir argumentation Reneé et Jean sumanet p 19. les editeurs d'organisation paris 1990.
7.ch.Perleman et albervhts-tytekka (nouvelle rhétorique) voir Alain Bouissinot les textes argumentatif p7.
8.الإحكام لابن حزم. ج 1/ 40 دار الكتب العلمية، بيروت ، د ت.
9.الكليات.أبو البقاء أيوب الكفوي . ص: 406.
10.اللسان والميزان. ص: 226، الطبعة الأولى 1998م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
11.في أصول الحوار وتجديد علم الكلام. طه عبد الرحمن. ص: 66، ط الثانية، 2000م، المركز العربي، الدر البيضاء.
12.منطق أرسطو، ج 1/ 103. تحقيق عبد الرحمان بدوي، ط الأولى 1980م، دار الأرقم، بيروت.
13.المصدر نفسه، ج 1/ 36.
14.المستصفى، ج 1/ 30.
15.المصدر نفسه، ج 1/ 31.
16. مقاصد الفلاسفة،ص: 7.
17.في أصول الحوار. طه عبد الرحمن. ص: 98.
18.النكت في إعجاز القرآن لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، ط الثانية 1968م، دار المعارف، القاهرة.
19.الإحكام للآمدي. ج 1/95، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط الثانية، 1402هـ، المكتبة الإسلامية، دمشق.
20.أنظر هامش حاشية العلآمة البناني على شرح الجلال المحلي على متن جمع الجوامع ج 1/ 48، ط 1995م ،دار الفكر، بيروت .
21.شرح تنقيح الفصول. للقرافي. ص: 67ص: ، ط1973م، دار الفكر، القاهرة.
22.المستصفى، ج 1/675.
23.الموافقات، ج 2/49، تحقيق عبد الله دراز، ط الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت.
24.المصدر نفسه، ج 2/46.
25.علم المعاني، عبد العزيز عتيق، بيروت، دار النهضة العربية، 1985.
26.أعلام الموقعين . ج 1/ 264، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم ، ط 1417هـ ،دار الكتب العلمية، بيروت.
27.الموافقات، ج 3/ 287.
28. الموافقات، ج 3/ 295.
29. الحديث أخرجه مع اختلاف في الألفاظ الإمام مسلم في القدر رقم:356، والترمذي في القدر، رقم:2140 وقال عنه حديث صحيح والدارقطني في كتاب الصفات، رقم: 29.
30. المستصفى، ج1/675-676.
* إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية ج1/384 تحقيق مشهور آل سليمان، دار ابن الجوزي الطبعة الأولى 1423هـ.
31.في أصول الحوار وتجديد علم الكلام. ص: 111.
32.ducrot " les échelles argumentatives" p: 82 éditions de minuit. 1989 paris.
33. لسانيات النص المدخل إلى انسجام الخطاب. محمد خطابي ص: 127، ط الأولى 1991م، المركز العربي، بيروت.
34. لمزيد من الفائدة بإمكان القارئ الإطلاع على ردود قيمة للباحثين طه الرحمان وحمو النقاري وسالم يفوت فندوا فيه الدعاوى التي تنقص من قيمة المنهجية الأصولية عند علماء الأصول من حيث أنها لا تلتزم إلا بأساليب تشبيهية وقياسية. وذلك في مؤلفاتهم التالية:
• في أصول الحوار وتجديد علم الكلام لطه عبد الرحمان من ص:145-151.
• المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني حمو النقاري من ص: 210-223.
• التعليل الفقهي لسالم يقوت من ص: 222-230.