مناهج علم اللغة ( المقارن + الوصفي + التاريخي )
1 ــ علم اللغة المقارن .
تجري المقارنة بين اللغات بطريقة تاريخية ، مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر الذي ازدهرت فيه الدراسات المقارنة ، فكشفت عن علاقات القرابة بين عدد منها ، مثل : السنسكريتية ، واليونانية القديمة ، واللاتينية ، والسلافية ، والقوطية ، التي قيل إنها جميعاً اشتقت من لغة واحدة مجهولة ، وقد أطلق على هذه اللغات مجتمعة اسم "اللغات الهندو ــ أوربية" ، وهو تعبير ظهر في الدراسات اللغوية نحو عام 1814 ، تمييزاً لتلك الأسرة عن مجموعة ثانية من اللغات الأخرى كاللغات الهندو ــ جرمانية ، وهو تعبير رافق التعبير السابق، وظهر في نطاق التداول اللغوي نحو العام 1823 ليفرق بين هاتيك اللغات ، ولغات مثل : العربية والسريانية والحبشية والعبرية التي أتضح أنها هي الأخرى تنتمي إلى أسرة لغوية واحدة هي السامية . ولا بد من الاستدراك ، فنقول : إن المقارنة بين اللغات لا تعني بالضرورة اعتماد المنهج التاريخي ، بل يمكن أن تجري على سنن المنهج الوصفي . ومقارنة لغة بأخــرى شيء لا يمكن تجنبه ، فحتى عامة الناس يقومون بذلك دون أن يقصدوا المقارنة ، فغذا قال المتكلم كلاماً وتظاهر السامعون بعدم الفهم ، سارع للتأكيد بأنه يتكلم بلغة كذا و ليس اللغة كذا :قلت ذلك بالعربي وليس بالتركي مثلاً" فيما يبدو أنه ادعاء بأن العربية مثلاً أكثر إيضاحاً لمقاصده من غيرها ، فهم لا يعرفون تلك اللغة أصلاً . بيد أن المتعلم الذي يحاول اكتساب لغة غير لغته الأم دائم المقابلة بين الصيغ التي يتعرف عليها في اللغة الجديدة و الصيغ البديلة أو النظيرة في لغته .فلعله إذا سمع أن الفاعل في الجملة الانجليزية يذكرأولا ، مثل: milk john drinks the تبادر إلى ذهنه أن الفعل هو الذي يتقدم على الفاعل في العربية ، فيقال : يشرب جون الحليب . وإذا سمع أن النعت في الانجليزية يسبق المنعوت فيقال : coming that fat man تبادر إلى ذهنه ان النعت في العربية يأتي بعد الاسم المنعوت ( الرجل البدين قادم ) . أما إذا سمع أن الفرنسية تؤنث الباب I abort فسيتبادر لذهنه أن الباب في العربية مذكر ، لا مؤنث .
وهذ1ه الأمثلة إذا أردنا الدقة لا تمثل في الواقع "مقارنة" بين لغة وأخرى بقدر ما تمثل ضرباً من النظر "التقابلي" فما تختلف به الدارسة المقارنة عن التقابلية هو قيام النظرة التقابلية في العادة على لغتين متجاورتين حيتين , يجري تعليم إحداهما لغير الناطقين بها, لذا يحتاج إلى معرفة ما يقابل الصيغة في اللغة (ا)في اللغة(ب) أو ما يقابل الفونيم في اللغة (أ) في اللغة (ب) أو القاعدة النحوية في اللغة (أ) ومقابلها في اللغة (ب) .(1)
وينظر إلى علم اللغة التاريخي من بعض النواحي على أنه دراسة مقارنة . وفي علم اللغة المقارن يهتم الباحث بمقارنة لغتين أو أكثر من ناحية أو أكثر . ويعتمد علم اللغة المقارن على المقارنة لإيضاح العلاقات التاريخية بين لغات معينة و حصر أوجه التشابه بين اللغات المختلفة دون أي اعتبار للعامل التاريخي .
ويعتمد المنهج المقارن على أسس المنهج التاريخي ، و يختلف عنه في أنه يتتبع الظاهرة اللغوية في أعماق الماضي السحيق ... ومن أبرز نتائج هذا المنهج أنه حصر اللغات الإنسانية المكتوبة، في تسع عائلات مصنفة حسب تشابه كل عائلة في الملامح العامة سواء أكانت صوتية أو صرفية أو نحوية أو دلالية ، والبيان الآتي يوضح هذه العائلات ، وهو مرتب حسب عدد السكان الذين يتكلمون كل عائلة 2))
عدد السكان بالمليون اسم العائلة
1000 الهندو أوربية
500 الصينية و التبتية
100 الإفريقية
100 الدارفيدية
100 اليابنية الكورية
90 الملايو
75 السامية ــ الحامية
60 الأورالية
10 الهندو أمريكية
2ــ علم اللغة الوصفي .
ظل المنهج المقارن في الدراسات سائداً ، حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وظلت نتائجه محدودة في إطارها الضيق ، بناء على طبيعة هذا المنهج ، التي لم تسمح إلا بإقامة الدراسة بين فصيلتين ، أو بين مجموعة من اللغات و مجموعة أخرى .
ولما وضع علم اللغة يده على المنهج الوصفي ، في أوائل القرن العشرين بما قدمه علماء اللغة من جهود متواصلة ، ومحاولات ناجحة في تطوير منهج البحث و الدراسة ، وعلى رأسها الدراسات التي قام بها العالم السويسري "دي سويسر" فيما يتصل بنظريته ( اللغة ووظيفتها ) صار من الممكن بحث اللغة الواحدة وصفياً ، بل القضية اللغوية الواحدة .
ومن هنا ظهر في الأفق اللغوي منهج جديد ، في تحليل البنية اللغوية تحليلاً شاملاً دقيقاً . فأقبل الباحثون على المنهج الوصفي يصطنعونه في بحوثهم المتعددة ، و المتنوعة ، فانتشر هذا المنهج في منتصف القرن العشرين انتشاراً واسعاً ، وبخاصة في أمريكا .(3)
وعلم اللغة الوصفي هو العلم الذي يهتم بوصف وتحليل اللغة كما يستعملها متكلموها في عصر معين ... وقد يكون هذا العصر هو العصر الحالي ، وهذا يصدق على اللغات غير المكتوبة أو اللغات التي كتبت حديثاً وهي اللغات التي لا نعرف شيئاً عن ماضيها. وقد يكون هذا العصر هو العصر الماضي ويشترط لذلك أن تتوفر لدى الباحث مصادر مكتوبة تمثل اللغة في عصر معين من عصور الماضي وذلك هو الحال في دراسة العربية الفصحى ، لتوفر نصوص الشعر الجاهلي ونص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة . والشيء الهام في دراسة اللغة دراسة وصفية في عصر ماضٍ أو حالٍ هو التركيز على اللغة تركيزاً شاملاً في عصر معين و عدم التزحزح إلى عصر سابق عليه أو تال له .
ويعد علم اللغة الوصفي أهم أنواع علم اللغة على الإطلاق فهو يمثل الناحية الجوهرية في الدراسة اللغوية الأخرى ... ونقصد بها علم اللغة التاريخي و علم الدلالة و علم اللغة المقارن.(4)
وقد طبعت الدراسات اللغوية بالطابع الوصفي منذ نشر بواز في العام 1911 كتيبا يصف فيه بعض اللغات الهندو أمريكية الذي اكتفى فيه بوصف اللغات البدائية التي تناولها و منها لغة (هوبي) منبها على ما فيها من سمات خاصة تميزها عن اللغات الأوربية و تجعل منها أداة لفهم الخبرة و التجربة التي يتمتع بها الناطقون بتلك اللغة . ولقد اعتمد على ملاحظة مافي تلك اللغة من قواعد يخلو بعضها مما يدل على زمن الفعل و هل هو فعل ماضِ أمْ دال على الحاضر . فمدلولان مثل He was coming و He is coming يعبر عنهما بعبارة واحدة . وتخلو أيضاً مما يدل على الجمع . وقد تطرق بواز لوصف الأصوات والمقاطع والصيغ ، ولكن الباحث الوصفي الذي تتلمذ له كثيرون و تأثروا به إنما هو ليونارد بلومفيلد .
تأثر بلومفيلد بما ذكره بواز في كتابه سالف الذكر ، تأثرا كبيراً . وتأثر أيضاً بالمدرسة السلوكية في علم النفس ، لهذا فإن الوصف اللغوي المعول عليه عنده هو الوصف القائم على ملاحظة الملفوظ الكلامي غير المدروس ، وغير المعد سابقاً ، من قبل المتكلمين ، فوصف اللغة بناء على ذلك الملفوظ العفوي ، وتجنب استخدام الأسئلة من مثل : ماذا تقول إذا .. وكيف تستطيع قول ذلك في لغتك ؟...إلخ .. وصف أكثر صدقاً و موضوعية وبعدا عن التقديرات الشخصية والانطباعات . ومن أبرز ما تميز به النحو عند بلومفيلد النظر إلى اللغة نظرة متحررة من الآراء الموروثة المسبقة والأحكام المعتادة ، من مثل : الكلام ثلاثة أقسام : اسم ، وفعل ، وحرف . وحتى المعنى ينبغي أن يستبعد من الدراسة النحوية لأن المعاني في رأيه لا تتــعدى ما يستدعيه المثير من ملفوظ محدد باعتباره استجابة سلوكية تستدعي هي الأخرى مثيراً كلامياً مثلما هي الحال في حكاية جيل مع صديقها جاك والتفاحة .(5)
يقصد بعلم اللغة التاريخي دراسة تطور اللغة عبر الزمن الذي تسلكه اللغات في التغير من فترة إلى أخرى و أسباب التغير ونتائجه سواء أكان هذا التغير يرجع إلى سبب لغوي أو إلى سبب غير لغوي . ويجب أن يقوم مثل هذا النوع من الدراسة على أساس وصف اللغة في مرحلتين تاريخيتين أو أكثر من المراحل التي تمر بها اللغة .
ويهتم علم اللغة التاريخي بتتبع التطور الذي يطرأ على اللغة .. أي على الأصوات و الصرف و النحو و الدلالة .. وذلك من خلال المقارنة بين دراسة اللغة في فترتين زمنيتين مختلفتين أو أكثر ، ويعتمد علم اللغة التاريخي في دراسته على الوثائق الثابتة تاريخياً و تظهر هذه الوثائق في عدة أشكال ، مثل النقوش المحفورة على الصخور و الحجارة و على جوانب الجبال و في الألواح الخشبية أو الطينية المحفورة عليها بأدوات رقيقة ، و في ألواح الشمع و في أوراق البردي .
وعالم اللغة التاريخي لا يستطيع الاعتماد على الكتابة فقط لتتبع التطور الذي يطرأ على اللغة لسببين هما :
1ــ أن الصيغة المكتوبة للغة تقوم بدورهام في تعطيل تيار التغيير الذي يلحق لغة الكلام بسرعة، فلغة الكلام عرضة لتغييرات طبيعية فطرية ، لبعدها عن المركز ، وتعبر عن نفسها بسرعة خلال الزمن و تظهر في شكل لهجات عبر الزمان ، فمثلاً نجد أن صوت الغين يعبر عنه في الانجليزية أساً بــ ((gh أما الآن فإن هذا الصوت اختفى من أصوات الانجليزي المعاصر فإنه لا ينطقه ، أما الكتابة فلا زالت ترسم في العصور السحيقة من القدم مثل كلمة (Night) .
2ــ أن الكتابة قد ترمز للصوت برمز يختلف عن الرمز الأصلي لهذا الصوت مثل C التي تنطبق كافأ في (Camel) في حيـــن أن الرمز الأصــلي للكاف هو (k) كما في (Milk) والـ (Ph) في (Elephant) التي تنطق فاء في حين أن الرمز الأساسي له هو F كما في Familly))، بل أن الكتابة قد تثبت الحرف و لكنه لا ينطق ، ونلاحظ ذلك في أل الشمسية مثل: الشمس ، وفي الألف التي تلي واو الجماعة في الأفعال مثل: كتبوا و سافروا وقد يحدث العكس وهو أن يميل النظام الكتابي إلى نطق فتحة طويلة ولكن الكتابة لا تثبتها مثل : هذا و هذه و طه وعبد الرحمن .
لهذا يعتمد عالم اللغة التاريخي على المادة الحية أيضاً أي على اللهجات المنطوقة و يقوم بجمعها جمعاً علمياً بمنهج خاص يعرف باسم الجغرافيا اللغوية ، ويقوم بجمع الصور النطقية المتنوعة على خرائط مكوناتها ما يعرف بلأطلس اللغوي لأن دراسة اللهجات تعتبر أداة توضح جوانب من التاريخ اللغوي القديم ، أي أنها وسيلة لفهم الماضي .
و الباحث في مجال علم اللغة التاريخي يعتمد على الأسس الآتية في تحليل المادة اللغوية الحية و المدونة .
1ــ مقارنة الظواهر اللغوية المرتبطة بتاريخ حدوثها أن أمكن ذلك ، وملاحظة تغيير هذه الظاهرة من فترة إلى فترة .
2ــ عند افتقاد التحديد التاريخي يمكن مقارنة المادة اللغوية المتفرقة قديمها و حديثها واستنباط مظاهر التطور ومساراته خلالها بناءً على الاجتهاد القائم على أساس مجموعة من الاتجاهات العامة التي تتحكم في التطور اللغوي ، ومن هذه الاتجاهات مثلاً الاتجاه إلى التخفيف في بعض الصيغ ، بحيث ريمكن الاستنباط أن الصيغة الخفيفة أحدث من اللهجة التي تتداول الصيغة الكاملة مثل ركبت الفرس ، ونتيجة لهذا التخفيف قد تتحول الأفعال إلى أدوات مثل تحول الفعل نَعِمَ إلى نِعْمَ ، وكان الكاملة إلى كل ناقصة .(6)
المراجع :
(1ــ5) كتاب مدخل إلى علم اللغة .تأليف د/ إبراهيم خليل .ص120و121 .
(2 ــ4 ــ 6) كتاب دراسات في علم اللغة الوصفي و التاريخي و المقارن تأليف د/ صلاح الدين صالح حسنين ص33 و 34 203 و 204 .
(3) كتاب في علم اللغة العام .تأليف د / عبد العزيز أحمد علام . ص28 و 29 .