التصوف عند الغزالي:
يتابع الغزالي من خلال المنقذ من الضلال قصة حياته الفكرية وموقفه من طلاب الحقيقة فيحدثنا بأنه لما فرغ من علم الكلام ومن الفلسفة، ومن الباطنية وتأمل علومهم ودواعيهم ورد عليها ووجد أن كل العلوم لا تفي بطلبه وغايته ولا تشبع رغبته في الاطمئنان إلى حقيقة كاملة لا يعثرها أي ريب ولا يشويها أي وهم، بعد هذا أقبل بكل همته على طريقة الصوفية وجد أن هدا الطريق يتم بعلم وعمل، وغاية العلم عندهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى تصل إلى حالات يكون القلب فيها خاليا إلا من الله وذكر الله. الغرض من العلم الصوفي هو الانسحاب من الدنيا ومتاعها وبهجتها وزخرفها لكي يتفرغ القلب كلية لله. (1)
ومما لاشك فيه أن لا يكون الغزالي قد جاهد بين ذوق العالم و جوادب التصوف فأبصر أن مسار الدنيا، كالتي يمكن أن يذوقها أستاذ هتف لتعليمه، أمر فارغ تافه منكر إلى حد ما. وجميع ما أنت فيه من العلم رياء وتخيل، وهذا ما نادى به صوت الدين، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد، وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع وهذا مثل ما قاله لسان مبشري النصرانية غير مرة ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال فإن أدعت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التذكير و التنغيس والأمن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسه ولا يتيسر إليك المعاودة، وترى أن الغزالي على هذا العراك الباطني بالحقيقة وذلك لأنه ترك التدريس وفارق بغداد كما يقضي حياة زهد. (2)
أن أدرس يوما واحد تطيبا لقلوب المختلفين إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في لساني حزنا في القلب بطلت معه قوة الهضم ومرآة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لقمة، وضعفت قواي ولا سبيل إليه بالعلاج. فلما أحسست بعجزي التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إدا دعاه، وسهل على قلبي الإعراب عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أبدر في نفسي سفر الشام، ودمت بها سنتين لم أشتغل إلا بالعزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى.(3)
ثم رحلت إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها عليا. ثم تحركت في داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وكانت حوادث الزمان ومهمات السؤال وضرورات المعاش تغير في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة. (4)
فالتصوف أمر باطن لا يطلع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يجول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، والضابط الكلي أن كل من هو يصنفه إذا نزل في خائفات الصوفية لم يكون نزوله فيها اختلاطهم بهم منكرا عندهم فهو داخل في غمارهم والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات: الصلاح والفقر وزيي الصوفية وأن يكون منشغلا بحرفة وأن يكون مخالطا لهم بطريق الساكنة في الخائفات.(5)
فأهل الصوفية يميلون إلى العلوم الإلهامية دون التطبيقية فلذالك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنة الهمة على الله.
تعالى، ومهما حصل ذلك كان هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلب قامت عليه الرحمة وأشرف النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقيقة الأمور الإلهية فليس على العبد الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة، مع الإرادة الصافية والصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله من الرحمة.(6)
وتتم طريقة التصوف في رأيه، بعلم وعمل، والعلم أيسر، غير أنه لا يفضي إلى تفهم التصوف على الوجه الحقيقي. فالفرق بين ما يعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه، ومن كانت حاله حال الزهد، كالفرق بين من يدرك أسباب السكر.
إن أخص خواص المتصوفة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، لاعتباره أن الصوفية«أرباب أحوال لأصحاب أقوال». أقبل الغزالي على التصوف وفي نفسه «إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة وباليوم الآخر». (7)
فالصوفية يقولون أن طريقهم تتم بعلم وعمل فهم يزيلون عقبات النفس وينزهونها عن الأخلاق الذميمة، والصفات الخبيثة حتى يخلوا القلب إلا من ذكر الله، وإن الصوفية هي أطهر لسبل وأنقاها، فأولها تطهير القلب ،واستغراقه بذكر الله، وآخرها الفناء بذكر الله. ويعتقد أن التصوف يقود إلى المكاشفات والمشاهدات حتى أن الصوفي في يقظته يشاهد الملائكة والأنبياء ويسمع منهم أصوات ويقتبس فوائد ثم تترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطق، ولا يمكن التعبير عنها وأما الصوفية فيقولون بالحلول، أو يقولون بالإتحاد، أو يقولون بالوصول فهم على خطأ، وإذا كان الغزالي قد انتهى إلى التصوف فهو لم يخالف السنة بل الإيمان بالشريعة يقود إلى التصوف عنده. السنة
على صواب ومن خالفها كانت مخالفته تتراوح بين الهفوة والكفر. (8)
الشكل الصوفي للمعرفة عند الغزالي: تمت الإشارة إلى أن الغزالي قد حدد طريق الوصول إلى المعرفة بالله عن طريق السلوك الصوفي، من خلال الملازمة لذكر الله، والمخالفة لما يشتغل عنه. وهناك تفتح أمام الصوفي أبواب الحقيقة ويصير أهل لمشاهدة الحق كما يرى الغزالي أن المعرفة الصوفية قضية متكاملة من حيث طبيعتها وموضوعها وغايتها والهدف منها، ومن هنا ذهب الدكتور التفتازاني إلى اعتبار تناول الغزالي للمعرفة الصوفية بشكل نظرية متكاملة إذا قورنت بما خلفه السابقون عليها من أقوال متفرقة كما اعتبرت هذه النظرية تطورا ملحوظً في التصوف الإسلامي. (9)
1- المعرفة الصوفية من حيث أدائها: يرى الغزالي أن المعرفة الصوفية ولدت تجربة روحية عميقة، تتجاوز عالم الحس والعقل ومن أراد أن يتذوق مذاق القوم، ويعرف معرفتهم لابد أن يسلك طريقهم يقول الغزالي:«وظهر لي أن أخص خواصهم مالا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل الذوق والحال وتبدل الصفات». هذه التجربة روحية عميقة تتجاوز علم الحس والعقل وصولا إلى الاتصال بمحبوبها الأول فتتعرف عليه بالذوق، وهي نور يقذفه الله في قلب من أحبه، أو هي إشراف الجانب الإلهي في قلب الصوفي عن طريق الكشف. (10)
2- طبيعة المعرفة الصوفية: يقدم الغزالي وصفا لطبيعة المعرفة الصوفية في القلب بعد محو الصفات المذمومة والاستعداد بالتصفية المجردة حيث لا يبقى للعارف إلا الانتظار لما
يظهر من فتوح ومعارف يصفها الغزالي بقوله:«إنها كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود، وقد يتأخر فإن عاد فقد يثبت وقد يكون متخطفا، وإن يثبت امتد ثباته، وقد لا يطيل وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق حتى يقتصر على فن واحد ومنازل أولياء الله فيه لا تحصى لتفاوت خلقهم وأخلاقهم». (11)
3- منهج الغزالي الصوفي في المعرفة: المنهج الذي وجد فيه الغزالي ضالته، وكان طريقه إلى المعرفة اليقينية، وهو منهج الإشراق الصوفي ويعرف أيضا بالكشف الصوفي، الكشف نور يقذفه الله تعالى في القلب، وعلامته كما يقول الغزالي:«التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكناهة الهمة على الله». وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف عند الغزالي ،وبذلك يشير الغزالي إلى منهج الصوفية في المعرفة وهو المنهج القائم على الكشف، وهو منهج لا علاقة له بالأدلة العقلية ، والآقيسة المنطقية، فلا علاقة له بالمقدمات والنتائج ، يقول الغزالي: فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة ، فقد ضيق رحمة الله الواسعة، ويشير الغزالي إلى أن هذا المنهج الكشفي هو منهج الصوفية فهو يقول ولعل ذلك الحال ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم، إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحولا لا توافق المعقولات فمن الملاحظ أن الكشف ليس ذليلا عقليا، ولا تجربة حسية إنه عند الغزالي نور يقذفه الله في صدر الصوفي، وهو معرفة دينية لا علاقة لها بوسائل الإدراك العقلية أو الحسية. (12)
4- غاية المعرفة الصوفية: أما عن غاية المعرفة الصوفية والهدف منها عند الغزالي، فهي لذة الإنسان وسعادته ويذهب الغزالي إلى أن الوصول إلى السعادة وسبيل بلوغها والعمل يقول الغزالي:«إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته، كما يطلب لغيره، فهو وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها وذريعة إلى القرب إلى الله تعالى، ولا يتوصل
إلا به، وأعظم الأشياء في حق الآدمي السعادة الأبدية وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، و لن يتوصل إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذًاً أفضل الأعمال فالعلم يورث صاحبه السعادة في الدنيا والآخرة ففي الآخرة فإن ثمرة العلم كما يقول الغزالي:«القرب من رب العالمين، والالتحاق بالملائكة، ومقارنة الملأ الأعلى. أما في الدنيا، فالعز والوقار، ونفوذ الحكم عن الملوك ولزوم الاحترام في الطباء» ويرتب الغزالي على كل نوع من أنواع المعرفة نوعا من اللذة والسعادة يناسبه فيرى أن سعادة كل شيء هي لذته وراحته وأن لذة كل شيء تكون بمقتضى طبعه وطبع كل شيء وما خلق له فلذة العين في مشاهدة الصور الحسنة، ولذة الأذن سماع
الأصوات الرخيمة، أما القلب فتحصل بمعرفة الله وهي المعرفة التي خلق القلب لها. (13)
الهوامش:
1 - فتح الله خليف، فلاسفة الإسلام دار الجامعات المصرية للنشر الإسكندرية، 1976، ص296.
2 - البارون كارادافو، الغزالي نقله إلى العربية عادل زعيتر، المؤسسة العربية للدراسات بيروت، الطبعة الثانية، 1914، ص179.
3 - أبو حامد الغزالي المنقذ من الضلال، وضع حواشيه وخرج أحاديثه وقدم له أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية للنشر بيروت ، الطبعة الأولى ،1988، ص60.
4 - المصدر نفسه، ص60.
5 - رفيق العجم موسوعة مصطلحات الإمام الغزالي، مكتبة لبنان ناشرون بيروت الطبعة الأولى 2000، ص161.
6 - السابق، ص161.
7 - يوسف فرحات، الفلسفة الإسلامية وأعلامها، جونيف الطبعة الأولى ،1986، ص145.
8 - كميل الحاج ،الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي ،مكتبة لبنان للنشر بيروت ،الطبعة الأولى ،2000 ،ص383.
9 - احمد عبد المهيمن، إشكالية التأويل بين كل من الغزالي وابن رشد، تصدير عاطف العراقي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2001، ص282.
10 - المرجع نفسه ، ص283.
11 - المرجع السابق، ص284.
12 - المرجع السابق، ص290.
13 - المرجع السابق، ص291.