البراغماتية أو التداولية وعلاقتها بأصول الفقه
لم يشهد قرن من القرون السالفة التي عاشها الإنسان، ما شهده القرن العشرون من ثراء في المناهج، ورغبة ملحة في فهم الظواهر، ومحاولة الوصول إلى كنه الأشياء. ولا شك أن الكل يجمع على أن هذا القرن كان ـ ولا سيما بالنسبة للدراسات التي كان النص هدفاً لها ــ زمن تنوع المناهج والحقول النظرية، فقد تأسست الكثير من المدارس وعرفت العلـــوم تطوراً لا مثيل له (1).
لم يشهد قرن من القرون السالفة التي عاشها الإنسان، ما شهده القرن العشرون من ثراء في المناهج، ورغبة ملحة في فهم الظواهر، ومحاولة الوصول إلى كنه الأشياء. ولا شك أن الكل يجمع على أن هذا القرن كان ـ ولا سيما بالنسبة للدراسات التي كان النص هدفاً لها ــ زمن تنوع المناهج والحقول النظرية، فقد تأسست الكثير من المدارس وعرفت العلـــوم تطوراً لا مثيل له (1). ويعتبر علم الدلالة من أبرز العلوم التي شهدت ثراء كبيراً في بحث عـلم اللغة المعاصر، ويـصـطلح عـليـه (semantics) أو السيمانطيقا، ويشكل هذا العلم (الحكم الفصل) والمرجع الذي يرجع إليه عندما تشتد الأزمات الدلالية وتكثر الخصومات الجدلية، بين الدال والمدلول والدلالة. ولقد انبثقت عن هذا العلم وتفرع عنه علوم كثيرة ومتعددة، والذي يهمنا منها ويقع على تماس مع أصول الفقه هو علم البراغماتيك pragmatics)) أو(التداولية) ويقوم هذا العلم على النظر إلى النص من خلال المتكلم وخصائصه الفردية والثقافية والاجتماعية، بحيث ساعد هذا العلم على إخراج النص من مفهومه اللغوي الأولي إلى الدلالات التي عينها المتكلم أو الكاتب، وظروف السامع أو المتلقي(2)، وعند تفسير النصوص الدينية وغيرها من منظور شرح دلالتها يكون للقارئ الدور الفعال في فهم النص وتفهيمه بحيث يكون له سلطة على النص، وهذه السلطة تتمثل في مجموعة إحداثيات تشكلت ضمن بيئة مؤسس لها من حيث الإرث المعرفي والوعي المكتسب، ويمكن تجسيم سلطة القارئ إلى مجموعة طاقات وإمكانيات تعمل معاً لتؤدي وظيفة مشتركة، وظيفة تطويرية تعنى بالاقتراب من منطقة النص المكتوب وفق سياسة عمل منهجية تسهم في دفع عملية القراءة بالاتجاه الصحيح، وتمكن القارئ من تنفيذ جزء من سلطته ضمن عملية القراءة، وتستند هذه السلطة على تمييز وتحديد أبعاد النص المتمثلة بالأبعاد البيئية المكانية والزمانية والأبعاد النفسية والاجتماعية، فكلما امتلك القارئ هذه المنظومة المعرفية استطاع أن يكشف بشكل دقيق عن بواطن النص والغوص في أغواره، فبعد فهم المصطلحات والتراكيب اللغوية التي تؤسس البنية الشكلية للنص يتجه القارئ عبر قدرته التحليلية إلى فهم مراد ومقصود النص(3).
وبذلك تصبح عملية القراءة عملية مؤطرة تدخل فيها مجموعة من الحيثيات والقوالب لا يمكن تجاوزها، وإلا كانت قراءتنا خاطئة. وبالإضافة إلى سلطة القارئ الذي يعيد إنتاج النص وتفعيله وفهمه، فإننا لا يمكننا تهميش دور المؤلف ومقاصده، فالنص قد انطلق منه وهو المالك الفعلي والحقيقي له.
وفي هذا السياق اشتهرت المسلمة القائلة: إنه لا سبيل إلى (فهم اللغة، إذا لم نفهم الخطاب، ولا يمكننا فهم الخطاب إذا لم نأخذ بعين الاعتبار مقصد المؤلف، وهو ما يعبر عنه في علم الأصول (بالمراد الجدي) فللمؤلف الأسبقية في تحديد معنى إنتاجه اللغوي، وهي ضرورة منهجية لفهم الخطاب وتأويله. فالنص لم يعد ملكاً مشاعاً يفعل فيه من شاء ما يشاء، وكيف يشاء، ولا مكاناً مفرغاً من المعنى، إلا ما يعطيه قارئه، ولا هو شكل متغير في ذهن القارئ، ولكن إنتاج لذات لا تزال لها القدرة على التدخل لتحديد معنى ما أنتجته أو بالأصح لتحصينه من كل قراءة عدمية أو فوضوية فالمعنى الحقيقي للنص هو ذلك الذي أراده المؤلف(4).
وبذلك فإننا من خلال هذا المنهج نرى تكاملاً يجعل من عنصر (القصد) أو (المراد) من الخطاب والكلام محوراً أساسياً في عملية التفاهم والفهم، فبين القارئ والمؤلف والمتكلم والمتلقي انسجام وتعاون ومصالح مشتركة في حصول الفهم. وهذا بخلاف المنهج التشكيكي الذي يقوم على أن المتكلم لا يقول الحقيقة، بل هو مخادع مضلل(5).
إن النتائج التي وصلت إليها البراغماتية (pragmatics) أو ما يعرف بالتداولية أو على حد تعبير الدكتور محمد يونس علي (بعلم التخاطب) تشكل نقطة التقاء قوية بين علم أصول الفقه، وإن اختلف علماء الأصول مع اللسانيين في المنطلقات المنهجية، فإن علماء الأصول لم يولوا عناية بالدراسة الصورية والوظيفية للمعنى، ولا بالتفريق المرسوم في اللسانيات بين التفسيرات الدلالية والتخاطبية، ولعل هذا كان نتيجة أن كون حافزهم في الدرس الأصولي إنما هو تأصيل منهجية لفهم القرآن الكريم، وسنة المعصوم، وهذا يعني أن علماء الأصول لم تقف محاولاتهم ــ بمقتضى امتثالهم لأوامر دينهم ـ عند الاجتهاد في فهم النصوص الدينية، بل تعداه إلى أن يستنبطوا منها الأحكام التي تهم حياة المسلمين في الدارين، الدنيا والآخرة.
أما علماء اللغة الغربيون، فقد بدؤوا بحوثهم في فلسفة اللغة بالتركيز أساساً على بنى اللغات، أي اللغة من حيث كونها نظاماً، وليس من كونها سلوكاً، وعندما أعاد اللسانيون المحدثون النظر في قدرة أنموذج الرسالة المثالي للتخاطب على تفسير كيفية التخاطب، أدركوا أن هذا الأنموذج غير صحيح ولذا تبنَّوا مناهج تفترض أنه لا يمكن بلوغ تفسير سليم للغات بدراستها بمعزل عن المقامات التخاطبية الفعلية(6).
وهذا ما تنبه إليه علماء الأصول منذ البداية، أي إلى التفريق بين ما يسمونه الوضع والاستعمال والحمل، وهي من المكونات الأساسية لعملية التخاطب، فقد أدرك الأصوليون الطبيعة التراتبية بين المجالات الثلاث، ولذلك نجدهم قد أفردوا في مدوناتهم مباحث مستقلة وخاصة، سميت (بمباحث الألفاظ).
وقد تطور البحث الأصولي بشكل عام، وخصوصاً البحث الأصولي الإمامي في هذا المجال، ليتم التركيز بشكل أساسي حول مجموعة من القضايا والأمور، وأخص بالذكر منها مبحث الظهورات، والوضع، والدلالات، بحيث حقق الأصوليون ثراء كبيراً في تجلية معاني النصوص، ووضع قواعد لفهم المراد من الخطاب، حيث استطاعوا أن يحققوا وعياً بإشكالات القراءة وأسئلتها. ولما لم تكن هناك إمكانية لعودة القارئ نحو المخاطب منزل الوحي، من أجل سؤاله عن مقاصده وغاياته، ومعانيه المبثوثة في خطابه، فقد سعى الأصوليون إلى التوجه نحو نص الخطاب ذاته، لمساءلته واستفهامه،ليحققوا بذلك قراءة نصية منطلقة من النص ذاته، من خلال ما رسمه النص نفسه من مسلمات لقراءته، ومن خلال المسلمات العرفية والعقلية، فقد ركزت الدراسات الأصولية على لسان الخطاب الإلهي واعتبرته لساناً لا يختلف عن باقي الخطابات البشرية من حيث اللغة، فقد أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وبالتالي فإن معرفته تنطلق من تتبع المعاني التي جاء عليها هذا اللفظ في لغة العرب، وإن تتبع الأصولي لهذه المعاني اللغوية والعرفية لا يعد هدفاً في حد ذاته، وإنما المهم عنده هو الانتقال من المدلول التصوري اللغوي إلى تفسير مدلوله التصديقي وتعيين مراد المتكلم منه، وهذا ما ذكره الشهيد الصدر، حيث اعتبر أن الوصول إلى مراد المتكلم ينطلق من ظهورين:
أحدهما ظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية في معنى معين، ومعنى الظهور في هذه المرحلة أن هذا المعنى أسرع انسباقاً إلى تصور الإنسان عند سماع اللفظ من غيره من المعاني، فهو أقرب المعاني إلى اللفظ لغة. والآخر ظهور حال المتكلم في أن ما يريده مطابق لظهور اللفظ في مرحلة الدلالة التصورية، أي يريد أقرب المعاني إلى اللفظ لغة(7) فإن المهم عند تفسير الدليل اللفظي هو اكتشاف ماذا أراد المتكلم باللفظ من المعنى، لا ما هو المعنى الأقرب إليه في اللغة(8) فغرض الأصولي بالذات هو تعيين ما يدل عليه اللفظ وما قصده وأراده الشارع بكلامه، وما نجده من بحوث حول الوضع والتبادر كلها بحوث انتزاعية حصلت بعد حصول عملية الفهم. فأصول التخاطب قائمة على فهم مقاصد المتكلم ومراده الجدي، فإذا ألقينا الكلام إلى العرف العام اللغوي وما جري عليه الناس في محاوراتهم فسنجدهم يهتمون بالمرادات الجدية وبمقاصد المتكلمين ولا يعبؤون بتحليل كيفية حصول هذا التفاهم. فالشارع حينما ألقى خطاباته فإنما ألقاها إلى العرف العام اللغوي وإلى مرتكز عقلائي عام في فهم الخطاب.
فالقراءة الأصولية إذاً، على الرغم من كونها قراءة نصية فهي لا تلغي دور القارئ، بل تلح عليه وتستدعيه من خلال مسلمة اللسان التي حددها النص لقراءته بوصفها ميثاقاً مشتركاً بين النص وقارئه إلى فعل التأمل والقراءة، بالإضافة إلى أن القراءة الأصولية للنص هي قراءة عقلانية وسطية، بكل ما تعنيه الصفة الأولى من تمنّع عن العبثية والاعتباط، وبكل ما تدل عليه الثانية من اعتدال برفض الإفراط، فلا هي قراءة ظاهرية تقف عند السطح اللغوي، لتلهث خلف كلمات باحثة عن دلالات لا تؤديها قوانين اللسان، ولا يؤكدها انسجام نص الوحي. ولا هي قراءة باطنية مغالية تغّيب المعنى الأصلي للنص. هذا بغض النظر عن تفاصيل ومقتضيات المسائل المطروحة في طبيعة ما تعطيه دلالات الخطاب، من دلالات يقينية أو اطمئنانية أو ظنّية فإن تفصيله نرجئه إلى بحث آخر إن شاء الله.
إن إدراك الأصوليين طبيعة الإشكالات والأسئلة المرتبطة بقراءة نص الوحي وما تمخض عنه من نتائج جعلهم يقتربون من إنجاز بعض المقاربات المعاصرة في قراءة النص، ولا سيما تلك المقاربات التي آمنت بضرورة احترام النص ومراعاة خصائصه ولغته، وخاصة مع المنظور السميائي التأويلي لأمبرتو إيكو الذي يقوم على أن التلقي في جزء كبير منه هو مبرمج من قبل النص أو أن النص يفرض نوع قراءته ويأمر بها(9).
لقد طمح الأصوليون إلى إنشاء نظرية في القراءة يكون بمقدورها أن تنجز قراءة بحيث تكون مدججة بالأدوات والمفاهيم وبناء المساطر المكونة للمنهج الذي يسمح بالوصول إلى معرفة أفضل بالموضوع ومن ثم الوصول إلى الحكم الشرعي الغاية النهائية(10).
السيد جواد سيحي
الهوامش
1) القراءة في الخطاب الأصولي (الدكتور يحيى رمضان) ص1.
2) مجلة الاجتهاد والتجديد ـ العدد الثاني، السنة الأولى ربيع 2006م (علم الدلالة المعاصر ومباحث الألفاظ في علم الأصول) د. محمد علي الحسيني.
3) منظومة القراءة / سلطة القارئ: (عزيز التميمي).
4) الفكر الأدبي المعاصر، جورج واطسن تر، محمد بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980، ص28.
5) القراءة في الخطاب الأصولي ص146.
6) علم التخاطب الإسلامي، الدكتور محمد محمد يونس علي، ص43.
7) الحلقة الأولى ، الشهيد الصدر ص101.
8) الحلقة الأولى ، الشهيد الصدر ص102.
9) Vincent Jouve;la lecture;P:16
10) القراءة في الخطاب الأصولي ص519