كارل بوبر " والعقلانية النقدية. k.poper"
تمهيــــــــد :
لقد كانت الميزة الأساسية للقرن العشرين ، انفتاحه بظهور نظرتين شاملتين في مجال الفيزياء وهما: "نظرية الكم" لماكس بلانك و"نظرية النسبية " لانشتاين . أين كان لهما الحظ الأكبر في تغير بنية العلم. وهنا اتجه النشاط الفلسفي نحو العقل العلمي من خلال قيام فلسفة جديدة هي فلسفة العلم والتي صارت بمثابة منطق للعلم وبالذات العلم الطبيعي.
لقد كانت هناك إسهامات عديدة من خلال التيار الوضعي المنطقي أو ما يعرف "بالتجريبية المنطقية" في التطوير التاريخي للعلم الواقعي أو الطبيعي وذلك من خلال استبعاد الميتافيزيقا عن طريق معيار التحقق. والتحليل المنطقي للغة العلمية ، بيد أن هذا المعيار قد أفضى إلى طريق مسدود لأنه أدى إلى استبعاد العلم الإمبريقي نفسه ، حيث أن قضايا العلم الحديث لا يمكن أن تخضع دائما إلى للملاحظة ، وعليه فإن هذا المبدأ الذي اتخذته الوضعية المنطقية محورا مركزيا في فلسفتها بغرض استبعاد الميتافيزيقا ، لم يكن قادرا على الاستبعاد الكلي لها مما فجر الخلافات الداخلية بين أعلامها وعجل في الأخير بحل هذه الحركة ، وهنا بدأت فكرة التأسيس لاتجاهات جديدة في فلسفة العلم هي اتجاهات ما بعد الوضعية المنطقية والتي من مؤسسيها أعلام كبار على غرار"توماس كون" إمري لاكاتوس" وباول فيرابيد" والذين يعتبرون من أبرز فلاسفة العلم الطبيعي في العقد الأخير من القرن العشرين نجد "كارل بوبر " ذو النزعة العقلانية وصاحب فكرة "مبدأ القابلية للتكذيب" فيا ترى من يكون هذا الفيلسوف ؟ وما هي فحوى هذه النظرية ؟
* كـــارل بوبر(1902-1994 ) :
تعتبر الفيلسوف النمساوي "كارل بوبر" من الأوائل الذين أرسوا قواعد وأسس العقلانية النقدية، والتي جاءت بمثابة تقيم خاص للوضعية المنطقية ، وفيما بعد لاقت أفكار "هيوم" للنتائج والاستدلالات الاستقرائية ، ولكنه لم يكن راضيا بالتفسير السيكولوجي الذي برر به "هيوم" موقفه هذا . حيث أكد "بوبر" أن فلسفة العلم في عصره – الأيام الأخيرة من اتجاه " ج.س.مل" ونهاية كتاب الوضعية المنطقية- كانت تؤمن بصحة الاستدلالات الاستقرائية، ومنه توصل "بوبر" إلى هذا الحكم : أن فلسفة العلم بسبب التراث التجريبي إلى طريق مسدود. وأن الطريق الوحيد لوضع الأمور في نصابها هي أن نجعل العلماء يتجهون نحو نظرياتهم والبحث عن الأمثلة التي تكذبها أكثر من البحث عن الأمثلة التي تحققها أو تدعمها.
ولتوضيح كيفية حدوث ذلك، يميز "بوبر" بين (04)أبعاد في فحص أي نظرية علمية:
1 ـ إخضاع النتائج فيما بينها للمقارنة المنطقية ، من أجل التثبت أو التأكد من انسجامها الداخلي وخلوها من التناقض.
2 ـ البحث في الشكل المنطقي للنظرية العلمية فيما بينها اذا كانت طبيعة تجريبية أو تحصيلية.
3 ـ مقارنتها بالنظريات الأخرى لمعرفة ما إذا كانت تقدم حقا نتائج تزيد من المعرفة العلمية.
4 ـ اختبار النظرية عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج المشتقة منها.
* مـــــــا الحقيقة عند كارل بوبر؟
ينطلق بوبر من أن الحقيقة تكمن في مطابقة القضايا والنظريات للواقع ، ولكن هذا غير كاف عنده إذ أن القول بيقينية النظرية العلمية هو مثال أعلى كاذب . فالعلم عنده يتعامل مع نظريات، والنظريات معرضة دوما للتكذيب والنقد والدحض ، وأحسن النظريات التي دحضت وسمحت لنظرية جديدة بأن تقوم مكانها ، وهكذا يتمكن العلم من أن يسير إلى الأمام ودون نهاية ، مما جعل المعرفة العلمية كلها حسبه تقوم على الافتراضية (دون طابع افتراضي).
والحقيقة أن تأثير "كارل بوبر" على القرن 20 كان قويا إلى درجة كبيرة ، ويظهر ذلك من خلال تشديده على ضرورة الحاجة إلى فحص نقدي للأفكار ، وأيضا دعوته الموجهة إلى العلماء من أجل التركيز في أعمالهم عن التكذيب لأفكارهم أكثر من التحقق منها ، وضرورة تمييزهم بين العلم الحقيقي والعلم الزائف ، إضافة إلى ذلك أنه أول من مهد السبيل إلى الاهتمام بالإبستيمولوجيا المستندة إلى مبادئ سوسيولوجية.
نقد ومناقشة للنزعة البوبرية:
رغم أهمية الأفكار التي دعا إليها "بوبر" من خلال نزعته العقلانية النقدية لمشكلة الإستقراء وقوله بمبدأ القابلية للتكذيب كأساس منطقي للاختبار النظرية العلمية ، إلا أنه لم يسلم تكذيبه من انتقادات تدريجية هي الأخرى من طرف تلاميذه ومعارضيه أمثال : "أمري لاكاتوس" و"فيرابيد"..... إلخ. حيث زاد رواج – العقلانية النقدية- في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و إنجلترا وألمانيا، إلى أن أصبحت من أهم تيارات الفلسفة العلمية ...
لقد كان عام 1919 هو العام الذي حضر فيه "بوبر" محاضرة لأنشتاين في فينا وكان منبهرا بالمدخل الجديد في الفيزياء .وفي العام نفسه أعلنت البيانات الرصدية التي أجراها العالم الفلكي الإنجليزي " إدينجتون" والتي بدت أنها مطابقة لتنبؤات بالانحراف الجاذبي للضوء ، ولقد عقد بوبر مقارنة بين هذه التنبؤات المحكمة التي أتت بها الفيزياء الحديثة وبين الموقف المتحصل من العلوم الثلاث المشهورة : النظرية الماركسية للتاريخ والتحليل النفسي لفرويد وعلم النفس الفردي لأدلار، فوجد أن هذه العلوم تخفأ بوضوح في إجراء تنبؤات مصاغة بإحكام ، ويمكن إخضاعها إلى اختبار تجريبي مباشر أو غير مباشر . ومنه توصل "بوبر" إلى النتائج التالية ( كان ذلك بين 1919/1920):
ــ يمكن الحصول على إثباتات أو تحققات لكل نظرية تقريبا لو أننا بحثنا عنها.
ــ كل نظرية علمية جادة وحقة إنما هي منع أو حضر : فهي تمنع أشياء أن تحدث ومنه فالنظرية الأفضل هي التي تمنع أكثر.
ــ النظرية التي لا يمكن تفنيدها لا تعتبر نظرية علمية ، أي خضوع النظرية العلمية لمبدأ القابلية للتكذيب.
ــ كل اختبار لنظرية ما ، إنما هو محاولة لتفنيدها .
ــ لا يمكن تأكيد أي إثبات لأي نظرية ما دون أن تكون نتيجة لاختبار أصلي ، إذ هنا تتجلى أهميتها.
وكتلخيص لهذه النتائج نوظف مقولة "كارل بوبر" من كتابه "منطق الكشف العلمي" الذي صدر سنة 1959. حيث يقول في الصفحة 36 ما يلي :{...إن المعيار الذي يجعل النظرية تتصف بأنها علمية هو قابليتها للتكذيب ، أو التفنيد أو الاختبار، وليس قابليتها للإثبات.....}.
بدية هذا الطرح ، يصرح "بوبر" وفي سنة 1923 أنه أصبح مهتما بمشكلة الاستقراء، منطلقا من كتابات ومواقف أول من أثار تلك المشكلة الذي هو "هيوم دافيد" معلنا موافقته للدحض الذي قدمه للعديد من الانتقادات . فالبرغم من أن النظريات التي يمكن تكذيبها هي فقط التي تؤلف للعلم الحق ، هي ذاتها ليست بلا مشكلات ، فلو أجرى التنبؤ على أساس نظرية علمية حقة برهن على كذبها، فلن نستطيع أن نتأكد أبدا حتى منطقيا ما إذا كانت النظرية كاذبة أم لا؟ فلا يزال هناك ضعفا في قلب المذهب التكذيبي البوبري ، والذي ربما كان يقصد من خلاله هدم المذهب الاستقرائي.
أهم المصادر :
*ـ كارل بوبر ، منطق الكشف العلمي ، تر.ماهر عبد القادر ، دار المعرفة الجامعية ، ط2، الإسكندرية ، سنة 1987.
*ـ ماهر عبد القادر محمد علي ، المنطق ومناهج البحث ، دار النهضة العربية ، د ط ، بيروت ، سنة 1985.
*ـ محاضرة الأستاذ دليل محمد بوزيان – فلسفة العلوم الطبيعية ،