آليات التحليل الأسلوبي :
إذا كان علمُ اللغة يدرس ما يقال فإنّ الأسلوبية تدرس كيفيةَ ما يقال مستخدمةً الوصفَ و التحليل ( 1 )، و على هذا الأساس يكون توجّهُ الأسلوبية نحو تحليل النص لاستكشاف العنصر التأثيري للأدوات البلاغية التي يوظّفها الكاتبُ في نصّه.
و المهمُّ الإشارةُ إلى أنّ التناول الأسلوبيّ إنّما ينصبّ على اللغة الأدبية لأنها تمثّلُ التنوّعَ الفرديّ المتميّزَ في الأداء بما فيه من وعيٍٍٍ و اختيارٍ، و بما فيه من انحرافٍٍٍ عن المستوى العاديّ المألوف بخلاف اللغة العادية التي تتميز بالتلقائية و التي يتبادلها الأفراد بشكل دائم و غير متميّز ( 2 ) .
تستند الأسلوبية إلى ازدواجية الخطاب حيث نجد مجموعةً من الألفاظ يمكن للمتكلّم أن يأتيَ بواحدٍ منها في كلّ جملة من جمل الكلام ( 3 )، و يمكن أن تقومَ واحدةٌ مكان الأخرى ،فاختيارُ المتكلّم و الكاتب ( المرسل ) هذه المفردةَ دون الأخرى يخضع لخصوصية أسلوبه، فتدرس الأسلوبية هذا الاختيارَ و تبيّن دلالتَه و أثرَه الفنيَّ في المرسَل إليه، فمجالُ الأسلوبية يكون مقتصراً على مكوِّنات النص الداخلية فلا يتعدّاها إلى ما هو خارجيّ من العوامل المؤثرة.
و ينطلق البحثُ الأسلوبيّ في مقاربته النصَّ الأدبيّ من المقولات الآتية:
الاختيار - التركيب - الانزياح
ً1- الاختيار :
يقصد به انتقاءُ المنشئ لسماتٍ لغويةٍ معيّنة بغرض التعبير عن موقفٍ معيّن ( 4 )، و هذا الانتقاء يجعل من الأسلوب عملاً واعياً لأنّ اختيارَ المبدع هذا اللفظَ أو التركيب دون غيره إنّما لأنّه أقدرُ على حمل مراده إلى حيّز الورق حسبَ تقدير هذا المبدع.
و للاختيار صورٌ متعدِّدةٌ ،فمنها ما يُختار على مستوى اللفظ أو المعجم و منها على مستوى التركيب ( النحو ) فيغدو الأسلوبُ بذلك استثماراً و توظيفاً للطاقات الكامنة في اللغة ( 5 ) .
و من صور الاختيار ما ينشأ من التعبيرات المجازية و هذا يتجاوز المفردة لينظر إلى التركيب مجملاً، فمن أمثلته قول بشارة الخوري:
انشروا الهولَ و صبُّوا نارَكمْكيفما شئْتُمْ فلن تلقَوْا جبَانا
يمكن أن نجدَ على محور الاختيار فيما يتعلّق بالتركيب ( صبّوا نارَكم ) بدائلَ كثيرةً مثل: أطلقوا، ارموا، اقذفوا، صبّوا ... إلخ، لكنّ الشاعرَ آثر( صبّوا) ظنّاً منه أنّ الفعلَ (صبّ) الذي يوحي بالغزارة يمكن أن يؤدّيَ المرادَ أكثرَ ممّا تؤدّيه بقيةُ الأفعال المنتظرة على جدول الاختيار.
2ً- التركيب :
يقوم التركيب بنظم الكلمات المختارة في الخطاب الأدبي متوسّلاً في ذلك بعمليتي الحضور و الغياب، الحضور للكلمات المختارة و الغياب للكلمات الأخرى المصفوفة في جدول الاختيار، و الدخول في علاقة جدلية أو استبدالية، فالكلمات الأخرى تتوّزع غيابياً في شكل تداعيات للكلمات المنتمية لنفس الجدول الدلالي ( 1 ).
( إنّ صورة الغياب هذه تعطي للأفعال معانٍ* إضافيةً لأنها بالنصّ دائماً حافّةٌ، كما تعطيها أيضاً قيمةَ الشهادة على أسلوبية الجملة ) ( 2 ).
فالتحليل هو دراسة الانسجام الحاصل بين المفردات و الأثر الجمالي و الفني الذي يتركه في ذهن المتلقّي، و على هذا يكون الأسلوبُ عند ( جاكبسون ) تطابقاً لجدول الاختيار على جدول التأليف أو التركيب ( 3 ).
إنّ الدّرسَ الأسلوبيّ لا يقف عند توصيف بنية التركيب في الخطاب الأدبي بل يستقصي من خلال ما يتفرّع عنها من أشكالٍ تعبيرية كالتقديم و التأخير و الحذف و الذكر و التعريف و التنكير ... إلخ فكلّ شكلٍٍ من هذه الأشكال هو خاصيةٌ أسلوبية ذاتُ دلالة خاصّة بتركيبها ضمن النّسق اللغوي.
3ً- الانزياح :
ورد مصطلحُ الانزياح كثيراً في الدراسات القديمة و الحديثة و اتخذ أكثر من تسمية منها الانحراف و العدول و الإبداع و التغيير و الخروج ... إلخ ( 1 ). و هو يُعدُّ مؤشّراً على أدبيّة النصّ و شهرته لأنّ الخروج عن النسيج اللغوي العادي في أيّ مستوى من مستوياته ( الصّوتي، التركيبي، الأسلوبي، البلاغي ) يمثّل بحدّ ذاته حدثاً أسلوبياً ( 2 ).
و الانزياحُ هو الرّكن الذي بني عليه جان كوهن كتابَه ( بنية اللغة الشعرية ) إذ عدّ الانزياح مبدأ الشعرية، و الانزياحُ لا يكون شعريّاً إلا إذا كان محكوماً بقانون يجعله مختلفاً عن غير المعقول ( 3 )، و هذا ما يتجلّى في علاقةٍ مفردةٍ ما مع المفردات الأخرى ضمن السّياق، فكلمة ( السّماء ) لا تشكّل انزياحاً إلا إذا أُسند إليها فعلٌ لم يعتدْ أن يُسندَ إليها مثل ( بكت ) ليتشكّل انزياحٌ يُسمّى في البلاغة استعارةً ،فعلاقة( السّماء) مع (بكت) يمكن دراستُها ضمن مجال الدّرس الأسلوبي، فوظيفتُه أي ( علم الأسلوب ) تبيانُ الوظيفة التأثيرية و الجمالية و الدّلالية لهذا الانزياح.