ماهية الجملة:
تظاهرت البحوث اللغوية منذ أٌقدم العصور إلى الآن على الوصول إلى تعريف جامع مانع للجملة حتى زاد عدد التعريفات على ثلاثمائة تعريف.
ولاشك أن " هذه الكثرة الكاثرة من التعريفات تبرز الصعوبات البالغة في تحديد "1 ماهية الجملة.
فأنت تصطدم بكثير من التعريفات التي يتعين عليك تبني تعريفا منها ليتسنى لك المضي قدما في اختيار منهج التحليل الذي يتوافق مع مفهومك لماهية الجملة.
فهل تتخير التعريفات التي تتكئ على المعنى، أم تتخير تلك التي تعتمد على الشكل، أم التي جمعت بين المعنى والشكل، أم تتبنى منهجا متكاملا تولفه من هذه المناهج مجتمعة ؟! وهل يقصد بالجملة الجملة النمط (النموذج) أم الجملة التي حددها التحليل النحوي ؟ . ولامحيص لك عن الاختيار.... !! .
الجملة عند النحاة العرب:-
أولا: معيار المعنى:
انقسم النحاة العرب إلى قسمين عند تحديد معنى الجملة، فذهب جماعة منهم إلى أن الجملة هي الكلام، والجملة والكلام كلاهما ما أدى معنى تاما يحسن السكوت عليه، فهما - إذن- "مصطلحان لشيء واحد"2
ومن هؤلاء: ابن جني، والزمخشري وابن مالك في، وعباس حسن في "النحو الوافي"
قال ابن جني في" الخصائص": " أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه وهو الذي يسميه النحويون الجمل نحو زيد أخوك وقام محمد"3.
ويعلق الدكتور إبراهيم عبادة على هذا الكلام بقوله: " فابن جني يرى أن الكلام والجملة مترا دفان، وأنهما ما يؤدي معنى مفيدا مستقلا بنفسه، أما مالا يؤدي معنى مستقلا بنفسه فسماه قولا".4
فنحن أمام مصطلح جديد هو القول، والقول لديهم أعم من الكلام والجملة، "فالكلمات المفردة والمركبات التي لم تتضمن معنى مستقلا بنفسه لا تسمى كلاما، بل تسمى قولا".5
وذهب الزمخشري إلى كلام يشبه هذا الكلام، فقال: "الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وذلك لا يتأتى إلا في اسمين كقولك "زيد أخوك وبشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مدخل لدراسة الجملة العربية، محمود أحمد نحلة ص11.
(2) الجملة العربية تأليفها وأقسامها، فاضل صالح السامرائي ص11.
(3)الخصائص ابن جني 1/17 .
(4) الجملة العربية مكوناتها – أنواعها – تحليلها ص19.
صاحبك أو في فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق عمرو " 1.
الزمخشري هو الآخر يجعل الإفادة شرطا من شروط تعريف الجملة أو الكلام، فالجملة إذا لم تؤد معنى تاما من خلال علاقة الإسناد فهي لديه قول، فجملة الخبر و النعت و الحال ومفعول القول والمضاف إليه ( الجملة المضافة إلى إذا) وجملة جواب الشرط الجازم والتابعة والجملة التابعة لجملة لها محل من الإعراب تدخل تحت مصطلح "القول".
والحقيقة أنهم على كثير من الصواب ذلك أن النحاة أولَوا الجملة التي لها محل إعرابي – دائما – باللفظ المفرد فالإسناد في هذه الجمل ليس مقصودا لذاته، والجملة أدت وظيفة نحوية لا يقوم بها إلا المفرد ولم يقصد بها الإخبار، وإذا فصلت عن التركيب الذي وردت فيه فقد الإسناد قدرته على صناعة المعنى، إذ المعنى المقصود هو الوظيفة النحوية التي تؤديها الوحدات أو الكلمات في إطار الإسناد.
فعندما نقول: "الخائن خسيس" فإن المعنى الحاصل في الذهن جاء من خلال الوظيفة النحوية لكل من كلمتي الخائن التي قامت بوظيفة المبتدأ، وخسيس التي أدت وظيفة الخبر، وكذلك إذا قلنا "رحل المستعمر" فالمعنى المتصور لا يحصل إلا من خلال أداء الكلمتين السابقتين للوظيفة النحوية المتعينة في إطار الشكل اللغوي السابق، وهو شكل لغوي مستقل قائم على علاقة الإسناد.
أما الجملة التي تقع في إطار جملة كبرى كجملة الحال والخبر وغيرهما كقولنا " زيد ثوبه نظيف" فهي كقولنا "زيد نظيف الثوب" فأدت جملة "ثوبه نظيف" وظيفة كلمة "نظيف الثوب" وهي وظيفة الخبرفي الجملة الاسمية، مع إقرارنا ببعض الاختلاف في المعنى الحاصل من اختلاف الترتيب، وإذا انتزعنا جملة "ثوبه نظيف" بهدم علاقة الإسناد أصبح ضمير الغائب بغير عائد وفقدت الجملة قدرتها على الإخبار، وباتت كلمة "ثوب" عاجزة عن التمحض لوظيفة الابتداء، وكلمة "نظيف" عن التفرغ لوظيفة الخبر، وأصبح الإسناد غير مقصود لذاته، أو إسناد صوري.
إذن نحن – عند أصحاب هذا الاتجاه- أمام قطعة عملة لها وجهان التركيب والمعنى، فكل تركيب لا يفيد معنى وإن كانت عناصره قائمة لا يسمى جملة إلا على سيبل المجاز " وأما إطلاق الجملة على ما ذكر من الواقعة شرطا وجوابا أو صلة فإطلاق مجازي لأن كلا منهما كان جملة قبل فأطلقت الجملة عليه باعتبار ما كان"1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- همع الهوامع السيوطي 1/13
إذن ما اكتمل بناؤه وتم معناه جملة موضوعية(حقيقية)، وما اكتمل بناؤه ولم يتم معناه ليس جملة( مجازية)، فالمعنى شرط من شروط صحة مفهوم الجملة، ويمكن أن نمثل لهذا المفهوم بالمعادلات الآتية:
الجملة موضوعية = مسند + مسند إليه + معنى تام = الجملة الاسمية.
= مسند إليه + مسند + معنى تام = الجملة الفعلية.
الجملة المجازية = مسند + مسند إليه - معنى ≠ الجملة اسمية .
= مسند إليه + مسند - معنى ≠ الجملة فعلية .
فالمعنى مكون من مكونات التركيب في الجملة عند أصحاب هذا الاتجاه، وهذا-بغير شك- له دور هام في بيان حدود الجملة وأبعادها،
فبالاعتبار السابق سنرى عند التحليل لـ: " محمد يلبس ثوبا رائحته طيبة " أننا أمام جملة واحدة، تمثل الجمل الصغرى فيها دور الكلمات المفردة.
الجملة الاسمية = المبتدأ( محمد)+ الخبر( يلبس ثوبا ) + نعت (رائحتة طيبة).
أما إذا غضضنا الطرف عن المعنى فسوف نجد أنفسنا أمام ثلاثة جمل: جملة اسمية كبرى + وجملة فعلية واقعة خبر + جملة اسمية واقعة نعت.
فعلى الرغم من أن العناصر السابقة تفاعلت معا لتنتج معنىً لايمكن لكل عنصر أن يعطيه منفردا، إلا أننا عند تحليلها على أساس الشكل فإننا نبحث عن عناصر النمط الشكلي أو الصوري لكل جملة على حدة، وبذلك يمكن تحليل الجملة السابقة على اعتبار المعنى من خلال المشجر التالي:
محمد يلبس ثوبا رائحتة طيبة
مبتدأ خبر(جملة)
| |
محمد يلبس ثوبا +(نعت) رائحته طيبة
يلبس ثوبا رائحته طيبة.
فعل مفعول (ثوبا) مبتدأ خبر
| | |
يلبس فاعل غائب( هو) رائحته طيبة
مضاف ( رائحة) مضاف إليه (الهاء)
و إذا كان أصحاب الاتجاه الأول قد اهتموا بالمعنى، فإنهم لم يهملوا الشكل، ولكن اهتمامهم بالمعنى كان لاعتقادهم أن المعنى أقدر على تحديد أبعاد الجملة، وأكثر صدقا في بيان أبعادها، خصوصا أن قضية المعنى نشأت في فترة مبكرة في كنف البحث عن معاني القرآن، فهذا نافع بن الأزرق الخارجي يلقي على ابن عباس عددا من الأسئلة تدور كلها حول قضية المعنى.وقد يكون ذلك تخفيفا من حدة القياس والصورية في الفكر النحوي آنذاك.
كما أن فيه أبلغ الرد على الذين وصموا العربية بالتكلف، ووصفوا علماءها الأفذاذ بالاصطناع فهذا الجابري يقول:"إن طريقة الخليل في إبداع معجمه العين، وهي طريقة التقليب " لم تكن إلا مظهرا واحدا من مظاهر الصنعة والاصطناع، التي تعرضت لها اللغة العربية في عصر التدوين، والتي جعلت منها قوالب جامدة ونهائية "1.
ثم يقول في موضع آخر: " لقد اتجه جامعوا اللغة ورواتها إلى البادية، وأصبح هؤلاء الأعراب الأقحاح، وأصبح هؤلاء الأعراب الحفاة العراة مطلوبين بكل إلحاح ": ولا أظن انه يخفى عليك ما تنطوي عليه هذه العبارة من شعوبية خبيثة وتحقير مقيت للعرب.
ويقول في موضع ثالث: "إن جمع اللغة من الأعراب دون غيرهم، معناه جعل هذه اللغة محدودة بحدود عالم أولئك الأعراب"2.
ثم يقول: " إن العالم الذي نشأت فيه اللغة العربية، أو على الأقل جمعت منه، عالم حسي لا تاريخي، عالم البدو الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانا بل فضاء فارغا هادئا، كل شيء صورة حسية، بصرية أو سمعية"3.
فلم لا يكون مثل هذه الأفكار في البيئة النشطة التي نشأ فيها النحو العربي دافعا قويا دفعهم لتحري المعنى، خصوصا ما أثاره الكوفيون من نقد حول أحد أصول التقعيد لدى البصريين، وهو القياس، وكذلك ما نشأ من صراع فكري بين العرب وغيرهم من أصحاب الأصول غير العربية حول قضية اللفظ والمعنى. فقد "قيل إن أنصار اللفظ، وأنصار العبارة من العرب، أو من المتعصبين للعرب، وأن أنصار المعنى من غير العرب"4.
ولست ادري ما الذي جعل علماء العرب يناصرون اللفظ دون المعنى، وهل يمكن إن يوجد لفظ دون معنى ؟ ، وهل يمكن أن تكون قضية اللفظ والمعنى صورة للصراع الخفي بين العرب والشعوبية على اعتبار أن " لنا لسان وبيان، فيجيبهم لسان حال أولئك: ولنا فكر وعقل"5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- العربية الفصحى و القرآن الكريم رمضان عبد التواب 23.
2- المرجع السابق 23.
3-المرجع السابق .24
4- قضية اللفظ والمعنى وأثرها في تدوين البلاغة علي محمد حسن العماري 10.
5- أبو هلال ومقاييسه البلاغية والنقدية بدوي طبانة 123 نقلا عن المرجع السابق 10.
والأولى من ذلك ــ مع تقديرنا لما ذكر ــ أن " هذه القضية نشأت في البيئة الدينية، وان لها اتصالا قويا بإعجاز القرآن فذلك ما نرجحه، إذ أن الجماعات الأولى التي دار في أوساطها حديث اللفظ كانت تتحدث في إعجاز القرآن "1.
فهذا أبو عبيدة في مجلس الفضل بن الربيع والي البصرة، يسأله إبراهيم بن إسماعيل الكاتب عن قوله تعالى:"إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين"2 وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم. أما سمعت قول امرئ القيس:
أتقتلني والمشرفي مضاجعي ومستنة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوه به، فاستحسن الفضل ذلك، واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن من مثل ذلك وأشباهه، وما يحتاج إليه من عمله. فلما رجعت عملت كتابي "المجاز".2
وكان لتصور اللغة في البيئة الأصولية أبلغ الأثر في إعطاء المعنى تلك الأهمية سواء تعلق البحث في هذه البيئة بأصول الدين أم بأصول الفقه، ففي بيئة المتكلمين أثيرت قضية الأسماء والصفات، والتشبيه والتعطيل، والفقهاء أبصارهم شاخصة إلى الحوادث المتجددة في محاولة جادة لإدراجها في إطار حكم شرعي يستوعبها، وينظمها في عقد الأحكام الشرعية النضيد، وصاحب الكلام والفقيه في حاجة إلى تحديد دقيق للمعنى حتى يتمكن من تجلية قضايا العقيدة، ومعرفة الحكم الشرعي، فلا مناص من دراسة المعنى دراسة واعية،
"ومن هنا كان عمل الشافعي ــ في كتاب الرسالة ــ لمنطقة اللغة على هدي من منطق تلك اللغة"3.
كذلك كان لطبيعة التطور في بيئة اللغويين نحاة وبلاغيين ومعجميين دور كبير في بحث قضية بين اللفظ والمعنى، " فمنذ عصر التدوين اهتم العلماء أمثال مقاتل بن سليمان (150هـ) بتعدد معاني الكلمات والعبارات في القرآن الكريم، كما تناول الفراء(207هـ)، في "معاني القرآن"، وأبو عبيدة معمر بن المثنى (210هـ) في "مجاز القرآن"، ظاهرة التجوز والاتساع في الخطاب القرآني.ثم تواصلت جهود العلماء العرب، بعد ذلك، منبئة عن رؤى متكاملة وبصائر نافذة استطاعوا من خلالها، في كثير من الأحيان أن يجتازوا إطار اللغة العربية إلى نطاق التأمل في الكلام البشرئ عموما،. باعتباره ظاهرة كونية"4.
تلك ـ إذن ـ جملة من العوامل التي أدت إلى دراسة المعنى من خلال منطق اللغة ذاته، وبدا ذلك جليا في تعريف علماء اللغة للجملة، واعتبار المعنى ركنا أصيلا من أركانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قضية اللفظ والمعنى على العماري 10، 11. 2- التطور اللغوي عند الأصوليين السيد أحمد عبد الغفار 2.
3- المرجع السابق 5.
4- الأبعاد المعنوية في الوظائف النحوية أسامة كامل جرادات 20، 19.
ثانيا: معيار الشكل(الإسناد):
وأصحاب هذا المعيار يفرقون بين الجملة والكلام، فهذا الرضي يفرق بين الكــــــلام والجملة
ليس المقصود بمعيار الشكل أن أصحاب هذا الاتجاه أهملوا المعنى، وإنما يعني أنهم استعانوا بمعيار مع معيار المعنى، يجعلهم أكثر قدرة على تحليل الكلام إلى عناصره الأولية، " لأن ذلك ينسجم مع منهجهم العام، وهو منهج تحليلي غايته فهم اللغة وأبعادها المتنوعة وتحليلاتها المختلفة"1.
ومما يؤيد هذا الزعم أن هذا الاتجاه جاء عند النحاة المتأخرين تاريخيا عن أصحاب الاتجاه الأول، فابن هشام والرضي متأخران عن الزمخشري وابن جني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ