من المفاهيم التي أثبتت جدارتها و فرضت نفسها على الحقلين الأدبي و النقدي، و باقي الحقول التي يتقاطعان معها، مفهوم الخطاب الذي ازدهر بقوة بظهور مباحث علم اللسانيات و ما تلا ذلك من تطورات منهجية و نقدية، امتدت لتشمل حقولا أخرى كعلم النفس و الاجتماع و غيرها من العلوم و المعارف المعاصرة التي جعلت من تحليل الخطاب عمدة أساسية لفهم و تحليل و مناقشة النصوص و القضايا و الأفكار المطروحة، وفق ما تمليه حدود و ميكانيزمات التلقي و التأويل، و التفكيك و التركيب، وكذا آفاق الحوار و التواصل.
Ι- الخطاب :
إذا حاولنا تأصيل مفهوم الخطاب، فإننا سنعود إلى ما أنتجه تراثنا – أولا – بدءا بالمعاجم الأساسية، إذ نجد " لسان العرب" في تعريفه اللغوي يورد أن الخطاب هو مراجعة الكلام (1) بين طرفين أو أكثر، بحيث يتم تبادل رسائل لغوية. وهو نفس المعنى الذي نجده عند التهانوي حين عرف الخطاب بأنه توجيه الكلام نحو الغير للإفهام (2)، و نجده كذلك عند أبي البقاء الكفوي في " الكليات" حين يقول : (( الخطاب هو الكلام الذي يقصد به الإفهام، إفهام من هو أهل للفهم، و الكلام الذي لا يقصد به إفهام المستمع، فإنه لا يسمى خطابا)) (3).
من هذه التعاريف نستنتج أن التراث العربي تحسس أهمية الخطاب و الدور التداولي الذي يعتبر أهم شروطه، مثلما نجد أسس النظريات اللسانية كامنة فيه، فإذا كان هذا الحقل الحديث اليوم قد اعتبر الجملة أصغر وحدات الخطاب، فإن الجرجاني منذ قرون يلمح إلى هذا المعنى بقوله بأن الكلام هو (( المعنى المركب الذي فيه الإسناد التام أو ما تضمن كلمتين بالإسناد )) (4) ؛ وهذا المعنى المركب له دلالات هي التي يتم تبادلها بين أطراف العملية التخاطبية التواصلية : كما يؤكد على ذلك النقد العربي الحديث الذي خرج من عصور الانحطاط، واحتك بالنقد الغربي في مدارسه المختلفة و بالاتجاهات الفكرية و الفلسفية المواكبة لظهورها. فمن التعاريف الحديثة للخطاب أنه (( مظهر نحوي مركب من وحدات لغوية، ملفوظة أو مكتوبة، تخضع في تشكيله و في تكوينه الداخلي لقواعد قابلة للتنميط و التعيين مما يجعله خاضعا لشروط الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه أسرديا كان أم شعريا )) (5)، بل إن الخطاب يخضع للحقل المعرفي الذي ينتمي إليه، لذلك نجد الخطاب الأدبي و الخطاب النقدي، و الديني، و الفلسفي، و السياسي، و الإيديولوجي ... الخ.
لقد لعبت اللسانيات و البنيوية دورا كبيرا في تحديد مفهوم الخطاب، و الذي اهتم به بشكل علمي جماعة الشكلانيين الروس، الذين دعوا إلى تأسيس علم الأدب بالتركيز على الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما أدبا. كما انتقلت اللسانيات من الاهتمام بالجملة إلى الاهتمام بالخطاب باعتباره متتالية من الجمل، ف "هاريس" و هو أول لساني حاول توسيع مجال البحث اللساني، بجعله يتعدى دراسة الجملة على دراسة الخطاب، يعتبر الخطاب عبارة عن ملفوظ طويل، أو هو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر، بواسطة المنهجية التوزيعية و بشكل يجعلنا في مجال لساني محض (6).
و يقدم أصحاب "معجم اللسانيات" ثلاثة تحديدات للخطاب (( فهو، أولا، يعني اللغة في طور العمل، أو اللسان الذي تتكلف بإنجازه ذات معينة (...)، و هو يعني ثانيا وحدة توازي أو تفوق الجملة، ويتكون من متتالية ... لها بداية
و نهاية، وهو هنا مرادف للملفوظ. أما التحديد الثالث، فيتجلى في استعمال الخطاب لكل ملفوظ يتعدى الجملة منظورا إليه من وجهة قواعد تسلسل متتاليات الجمل)) (7). هكذا تتعدد التحديدات الخاصة بمفهوم الخطاب، خصوصا إذا استحضرنا الكم الهائل من التعريفات الصادرة عن النقاد، و التي تتسم بعدة سمات تترواح بين التكامل و التنافر، وأحب أن أضيف، تعضيدا لما سبق، تعريف معجم ﮔﺮيماص و كورتيس الذي يعتبر الخطاب مقابلا للنص، حيث ورد فيه أن (( مفهوم الخطاب يتحدد ككلية من العلاقات و الوحدات و العمليات ... المتموضعة في المحور التركيبي للغة. و الخطاب إجراء سيميوطيقي، يتمظهر كمجموعة من الممارسات الخطابية. فهو تطبيق لساني ( ذو خصائص لسانية لفظية) و تطبيق غير لساني ( ذو خصائص دالة تتمظهر كأصوات و حركات ) )) (Cool.
و تتداخل شروط لغوية و أخرى معرفية لصياغة الخطاب كمنظومة من الكلمات و الجمل من جهة، و كرسالة موجهة إلى المتلقي من جهة أخرى ؛ إذ الخطاب ((هو المجال الذي تكتسب فيه الوحدات اللغوية قيمتها الدلالية الملموسة،
بعد أن كانت كيانا نظريا دالا بالقوة. فالمتكلم الباث يلجأ إلى الجهاز اللغوي لبناء المعرفة التي يريد إرسالها إلى المتلقي عبر شبكة من التراكيب البنيوية المضبوطة في ظروف مادية معينة)) (9). فالخطاب عملة واحدة ذات وجهين متلازمين و متكاملين،الأول أنه نظام من العلامات و الرموز أي أنه يهم جانب اللغة الموظفة و طبيعتها و تراكيبها، و الثاني أنه يتضمن محتوى أي مجموعة من المضامين و الأفكار و الأحاسيس، فهو رسالة من الباث إلى المتلقي يهدف إلى تحقيق التأثير و التواصل.
وإذا كانت اللسانيات قد اقتصرت على العلاقات اللغوية و اللسانية و البنيوية التي تنسجها الكلمات مع بعضها البعض، فإن حقولا أخرى تداركت الأمر كالسيميائيات التي جعلت من المكونات اللغوية و اللفظية مؤشرات تحيل على ما هو خارج النص و بالتالي سيتجه تحليل الخطاب نحو قراءة ما وراء الكلمات بناء على نوع الألفاظ و المصطلحات الموظفة و صيغ التعبير، مع المراهنة على التلقي و التأويل.
Π- تحليل الخطاب :
سعت اللسانيات بالتدريج إلى كشف الروابط القائمة بين مكونات الحمول محاولة تحليل الجملة باعتبارها أصغر وحدة تمثل الخطاب، لكننا نعتقد أن كل المجهودات ظلت تدور في مجال لساني محض إلى أن ظهرت السيميولوجيا (السيميوطيقا) التي فتحت النص على عدة عوالم، نستطيع معها أن نتكلم عن تحليل الخطاب.
و قد ظهرت محاولات التمييز بين اللغة و الخطاب عند دوسوسير نفسه الذي جعل الخطاب مرادفا للكلام، و بذلك جعل اللغة مجرد جزء من الخطاب. وهذا ما دفع أحد ابرز رواد تحليل الخطاب، "يلمسليف"، إلى الإشادة بدور دوسوسير، لكنه اختلف معه كثيرا بتعمقه في الموضوع.
وقد درست اللسانيات التواصل بواسطة اللغة لكنها لم تعمق بداية النظر في الخطاب و لم توسع مجاله، إذ ظلت أكثر انشدادا نحو المكونات الداخلية، رغم ما حاولته المدرسة التوزيعية بزعامة بلومفليد، ثم هاريس و ما حاولته المدرسة التوليدية التحويلية مع تشومسكي. بالمقابل استطاع التحليل السوسيولوجي للأدب مع باختين التوجه إلى الاهتمام أكثر بالخطاب، حيث تلمس مفهومي الأدبية و الحوارية و بدأ بالخروج من الجملة ووحداتها إلى التفسير السوسيولساني للخطاب (الأدبي) ؛ لتجد السيميائيات المعاصرة في مجهودات المدرسة الشكلانية ما يضيء لها السبيل و هي تبحث عن كل ما توحي إليه إشارات النص و علاماته اللغوية ؛ لذلك استطاع التحليل السيميائي التمييز بين المكونات اللسانية و مضمون الخطاب و دلالاته ... الخ، فسيميائيات التواصل مع جاكبسون و لوثمان أصابت في تحليل الخطاب بتحديد أطراف عملية التواصل وابرز عناصرها (الباث- المتلقي- الرسالة- السنن- المرجع ... الخ).
لا ينبغي أن يتوقف الخطاب عند الحدود اللسانية للجملة أو الفقرة أو النص، بل أن يتجاوز ذلك، بدون شك، إلى المضمون و المحتوى، ثم إلى الخطاب انطلاقا من خصائصه الفنية المتمثلة في درجة الأدبية فيه ... لذا فإن تحليلنا للخطاب يجب أن يراعي اجتماع الخصائص اللسانية و القضايا الفكرية و الاعتبارات النفسية و البويطيقية و الفنية. وهذا الاجتماع هو الخطوة الأساس لفهم أي نص/ خطاب. لكننا نعتقد أن تحليل الخطاب يجب أن يتجاوز كل هذا إلى ما هو أعمق باعتماد الاستقراء و الاستنباط و التأويل مع الاستعانة بالأدوات السيميائية المسهلة لفتح سبل الإشارات و الدلالات و التأويلات التي تربط النص بكافة الأجواء الخارجية، و التي يتعلق معظمها بنفسية صاحبه و بخلفياته الفكرية و المعرفية و الإيديولوجية ... وهذا يدفعنا إلى الانفتاح بقوة على حقول علم النفس و السوسيولوجيا و السياسة و غير ذلك كثير.
هذه هي معظم محطات تحليل الخطاب، و التي بدونها لا يمكن سير أغوار خطاب ما و فهم ما وراء السطور و التقاط شذرات المعاني و الأفكار المشتتة بين ثناياه؛ وهذا ينطبق على الملفوظ الشفوي و الخطاب المكتوب، بل على كل وسائل التعبير و التواصل باللغة و الصورة و غيرهما. رغم أن العملية صعبة جدا و تستلزم شروطا لعل أقلها هو سعة الاطلاع إضافة إلى المواهب الذاتية التي يمكن أن تصل إلى حد الفراسة، و أن يتم صقلها بالتمرن و المراس...
فإذا أخذنا جملة يمكن أن نجد أن الحدود اللسانية لا تكفي لسبر أغوارها و تأويل دلالاتها و معانيها، مما يستلزم الاستعانة بما ذكرناه من الآليات :
- ألقى الرئيس خطابا أعلن فيه تنحيه عن منصبه.
فهذه الجملة فعلية تدمج حملين داخلها بواسطة الإحالة النصية الموجودة في ضمير الهاء المتصل بحرف الجر و العائد على (خطابا) المذكورة في الحمل الأول.
و الجملة توصل إلينا خبرا واضحا هو التنحي عن المنصب؛ من خلال انسجام مكوناتها الداخلية. أما الآن فسنأخذ الجمل التالية :
أ- ألقى الرئيس خطابا أعلن فيه تنحيه عن منصبه.
ب- ألقى الرئيس خطابا لأنه تنحى عن السلطة.
ج- سمعت الرئيس يلقي خطابا لأنني كنت أجري مقابلة في كرة القدم.
فالجملة (أ) تبدو سليمة لأن القضيتين فيها متلائمتان، فسبب إلقاء الرئيس لخطابه هو رغبته في الإخبار بتنحيه عن منصبه. أما الجملة (ب) فتبدو فيها بعض القيود لأن تنحي الرئيس عن منصبه ليس هو السبب الوحيد و الأوحد كي يلقي خطابا، لذلك فإنها تحتمل وجهين. أما في الجملة (ج) فيبدو الانفصام و عدم التلاؤم بين القضيتين واضحا، إذ لا علاقة بين إلقاء الخطبة و إجراء المتلقي لمباراة عادية في كرة القدم. هذا من حيث الدلالات، لكن من حيث التراكيب و النحو فالجمل كلها صحيحة. من هنا فإن الجوانب اللسانية و النحوية و البنيوية لا تكفي لتأكيد سلامة الخطاب و فهم دلالاته.
فالقيود الموجودة راجعة إلى الدلالات لا إلى التركيب النحوي، وهو نفس ما يمكن ملاحظته عند مقارنة هذه الأجوبة الثلاثة عن نفس السؤال.
- السؤال هو : - هل أعلن الرئيس استقالته ؟
- الأجوبة هي : أ- نعم أعلن ذلك في خطاب.
ب- أجل إنه يحب أنواعا من السمك.
ج- و هل هو طيار ماهر ؟
أما إذا عدنا إلى الجملة المذكورة سابقا و حاولنا استحضار العديد من المعارف للقيام بتأويلها، فإننا سنصل إلى العديد من التأويلات، أبرزها :
- يريد الرئيس أن يمارس خطاب الأقوياء، أي أنه هو من أعلن عن التخلي عن المنصب، وهنا أبعاد نفسية تتمثل في محاولة الظهور بمظهر التوازن و الثقة في النفس وربما ذلك غير موجود. هذه القراءة تستمد من علم النفس و يمكن أن تصل إلى درجة التأثير النفسي الكبير في عامة الناس الذين قد تصفو عواطفهم نحو رئيسهم و يخرجون في مظاهرات تطالب ببقائه مثلا. وقد يبقى فعلا، أو يخرج مرفوع الرأس فيبث رسائل مهمة إلى الداخل و الخارج.
- علينا أن نبحث في ما وراء الخطاب من خلفيات و أحداث و مسببات، بحيث يمكن الغوص في الأحداث السياسية للبلد للوصول إلى تفسير العديد من الأشياء و هنا يمكن وضع اليد على العلل مباشرة؛ و التي قد تتمثل في ضغوط سياسية للمعارضة، أو في احتقان سياسي و اجتماعي، أو فشل في السياسة الاقتصادية أو هزيمة عسكرية ... الخ.
- و إذا كان من الممكن أن يكون التنحي عن طيب خاطر رغبة في الوصول إلى مرحلة ديمقراطية أفضل، رغم أن الأمر مستبعد؛ فإنه يمكن كذلك أن تكون التنحية وسيلة للتحايل بحيث يهيئ هذا الرئيس لنفسه منصبا رئاسيا أكثر أمانا و استقرارا من خلال إضفاء الشرعية المفتقدة بواسطة استفتاء حول الرئيس أو انتخابات أو غير ذلك.
- فهنا نكون قد استعنا ببعض الأنتروبولوجيا و السوسيولوجيا في تحليل الخطاب و التي قد توصل تأويلنا إلى مسالك أخرى، منها أن هذا الرئيس يريد احتواء معارضيه بعدما اشتدت شوكتهم، بتنحية نفسه بنفسه استعداد للعودة بصيغ أخرى، بدلا من أن ينحى و يخرج مطأطأ الرأس.
هكذا يمكن للمتلقي أن يؤول هذا الخبر/ الخطاب بصيغ متعددة انطلاقا من درجة وعيه و ثقافته و قدراته على الفهم و التحليل، و طبيعة صلته النفسية بالباث التي تخضع لثنائية المد و الجزر من شخص إلى آخر، و طبيعة وضعه الاجتماعي و درجة استفادته من الوضع القائم سياسيا و اقتصاديا و غير ذلك من مبررات.
نخلص من خلال هذه المحاولة أن تحليل الخطاب عملية هامة و معقدة لا تتوقف عند حدود القراءة اللسانية و النحوية و التركيبية، بل لا بد من الاستجابة إلى هذا التقاطع القوي مع علوم و معارف متعددة، و التي تمدنا بما يكفي من أدوات و آليات لقراءة الخطاب و تحليله و تأويله على الوجه المطلوب.
المراجع :
(1) "لسان العرب"، ابن منظور، مادة (خطب)-(ط،دار صادر،1994.)
(2) "كشاف اصطلاحات الفنون و". تح لطفي ع البديع ، 2/175 (ط.الهيسة العامة للكتاب، مصر، 1972)
(3) "الكليات: معجم في المصطلحات و الفروق اللغوية" الكفوي تح عدنان درويش، (ط.1، الرسالة، بيروت، 1412هـ/1992م)
(4) "التعريفات" الجرجاني، تح ابراهيم الإبياري مادة(كلام). (ط.2،ص419، دار الكتاب العربي، بيروت 1992)
(5) إشكالية المصطلح النقدي ( الخطاب و النص). مجلة آفاق عربية ص 59 بغداد، السنة 18، آذار، 1993.
(6) تحليل الخطاب الروائي، سعيد يقطين، ص17(ط.المركز الثقافي العربي،1988).
(7) نفسه ص 18.
(Cool ← (Cool Dictionnaire résumé de la théorie du language.p102 (Hachette université,1979)
(9) محمد خلاف "الخطاب الإقناعي ..." مجلة دراسات أدبية و لسانية عدد 1986.5