تأليف د محمد محمد يونس علي
يقصد بمصطلح "الكفاية" competence في الدراسات اللسانية التمكن من اللغة والقدرة على استعمالها، وقد ارتبط هذا المصطلح باللساني المشهور نوام تشومسكي ضمن ثنائيته المشهورة "الكفاية والأداء". والفرق بين المصطلحين يبدو في أن الأول يطلق على القدرة الكامنة في ذهن متكلم اللغة على إنتاج عدد غير محدود من جمل اللغة، وفهمها، وهذا لا يتأتّى إلا إذا اشتمل الذهن على نظام من القواعد (تشمل القواعد الصوتية، والصرفية والمعجمية، ومسرد من المفردات اللغوية يسمى "المعجم"). ويمكن اختبار هذه الكفاية اللغوية بمدى قدرة المتكلم على اكتشاف الأخطاء على المستويات اللغوية المختلفة (الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية)؛ واكتشاف مواطن اللبس في الجمل اللغوية: فكلما زادت قدرته على اكتشاف الأخطاء، والتمييز بين المعاني المتعددة دلّ ذلك على تمكنه من اللغة. أما الأداء performance فهو التحقق الفعلي للكفاية عند التخاطب باللغة. وبناء على ذلك، فإن كل أداء يستلزم انتقالا من حيّز الوجود بالقوّة إلى حيّز الوجود بالفعل بحسب المصطلحات المنطقية، أي إخراج الكامن إلى الوجود الحسي الفعلي، وتحققه تحققا عمليا.
وتستدعي ثنائية الكفاية والأداء إلى الذهن عادة ثنائية فردناند دو سوسور المعروفة بـ "اللغة langue، والكلام parole". فاللغة هي نظام من العلامات المتواضع عليها اعتباطا، ويستخدمها الفرد للتعبير عن أغراضه، والتواصل مع الآخرين. أما الكلام فهو التحقق الفعلي لتلك العلامات عند عملية التخاطب. فاللغة إذن ظاهرة اجتماعية مشتركة بين أفراد المجتمع اللغوي، في حين أن الكلام نشاط فردي. ولاشك أن لهذا التمييز بين اللغة والكلام أهمية كبيرة في الدراسات اللغوية؛ لأنه يعين على بناء تصوّر منهجي لحقيقتين مختلفتين تتعلقان باللغة. وتبدو أهمية هذا التمييز -على سبيل المثال- في أن الإلمام به يُجنبنا الاعتقاد الزائف بوجود لغة أبلغ من أخرى؛ لأن المدرك لهذا الفرق يعلم أن البلاغة (ومثلها الفصاحة) مسألة فردية، تتعلق بالكلام، وليس باللغة، وهذا يعني أنه في كل مجتمع لغوي متكلمون بلغاء، وآخرون دون ذلك. وليس للغة صلة مباشرة بالبلاغة والفصاحة، بل هي مسألة كلامية، ومثلما لايمكن أن نحسب أخطاء العازفين على السمفونية –كما يذكر دوسوسور-، فكذلك لا يمكن عزو تقصير (أو إتقان) المتكلمين على اللغة نفسها. ومن مزايا هذا التمييز أيضا أنه يمكّننا من التفريق بين معاني الجمل (التي تنتمي إلى اللغة)، ومعاني القولات (المنتمية إلى الكلام)؛ وذلك لأن ما تعنيه كلمات اللغة وجملها ليس بالضرورة مطابقا لمقاصد قولات المتكلمين. ولعلّ ما يبدو لنا من فرق بين المعنى الأصلي والمعنى المقصود في التعبيرات المجازية ما يؤكد أهمية التفريق بين اللغة والكلام. وهكذا يتضح لنا أن الجمل والمعاني مرتبطان باللغة، والقولات utterances والمرادات (أو المقاصد) متعلقان بالكلام.
وقد عرف علماء أصول الفقه الإسلامي ثنائية مشابهة لثنائيتي تشومسكي ودو سوسور المذكورتين هي ثنائية "الوضع والاستعمال". فالوضع هو عزو معنى للفظ يدل عليه، والاستعمال هو إطلاق اللفظ وإرادة المعنى الوضعي الأصلي أو معنى آخر مقترن بقرينة للدلالة عليه. فالوضع –إذن- عملية سابقة زمنيا وافتراضيا على الاستعمال، وهي من شؤون أهل اللغة، أما الاستعمال فهو عمل يقوم به المخاطِب. والوضع قد يكون فرديا جزئيا كما في تحديد معنى كلمة بعينها في اللغة، نحو أسد في دلالتها على الحيوان المفترس المعروف، وقد يكون عاما كليا يتعلق بصوغ قاعدة كلية أو بناء نمط عام لتركيب ما. وفي كل الأحوال فإن متكلم اللغة محكوم بمواضعات لغوية سابقة، وضوابط ومبادئ استعمالية تعينه على أداء عملية التخاطب بنجاح.
لاشك أن ثمة فروقا واضحة بين الثنائيات الثلاث: "الكفاية والأداء"، و"اللغة والكلام" و"الوضع والاستعمال"، منها مثلا
1- أن الكفاية مفهوم يرتبط برأي تشومسكي أن كل البنى النحوية، والمفهومية التي تجسد المعرفة اللغوية للبالغين موجودة في الأذهان منذ الولادة، كما يرتبط أيضا بفكرة تشومسكي للغة على أنها "طائفة من الجمل (المتناهية، أو غير المتناهية)، كل جملة متناهية في طولها، ومركبة من مجموعة متناهية من العناصر"( Chomsky, 1957: 13.).
وتؤول ظاهرة اللاتناهي infinity إلى القول بأن ما يحمله المتكلم في ذهنه من الجمل الممكنة أكثر بكثير من القولات التي قيلت بالفعل. وهذا يعني أن المهم في اللغة إنما هو الجانب الإبداعي غير المحدود لمعرفة المتكلم السليقي للغته. كما يعني أيضا أن الكفاية اللغوية هي التمكن من تطبيق ما يسميه تشومسكي "القواعد العمومية" التي يزود بها الإنسان بالفطرة على جمل لغة بعينها، مع مراعاة ما تقتضيه مواضعات تلك اللغة. أما اللغة عند دو سوسور فهي خزانة من المعجم والقواعد المنظمة الموجودة وجودا كامنا على نحو مستقل. ولذلك فإن عناية اللسانيين ينبغي أن تتوجه إلى ما هو موجود بالفعل وليس إلى القدرات الكامنة للمتكلمين.
2- أن الوضع عند الأصوليين لا يعادل اللغة ولكنه يرتبط بها ارتباطا وثيقا؛ لأن اللغة إنما هي نتاج لعمليات متوالية من المواضعات اللغوية (المعجمية منها والقواعدية).
3- أن الأداء عند تشومسكي والاستعمال عند الأصوليين يعبران عن الحدث في حين يقصد بالكلام عند دو سوسور نتاج الحدث، (أي أنه بتعبير النحاة من باب إطلاق اسم المصدر، وإرادة اسم المفعول).
أما البراغماتيون pragmatists فيعنون بعملية الاستعمال عناية كبيرة، بل إن كلمة pragmatics نفسها تعني "علم الاستعمال. ولذا فإن الكثير منهم يرى أن التخاطب عملية لا تخلو من إخبار، أو استفهام، أو تسمية، أو نحو ذلك مما يسمونه بأفعال الكلام speech acts . وبذلك يتطور المفهوم الجامد للكلام –كما شرحه دو سوسور – إلى عمل إيجابي يأخذ طابع الاستعمال، وهو أمر يتيح إقحام مصطلحات ديناميكية أخرى تحل محل نظائرها الجامدة في تراث دو سوسور ربما كان من أهمها استخدام مصطلح القصد intention بدلا من المعنى meaning. وأصبح موضوع الدراسة تحليل المحادثة conversation والنص بدلا من الجملة، وأضحى اللسانيون يبحثون في مبادئ (أو أصول) التخاطب principles of communication لبلوغ كنه مراد المتكلم بدلا من الاقتصار على البنى اللغوية المجردة.
وعلى الرغم من وجود تلك الفروق بين الثنائيات الثلاث: "الكفاية والأداء"، و"اللغة والكلام" و"الوضع والاستعمال" فإن الجامع بينها هو إجماعها على التمييز بين مستويين مختلفين من الوجود اللغوي: مستوى وضعي اجتماعي كامن في أذهان المجتمع اللغوي عامة، ومستوى استعمالي فردي متحقق في المقام التخاطبي.
لقد انتقدت كل ثنائية من الثنائيات الثلاث السابقة من لدن أولئك الذين يذهبون إلى أن المواضعات اللغوية لا تتم على نحو انعزالي تجريدي خارج المقامات التخاطبية، ومن هذه الانتقادات صعوبة عزو بعض السمات التخاطبية (كالمجاز، والتنغيم، ونحوها) إلى أي من هذه الثنائيات، وقد تكون الإجابة عن هذه الانتقادات أن تلك السمات تتعلق جزئيا باللغة، وتنتمي جزئيا إلى الكلام أو الاستعمال. فبينما تكون الأنماط، والمناويل والقوالب التجريدية محكومة باللغة، ترتبط تحققات تلك الأنماط المتمثلة في القولات الفعلية إلى الكلام.
وعلى أي حال، فإن ثمة شعورا متناميا بين اللسانيين والمهتمين بالتخاطب إجمالا، ولاسيما البراغماتيين منهم بأن الكفاية اللغوية وحدها ليست كافية لنجاح عمليات التفاهم اللغوي، بل لابد من وجود الكفاية التخاطبية، التي تشمل
1- معرفة المواضعات اللغوية (المعجمية منها والقواعديّة).
2- قدرة المتخاطبين على الاستنتاج المنطقي المرتبط بسمات اللغة.
3- معرفة المتخاطبين بأصول التخاطب.
ويعد كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة مصدرا ومفسرّا لنوع أو أكثر من أنواع المعنى، فالمواضعات اللغوية يستنبط منها المعنى الوضعي، كما أن لها صلات (متفاوتة القوة) باستنباط المعاني الأخرى. والاستنتاجات المنطقية ترتبط بالمعاني المنطقية، كالتضمن، والافتراض. وأصول التخاطب (أو مبادئ التعاون كما يسميها بول قرايس) تعين على استباط المفاهيم التخاطبية، مثل مفهوم المخالفة عند الأصوليين.
فعندما تصدر الجامعة لائحة تقول: "يجوز للطلاب الخريجين في هذا الفصل أن يستعيروا أربعة كتب"، فقد ألزمت الجامعة نفسها بإعطاء الإذن لمن سيتخرج من الطلاب في هذا الفصل أن يستعير أربعة كتب، وهذا المعنى مفهوم من منطوق الكلام، ومستنبط من معاني العناصر المعجمية، والقواعدية (الصوتية والصرفية والنحوية) التي تضمنتها الجملة. بيد أن هذا المعنى ليس هو المعنى الوحيد المستمد من هذه الجملة، بل يمكننا أيضا أن نستنتج عددا من المعاني الأخرى، منها:
(1) أن لدى الجامعة طلابا خريجين في هذا الفصل.
(2) أن لدى الجامعة بشرا.
(3) أنه لا يجوز لغير الخريجين استعارة أربعة كتب.
(4) أنه لا يجوز للخريجين استعارة أكثر من أربعة كتب.
فالمعنى (1) ليس من منطوق الكلام، بل يفهم من الافتراض، وهو معنى يستنتج استنتاجا منطقيا (وإن كانت له جوانب أخرى ثقافية أحيانا)، وهو معنى قطعي، ولذا لا يجوز إبطاله دون الوقوع في تناقض: إذ لا يجوز أن يقال في لائحة الجامعة المذكورة "ليس لدينا طلاب خريجون في هذا الفصل" أو "لن يتخرج أحد في هذا الفصل" إلا بالوقوع في تناقض مع ما سبق. ومن هذا النوع من المعنى قولك: خرج الأستاذ من الفصل" الذي يفترض دخوله فيه، و"تاب صديقي عن الكذب" الذي يفترض أنه كان يكذب، و"أوقف أخي قيده في الجامعة" الذي يفترض أنه كان مسجلا فيها. وكما سبق أن أشرنا، فإن كل هذه الافتراضات هي من قبيل المعاني المنطقية التي تحتاج إلى قدرات استنتاجية لايمكن بدونها حصول التفاهم؛ ولذا فإن التمكن منها مندرج ضمن "الكفاية التخاطبية".
أما المعنى المنصوص عليه في (2) فهو من قبيل التضمن، وهو أيضا معنى منطقي قطعي لايمكن إلغاؤه إلا بالوقوع في التناقض، ولذلك لا يجوز أن يقال: "ليس لدينا بشر في الجامعة"؛ لأن كلمة "طالب" تتضمن معنى "بشر"، وكلما أثبتت كلمة "طالب" فهم منها معنى "بشر"، كما أن أي نفي للبشرية يتضمن نفي صفة "طالب".
وأما المعنيان (3) و(4) فمن قبيل المفاهيم الخِطابية، أو "التخاطبية"، التي تفهم من أصول التخاطب، وتتسم هذه المعاني بقبولها الإلغاء؛ وذلك لضعفها وظنيتها، ولذا يجوز إلغاؤها بأن يقال مثلا "كما يجوز لغيرهم أيضا"، و" بل يجوز للخريجين استعارة أكثر من أربعة كتب" دون الوقوع في تناقض. ويستنبط هذا النوع من المعنى بالاعتماد على ما يعرف بمبدأ الكم (وهو هو أصل من أصول التخاطب، ومبدأ من مبادئ التعاون)، الذي يفترض أن المتكلمين يتكلمون على قدر الحاجة، دون زبادة، أو نقصان، ومن ثمّ فيتوقع من المخاطب الذي قرأ ما سبق من لائحة الجامعة أن يفكر على النحو الآتي:
لوكان المقصود أن كل طلاب الجامعة يحق لهم استعارة أربعة كتب، لقيل "يجوز للطلاب هذا الفصل أن يستعيروا أربعة كتب"، ولكن لمّا قيّدت كلمة "الطلاب" بالخريجين، فهم من هذا القيد أن المسكوت عنهم "وهم غير الخريجين" لهم حكم مخالف، وهو أنهم لا يحق لهم استعارة أربعة كتب، ومن هنا جاءت تسمية الأصوليين لهذا المعنى بمفهوم المخالفة.
وأخيرا يمكن أن نلخص ما سبق بالقول بأن التخاطب الناجح لا يكتمل إلا بوجود نوعين من الكفاية: الكفاية اللغوية والكفاية التخاطبية، وأي اختبار يقيس قدرات الممتحن لابد أن يتضمن أسئلة تختبر تمكنه من معرفة قدر كاف من معجم اللغة وقواعدها، فضلا عن قدراته الاستنتاجية والتخاطبية.