تأليف د محمد محمد يونس علي
يرجع جزء كبير من الاختلاف بين بعض المدارس اللسانية على الأقل إلى اختلافهم في قدر الكفاية adequacy الذي ينبغي أن يتحقق في البحث العلمي؛ ولذا نراهم يعطون إجابات مختلفة للسؤال الآتي: ما القدر الذي يفي بالمراد في فهم الظواهر اللغوية، واستكناه حقيقتها؟. ويتحدث اللسانيون عادة عن ثلاثة أنواع من الكفاية هي الكفاية في الملاحظة observational adequacy، والكفاية في الوصف descriptive adequacy، والكفاية في التفسير explanatory adequacy. وتأخذ هذه الكفايات السابقة ترتيبا يبدأ بالأولى التي تعد في أسفل السلم، ثم تأتي الكفاية في الوصف التي تتوسط الكفايتين السفلى، والعليا. وبينما تكتفي بعض المدارس اللسانية بالكفايتين الأولى، والثانية يصر تشومسكي على أهمية الكفاية التفسيرية؛ بل إنه يرى أنها أهمها على الإطلاق.
وإذا كان اللسانيون يتفقون على أن الملاحظة شرط أساسي في البحث اللساني، كما أنها المنطلق المبدئي لاستكشاف الظاهرة اللغوية، فإنهم يختلفون في موضوع الملاحظة، فالسلوكيون مثلا يرون أن الانتباه ينبغي أن يتركز على العناصر اللغوية القابلة للملاحظة في حين يرى التوليديون بزعامة تشومسكي أن المعرفة اللغوية للمتحدث السليقي هي الموضوع الحقيقي للملاحظة. وهكذا فإن العناية ينبغي أن تنصب على أنماط الجمل، ومناويلها ثم عزو كل قولة فعلية إلى ما يناسبها من تلك الأنماط، وهذه مهمة تتم عادة على مستوى الملاحظة. وعلى الرغم من ذلك فقد أولى تشومسكي هذا المستوى عناية أقل؛ لأن الحقائق المتصلة بالموضوع (التعبيرات، والجمل الممكنة في لغة ما، وخصائصها البنيوية) يحصل عليها من حدس اللساني، وليس من الملاحظة المباشرة، كما أن المعرفة اللغوية للمتكلم السليقي (وليس المادة المدوّنة) هي موضوع اللسانيات.[13]
ويمكن توضيح الفرق بين الوصف، والملاحظة أن الوصف يتجه نحو الحقائق في حين تتوجه الملاحظة نحو المادة اللغوية سواء تلك التي يمكن ملاحظتها في كلام المتكلمين كما يرى السلوكيون أم تلك التي تأخذ شكل المعرفة اللغوية التي يحملها المتحدثون المثاليون في أذهانهم كما يرى التوليديون، ولا يمكن أن تتحقق الكفاية في الحالتين إلا إذا تمت الملاحظة، أو الوصف على نحو سليم. ومن الشروط الأساسية التي لا يكون البحث العلمي بدونها كافيا في الملاحظة خصيصة الشمولية التي تقتضي عدم إهمال أية سمة من سمات الظاهرة، أو الظواهر المدروسة. أما الوصف فيستلزم ضربا من التجريد الذي يصبغ الدراسة بطابع العلم.
اعتاد السلوكيون، والبنيويون إجمالا قبل تشومسكي على الاقتصار على الوصف في دراسة الظاهرة اللغوية دون الخوض في تسويغها، أو تأويلها، أو تفسيرها، أما التوليديون الذين كان لهم عناية خاصة بفكرة العموميات universals فلم يكتفوا بالملاحظة، أو الوصف، بل رأوا أنه من الضروري إذا ما رمنا فكرة الوصول إلى صوغ قواعد عالمية تنطبق على جميع اللغات أن نغوص في المبادئ، والأسس المفسرة للظواهر الخارجية.
يقول تشومسكي:
"ويتحقق المستوى الأدنى من النجاح إذا قدم النحو المادة الأولية الملاحظة تقديما سليما، ويمكن بلوغ المستوى الثاني، والأعلى من النجاح عندما يقدم النحو تفسيرا سليما للحدس اللغوي للمتكلم السليقي، ويحدد النحو كذلك المادة الملاحظة (ولاسيما) من حيث التعميمات المهمة التي تكشف عن الاطرادات الأساسية underlying regularities في اللغة. ويمكن بلوغ المستوى الثالث (والأعلى على الإطلاق( من النجاح عندما تقدم النظرية اللسانية المعنية أساسا عاما لاختيار القواعد التي تحقق المستوى الثاني من النجاح على حساب قواعد أخرى منسجمة مع المادة الملاحظة ذات الصلة لكنها لا تحقق هذا المستوى من النجاح. وفي هذه الحال نقول إن النظرية اللسانية المعنية تقترح تفسيرا للحدس اللغوي للمتكلم السليقي".[14]
ولعل من النقاط الجوهرية التي تميز أصول التوليديين من غيرهم أن ما هو ملاحظ ليس بالضرورة هو الأهم في البحث اللساني؛ بل إن "ما هو ملاحظ ربما لا يكون في كثير من الأحيان مناسبا، ولا مهما، وما هو مناسب، ومهم قد تصعب ملاحظته".[15] ويشبه هذا إلى حد كبير معالجة النحاة العرب لبعض الأبواب، والجزئيات النحوية، والصرفية التي اتسمت في كثير من الأحيان بالتعليل، والتفسير، والتقدير، والتأويل رغبة في بلوغ أكبر قدر من الاطراد، والانسجام.
إن تشومسكي، ولسانيين توليديين آخرين يعدون اختلاف مفهومهم في الكفاية عما يعدونه مفهوم دو سوسور de Saussure الجامد للغة بوصفها خزانة لغوية يكمن في الجانب الإبداعي غير المحدود لمعرفة المتكلم السليقي للغته. وهو ما يميز أيضا إبداعية اللسانيات التوليدية من الهدف التصنيفي المحدود للبلومفيلديين، وهو هدف لا ينكره الجيل البلومفيلدي.