مكانة الصواتة في الصرف العربي :
عبد الرحمان عرجي
إن المتفحص لكتب النحاة وعلماء الصرف العرب القدماء سيلاحظ أن أكثر اهتمامهم ينصب حول مباحث النحو، في الوقت الذي أفردوا لمباحث الصرف ذيول كتبهم ومصنفاتهم. والقارئ لأبواب الصرف عندهم سيلاحظ أن فيها تداخلا كبيرا بين الأبواب الصرفية المحضة، من قبيل التكسير والتصغير والتذكير والتأنيث والجمع والنسبة، وبين الأبواب الصياتية المحضة، مثل الإدغام والإعلال والحذف والنقل، في مباحث الصرف أو التصريف عندهم . مما يدفع إلى القول أن القدماء اهتموا بالنحو والتصريف دون أن يعيروا اهتماما للصياتة، والواقع أننا نستشف من تأليفاتهم تحليلات صياتية لا تقل أهمية عن تحليلاتهم النحوية والصرفية.
1ـ اهتمام القدماء بمباحث النحو دون غيرها :
إن اطلاعا سريعا على أهم كتب النحو العربي من شأنه التأكيد على أن النحاة كانوا يولون اهتماما زائدا لمباحث النحو أكثر من الصرف، فقد اعتبروا الصرف متمما للنحو وجزءا منه كما يقول الرضي
واعلم أن التصريف جزء من النحو بلا خلاف أهل الصناعة)(عن الشايب 1989، ص12)، ويظهر ذلك جليا من خلال المساحة الضيقة التي يشغلها الصرف في مصنفاتهم إذا ما قورنت بالمساحة المخصصة لمباحث النحو؛ كما يلاحظ أنهم يؤخرون كل ما يتعلق بالصرف حتى نهاية الكتاب، ويرى الشايب 1989 أن ضيق المساحة التي يشغلها الصرف ، وكونه لم يحظ بالرعاية نفسها التي حظي بها النحو من قبل القدماء راجع إلى تأخر ظهوره. فمن المعروف أن الصرف من وضع أبي مسلم معاذ بن الهراء (187هـ)وهو أحد رواد المدرسة الكوفية الأوائل، مما يعني أن الصرف كوفي النشأة، وأنه متأخر ومحدث بالنسبة إلى النحو ، غير أن هذا لا يمنع أن نجد من القدماء من يعير اهتماما للصرف. يقول (الشايب 1989ص11): (وقد وضح لنا ابن فارس (395هـ) قيمة هذا العلم وأهميته في عبارة جامعة مانعة قائلا: وأما التصريف فإن من فاته علمه فاته المعظم، ونظرا إلى أهميته هذه فقد ذهب الفخر الرازي(606هـ) إلى أن معرفته واجبة.
وإذا كانت هذه حال الصرف إذا ما قورن بالنحو، فإن الصياتة ـ بالمفهوم الحديث على الأقل ـ غير واردة بتاتا عندهم، وهكذا يمكن القول إن القدماء لم يحيطوا،في أبحاثهم، بكل المستويات الأساسية للتحليل اللساني كما في اللسانيات الحديثة.
2 ــ المستويات الأساسية للتحليل اللساني :
2ـ1 المستوى الفونولوجي:
وهو المستوى الذي يهتم بدراسة أصغر الوحدات المكونة للغة وهي الأصوات، والتي تنقسم بدورها إلى مصوتات وصوامت ويكون عددها محدودا في كل اللغات، وانطلاقا من هذا العدد المحدود من الأصوات يمكن الوصول إلى عدد غير محدود من الوحدات التي تلي هذه الأصوات البسيطة وهي المقاطع syllabes. وقد ذكر (الشايب 2004) أربعة أنواع من المقاطع في اللغة العربية:
1 مقاطع قصيرة: وهي ما تكون من صامت ومصوت قصير.
2 مقاطع متوسطة: وهي ما تكون من صامت ومصوت طويل، أو من صامت وحركة قصيرة وصامت آخر.
3 مقاطع طويلة: وهي ما تكون من صامت ثم مصوت طويل ثم صامت، أو من صامت ثم مصوت قصير ثم صامتين.
4 مقاطع مديدة: ولا تكون إلا وقفا، وتتكون من صامت ومصوت طويل ثم صامتين.
لا شك أن لكل لغة بنيتها المقطعية المختلفة عن باقي اللغات، فقد نجد في لغة ما عددا من المقاطع أكبر ، وهذا ما يفسر التأكيد على أن ما يبدو ممكنا في تأليفات لغة ما قد لا يكون ممكنا في غيرها، فمثلا الكلمة في اللغة الفرنسية قد تبدأ بصامتين متتابعين نحو: travail ، placard، وفي الإنجليزية قد تبدأ الكلمة بثلاث صوامت متتالية نحو:street، spring، في حين لا تسمح اللغة العربية لا بهذا ولا بذلك .
وتجدر الإشارة إلى أن بعض القدماء قد تنبه إلى أن اللغة العربية لا تجمع بين الصوامت المتقاربة أو المشتركة في المخرج، ومن هؤلاء ابن جني الذي خصص فصلا كاملا من كتابه " سر صناعة الأعراب" بعنوان" فصل في مذهب العرب في مزج الحروف بعضها ببعض وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما يحسن وما يقبح وما يصح" يقول (ج2،ص329):" وأحسن التأليف ما بوعد فيه بين الحروف، فمتى تجاور مخرجا الحرفين فالقياس ألا يأتلفا وإن تجشموا ذلك بدأوا بالأقوى من الحرفين وذلك نحو (وَرَل ) و(وتد) فبدأوا بالراء قبل اللام، وبالتاء قبل الدال لأنهما أقوى منهما ".
وكما تنفرد كل لغة ببنيتها المقطعية فإن اللغة العربية تفرض قيودا صارمة على شكل المقاطع، وقد عدد (الشايب 2004) هذه القيود ومنها وجوب ابتداء المقطع بصامت، لا يجوز التقاء صامتين في مقطع واحد في بداية الكلمة وحشوها، لايجوز التقاء حركتين.
2ـ2 المستوى الصرافي:
إذا كانت الصياتة تهتم بأصغر الوحدات المشكلة للغة لتكوين المقاطع فإن الصرافة تهتم بدراسة العلاقة بين هذه المقاطع أو الموضوعات الصرفية morphological objects وهي الجذور أو (المادة الأصلية)، والجذوع أو (المادة المقطعية التي تتموضع في علائق الاشتقاق)، واللواصق(بما فيها السوابق واللواحق والأواسط) التي تتصل بالجذور لتكون الجذوع، أو بالجذوع لتكون جذوعا مركبة، أو كلمات تدخل التركيب)(الفاسي الفهري 1990، ص38)
وتظهر أهمية الاهتمام بهذا المستوى من خلال قول السيوطي في (المزهر ج1، ص264): " وأما التصريف فإن من فاته عمله فاته المعظم، لأنا نقول: وجد، وهي كلمة مبهمة فإذا صرفت أفصحت، فقلت في المال وُجدا، وفي الغضب: مَوْجِدة، وفي الحزن: وجدا... فتحول المعنى بالتصريف من الجور إلى العدل". هكذا فإن أي تغيير في بنية الكلمة يؤدي إلى تغيير في المعنى، وهي القاعدة المعروفة: كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى. وكما أن الأصوات في تسلسلها لتكوين المورفيمات تخضع في تأليفاتها لقيود صياتية صارمة، تجعل بعض التأليفات ممكنة، وأخرى غير ممكنة،فإن المورفيمات، في تسلسلها لتكوين الكلمات والمركبات، تخضع لقيود نحوية صارمة كذلك، هذه القيود تمنع مثلا؛ التأليف في العربية بين صرفيات الجر والأفعال، أو بين صرفيات الجزم والأسماء.
2ـ3 المستوى التركيبي :
كما سبقت الإشارة إلى ذلك فالصرفيات نوعان: معجمية ونحوية، والتأليف بين النوعين من الصرفيات هو الذي يعطي كلمة من الكلمات، فكلمة ضرب تتكون من صرفية معجمية هي: /drb/ تدل على الضرب، وتحتاج هذه الصرفية المعجمية إلى صرفية نحوية هي الفتحة {a} لتصبح كلمة .
وهكذا فإن الصرفيات المعجمية لا تصبح كلمات إلا بعد أن تتصل بها الصرفيات النحوية التي تسمى اللواصق Affixes، وهي التي تحدد بعض المعاني النحوية للصرفيات المعجمية ؛ كالنوع والعدد بالنسبة للأفعال، والفاعلية والمفعولية والجر والإضافة مثلا بالنسبة للأسماء والصفات وغيرها من المقولات التركيبية التي تأخذ صرفيات الإعراب للدلالة على وظيفة من الوظائف النحوية في اللغة العربية وتحديد هذه الوظائف ورصد مواقعها وسياقاتها المختلفة في الجملة هو الذي يشكل مباحث علم التركيب Syntaxe .
وعموما فإن تكوين كلمة من الكلمات العربية يقتضي، في مرحلة أولى، تأليف جذر من الجذور انطلاقا من أصوات الأبجدية العربية، وهذا الجذر يفرغ في قالب حركي هو الصيغة schéma، التي تحدد بصورتها الصياتية والصرافية نوع التركيبة ( مصدر، إسم، فعل، صفة، اسم فاعل...)، وحين يفرغ الجذر racine في صيغة من الصيغ يعطينا جذعا radical وهذا الجذع تلتصق به اللواصق التي قد تكون سوابق préfixes كصرفية المضارعة، وهمزة التعدية، وصرفية التعريف. وقد تكون أواسط infixes كتاء الافتعال وألف(فاعل) والتضعيف، وقد تكون لواحق suffixes كبعض علامات الإعراب، والصرفيات الدالة على النوع والعدد .
3 ـ تداخل مباحث الصياتة والصرافة في الصرف العربي القديم:
في المحور الأول من هذا البحث حاولنا إقامة الحدود الفاصلة بين المستويات الأساسية للتحليل اللساني في اللغات الطبيعية، وسنحاول في هذا القسم أن نبين الحدود الفاصلة بين هذه المستويات في المؤلفات اللغوية العربية.
إذا عدنا إلى ما كتبه النحاة وعلماء الصرف القدماء عن اللغة العربية ونحوها، فالتصريف في اصطلاحهم :" كلام على ذوات الكلم، والنحو كلام على عوارضها الداخلة عليه"(ابن يعيش ص18ـ19)؛ أي أن التصريف علم يبحث في التغييرات التي تطرأ على بنية جذع الكلمة، أما النحو فعلم يبحث في التغييرات التي تتعاقب على جذع من الجذوع لتحديد وظيفته النحوية أو الإعرابية.
وعموما فإن الفصل بين مباحث علم النحو ومباحث علم الصرف أو التصريف واضح في كتب النحاة القدماء، لكن ما ليس واضحا في تصنيفاتهم هو الفصل بين مباحث الصرافة morphologie ومباحث الصياتة phonologie وهكذا فإن القارئ لكتاب سيبويه يستطيع أن يميز بوضوح وسهولة بين مباحث علم النحو، كأبواب المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والتوابع ، الخ، غير أنه ما أن يصل إلى مباحث التصريف حتى يصطدم بتداخل الأبواب الصرافية والصياتية. وهذا التداخل لا يقتصر فقط على كتاب سيبويه، بل هو وارد كذلك في كتب من جاء بعده من النحاة ، وذلك راجع ـ فيما نعتقد ـ إلى الطريقة التقديسية التي تعامل بها النحاة العرب القدماء مع الكتاب بحيث اعتبروه المصدر الأول للتأليف في النحو والصرف، واعتبروا الخروج عنه بدعة غير محمودة، مما جعل كل ما ألفوه يدور في فلكه؛ بشرح مبهمه تارة، وتفصيل مجمله تارة، وتخصيص عامه أخرى، حتى صار النحو العربي علما منتهيا جامدا خاليا من كل تجديد وتطور يجعله يستجيب لما يتطلبه المنهج العلمي في تطور مختلف العلوم ومواكبتها لروح العصر، والذي يؤمن بنسبية كل الأفكار والآراء والنظريات. فيمكن لكتاب من كتب النحو أن يغني الدارس للنحو العربي عن كل ما كتب في المجال وهذا ما تؤكده عناوين الكتب، فهذا جامع جمع كل ما تفرق في غيره، وذاك مغن يغنيك عما سواه.
ويكفي أن نعود إلى بعض المتون العربية القديمة، كمتن الشافية مثلا، ليتبين لنا، أنه يدرج تحت مباحث التصريف الأبواب الصرافية والأبواب الصواتية المحضة التي لا علاقة لها بالصرف أو التصريف، يقول ابن الحاجب:
غير أن ما يمكن الوقوف عليه بجلاء هو أن ثمة خلطا واضحا لدى القدماء بين التصريف والصياتة بمفهومهما الحديث، مما يجعلنا نتجه إلى القول أن كلامهم دائما من خلال الأبواب التي تحدثوا فيها عن التصريف باعتباره علما يبحث في التغييرات التي تطرأ على بنية جذع الكلمة لا يقصد به ما يسمى في الاصطلاح اللساني الحديث بالصرافة morphologie بالمفهوم الذي أوضحناه في القسم الأول من هذا الفصل، وإنما المقصود بالتصريف في اصطلاح النحاة والصرفيين الــــعرب الــــقدماء هو الصرف ـ صياتة morphophonologie ، وهذا يتضح لنا جليا من خلال الأبواب التي ذكروها في معرض حديثهم عن التصريف والتي يمكن تقسيمها إلى:
ــ أبواب صرافية محضة مثل الماضي و المضارع و الأمر و اسم الفاعل و اسم المفعول والصفة المشبهة وأفعل التفضيل والمصدر واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة والتصغير والنسبة والجمع.
ــ أبواب صياتية محضة مثل الابتداء الوقف المد القصر الإمالة تخفيف الهمزة الإبدال الإعلال الإدغام والحذف .
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أزمة حصر مصطلح ومفهوم علمي النحو والتصريف التي عانى منها القدماء إذ تخبطوا كثيرا ولم يتمكنوا، إلى حد كبير، من حصر وتحديد ما يندرج ضمن كل علم على حدة، خاصة ما يتعلق بمباحث التصريف كما رأينا.
4 ـ الحدود الفاصلة بين مباحث الصرافة والصياتة في الصرف العربي:
أصبح من المسلم به أن أبواب الصواتة والصرافة متداخلة بشكل كبير في الصرف العربي القديم، بل يمكن الجزم، إلى حد كبير، أن كلمة "الصياتة" بما تحمله من دلالات في علم اللسانيات الحديث لم ترد لدى القدماء ، غير أن بعضهم انتبه إلى هذا التداخل فحاول أن يضع حدودا بين الصواتة والصرافة وذلك بتقسيم علم التصريف إلى قسمين. ومن هؤلاء الأشموني الذي يقول في (حاشية الصبان ص 331ـ332):" اعلم أن التصريف في اللغة التغيير ومنه تصريف الرياح أي تغييرها، وأما في الاصطلاح فيطلق على شيئين: الأول تحويل الكلمة إلى أبنية مختلفة لضروب من المعاني كالتصغير والتكسير واسم الفاعل واسم المفعول، وهذا القسم جرت عادة المصنفين بذكره قبل التصريف كما فعل الناظم وهو في الحقيقة من التصريف، والآخر تغيير الكلمة لغير معنى طارئ عليها ولكن لغرض آخر، وينحصر في الزيادة والحذف والإبدال والقلب والنقل والإدغام، وهذا القسم هو المقصود هنا بقولهم التصريف. وقد أشار الشارح إلى الأمرين بقوله: تصريف الكلمة هو تغيير بنيتها بحسب ما يعرض لها من المعنى، كتغيير المفرد إلى التثنية والجمع، وتغيير المصدر إلى بناء الفعل واسمي الفاعل والمفعول. ولهذا التغيير أحكام كالصحة والإعلال، ومعرفة تلك الأحكام وما يتعلق بها تسمى علم التصريف، فالتصريف إذن هو العلم بأحكام بنية الكلمة بما لحروفها من أصالة وزيادة وصحة وإعلال وشبه ذلك".
واضح من خلال هذا النص أن الأشموني يقسم التصريف إلى قسمين:
ــ قسم صرافي morphologique يهتم بمختلف التغييرات الصرافية التي تنقل جذرا من الجذور العربية من معنى نحوي إلى معنى آخر،وذلك حسب القالب الحركي الذي يفرغ فيه هذا الجذر، أي الصيغة التي يلبسها فمن ذلك مثلا اشتقاقنا للصيغة التي تدل على التصغير من جذر مثل (رج ل)على وزن فعيل أي رجيل، وكاشتقاقنا للصيغتين اللتين تدلان على اسمي الفاعل والمفعول من جذر مثل (ك ت ب) على وزن فاعل ومفعول، أي كاتب ومكتوب، أو كاشتقاقنا للمثنى والجمع انطلاقا من المفرد كقولنا في مثنى زيد زيدان وفي جمعه زيود... الخ
ــ قسم صياتي phonologique وهذا القسم من التصريف، على حد قوله دائما، يدرس مختلف التغييرات الأصواتية التي تطرأ على بنية جذع الكلمة العربية كالحذف والإبدال والنقل والإدغام...الخ
وإذا كان الأشموني على ما يبدو قد انتبه إلى الفرق الحاصل بين مباحث الصرافة والصياتة وحاول إلى حد ما وضع حدود فاصلة بين العلمين غير أن محاولته تبقى ناقصة خاصة من ناحية التسمية حيث لم يسم كلا منهما على حدة.
وفي نفس السياق نورد نصا لابن عصفور الإشبيلي( ص 31ـ32) بين فيه الطريقة التي تعمل بها كل من القواعد الصياتية والصرافية يقول :" التصريف ينقسم إلى قسمين: أحدهما جعل الكلمة على صيغ مختلفة لضروب من المعاني نحو: ضرب وضربا وتضرب وتضارب واضطراب، فالكلمة التي هي مركبة من ضاد وراء وباء نحو "ضرب" قد بنيت منها هذه الأبنية المختلفة لمعان مختلفة، ومن هذا النحو اختلاف صيغة الاسم للمعاني التي تعتوره من التصغير والتكسير نحو "زيد" و"زيود"، وهذا النحو من التصريف جرت عادة النحويين أن يذكروه مع ما ليس بتصريف، فلذلك لن نضمنه هذا الكتاب... والآخر من قسمي التصريف: تغيير الكلمة عن أصلها من غيرأن يكون التغيير دالا على معنى طارئ على الكلمة نحو تغييرهم "قول" إلى "قال" ... وهذا التغيير منحصر في النقص ل"عدة" ونحوه والقلب كـ"قال"و"باع" ونحوهما، والإبدال كـ"اتعد"و"اتزن" ونحوهما.
يستفاد من كلام ابن عصفور أن التصريف نوعان:
1) نوع يقترب مما يسمى في الاصطلاح اللساني الحديث بالصرافة الاشتقاقية morphologie dérivationnelle التي تنطلق من فرضية تقول بوجود مكون صرافي في اللغة يتكون من عدد من القواعد الصرافية التي تمكن من اشتقاق مختلف المقولات النحوية انطلاقا من صرفية ثابتة ومجردة، وسابقة لمختلف التغييرات الصرافية المتعلقة بالحركات واللواصق والتضعيف، الخ، وهذه الصرفية النواة في اللغة العربية هي صرفية الجذر الذي هو أصل المشتقات، خلاف ما ذهب إليه أهل البصرة من أن أصل المشتقات هو المصدر، وخلاف لما زعم نحاة الكوفة من أن أصل المشتقات هو الفعل، لأن الجذر أكثر تجريدا من المصدر والفعل. ويبدوأن ابن عصفورـ من خلال النص الذي أوردناه ـ يسير في هذا الاتجاه فهو يعتقد أن مقولات مثل ضرب، تضارب، اضطرب، اشتقت من صرفية نواة هي صرفية الجذر التي تتكون من" ضاد راء باء".
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الاشتقاق في تحليلات القدماء الصرافية يختلف عن مصطلح dérivation المتداول في اللسانيات التوليدية، فالاشتقاق في تصور القدماء يفيد أمورا ثلاثة: كما يؤكد عبد القادر المغربي ص10ـ12.
أ) اشتقاق مختلف الصيغ من صيغة أساسية هي المصدر، كاشتقاق ضرب، ضارب، تضرب، تضارب، ضارب، اضطرب، مضروب، ضوارب، ضويرب، الخ، من صيغة المصدر (ضرب)، وهو ما يسمى في اصطلاحهم بالاشتقاق الصغير.
ب) الاشتقاق بمعنى القلب المكاني métathèse كقولهم جبذ وجذب وخرشب وخشرب، واضمحل وامضحل، واكفهرواكرهف، وما أطيبه وأيطبه، الخ، ويسمون ذلك الاشتقاق الكبير.
ت) الاشتقاق بمعنى الإبدال substitution ويتمثل في استبدال صوتية بأخرى في نفس المحيط الأصواتي، ويشترط في المبدل والمبدل منه أن تكون بينهما قرابة أصواتية، وألا يؤدي ذلك إلى تغيير دلالي كقولهم صقر وزقر وسقر، ومت ومد ومط، ومكة وبكة، وهو ما يسمونه الاشتقاق الأكبر.
ومعلوم أن الاشتقاق في إطار الصياتة التوليدية phonology generative يفيد اشتقاق التمثيلات الأصواتية للمتواليات انطلاقا من تمثيلاتها الصواتية وذلك عن طريق تطبيق بعض القواعد الصواتية. ويفيد هذا المفهوم في إطار الصرافة التوليدية generative morphology خاصة الصرافة الاشتقاقية، اشتقاق مختلف المقولات النحوية انطلاقا من صرفية الجذر وذلك عن طريق تطبيق بعض القواعد الصرافية وقواعد تكوين الكلمات فهناك الجذر /ك ت ب/ وقواعد تكوين الكلمات World Formation Rules التي تعطينا المقولات التركيبية الممكن اشتقاقها انطلاقا من الجذر، وذلك عن طريق قواعد صرافية تعمل وفق المبدأ الآتي :
لا تشتق x من y إلا إذا كان x يحكم y في بعض المداخل المعجمية.
2) النوع الثاني من التصريف الوارد في نص ابن عصفور يقترب مما يسمى بالصياتة التوليدية، ويتمثل في اشتقاق الصور المنطوقة أو التمثيلات الأصواتية لبعض الكلمات انطلاقا من صورها المجردة أو تمثيلاتها الصياتية، وذلك عن طريق قواعد صياتية استطاع النحاة القدماء تحديدها ولو بطريقة غير صورية كما استطاعوا ضبط السياقات أو المحيطات الأصواتية المختلفة لتطبيقها.
فبعد تطبيق القواعد الصرافية، وكذا قواعد التعديل الواردة في المكون الصرافي يكون خرج هذا المكون عددا من الصيغ التي تمثل مختلف المقولات التركيبية في اللغة العربية، وهذه الصيغ تكون مطابقة تماما للتمثيلات الصياتية للكلمات، وهذه الأخيرة هي التي تكون دخلا لقواعد المكون الصياتي.
وعندما توجد كلمات عربية لا تطابق صورها المنطوقة ما يوجد من صيغ في القسم الصرافي ترجع هذه الكلمات إلى أصولها، أي إلى تمثيلاتها الصياتية ثم تطبق عليها القواعد الصياتية الملائمة التي تنقلها إلى صورها المنطوقة، فمن أمثلة ذلك ما ذهب إليه ابن عصفور أن الأصل في كلمات مثل قال وباع هو قول وبيع، لأن الأفعال الماضية الثلاثية المبنية للمعلوم في اللغة العربية، تأتي على مستوى العمق على وزن فعل بتناوب الحركات القصيرة الثلاث على عين هذه الصيغة، ولا تأتي على وزن "فال"، فهذا الوزن غير وارد في اللغة العربية سواء على مستوى الأفعال أو حتى على مستوى الأسماء والصفات، الخ، ولذلك قال القدماء إن الأصل في قال وباع هو "قول" و"بيع" واقترحوا قاعدة تبين كيفية الانتقال من تمثيلها الصياتي إلى تمثيلها الأصواتي. فمن ذلك مثلا قول ابن يعيش
ج10،ص16)
" قولك قال وباع وأصله قول وبيع فقلبوا الواو والياء ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما وكذلك طال وهاب والأصل طول وهيب، فأبدلتا ألفا لما ذكر"، ويمكن قراءة هذه القاعدة في طابعها غير الصوري : "حول الواو أو الياء ألفا، إذا وقعتا بعد فتحة، وكان بعدهما مصوت، مع حذف المصوت الواقعة بعدهما" وتطبق هذه القاعدة على التمثيلات الصواتية لقال وباع مثلا كما يلي:
(1) 9awala و baya3a
يعطينا:
(2)9aāla و baā3a
وتحتاج هذه المتواليات إلى قاعدتين أخريين للوصول إلى تمثيلاتهما الأصواتية هما:
1) قاعدة المماثلة المقطعية syllabic assimilation التي اقترحها Brame (1970)، والتي تقول في طابعها غير الصوري: "حول الألف فتحة إذا وقعت بعد فتحة وكان بعدها صامت، وحول الواو ضمة إذا وقعت بعد ضمة وكان بعدها صامت". وتطبيق هذه القاعدة على (2) يعطينا:
(3) 9aala و baa3a
2) وتحتاج (3) إلى قاعدة المد التي صاغها Brame (1970ص108)، والتي تقول في طابعها غير الصوري: " حول الحركتين المتماثلتين حركة طويلة " وبذلك نحصل على الخرج النهائي:
(4)9āla و bā3a
5 ـ خلاصات واستنتاجات:
كان الهدف من معالجة هذا الموضوع إبراز مكانة الصواتة في الصرف العربي القديم، وإثارة الانتباه إلى الخلط الذي وقع فيه النحاة القدماء، خاصة الرعيل الأول منهم حين تناولوا في التصريف أو الصرف العربي أبوابا تنتمي إلى مستويين مختلفين من التحليل اللغوي، هما الصرافة والصياتة، فسموا كل ما يندرج تحتهما من أبواب صرافية وصياتية: صرفا أو تصريفا.
والواقع أن القارئ المتمرس للصرف العربي القديم يستطيع أن يميز بين ما هو صياتي وما هو صرافي في أبحاثهم رغم هذا الخلط المشار إليه، بل يمكن القول إن التحليلات الصياتية التي قدمها القدماء لا تقل أهمية عن تحليلاتهم للمستويات اللغوية الأخرى، وهذا ما دفع ببعض اللسانيين الغربيين إلى القول بأن منهج القدماء في معالجة القضايا الصياتية والصرافية شبيه بالمنهج المعتمد في اللسانيات التوليدية عموما والصياتة التوليدية خصوصا.
غير أنه من المنطقي طرح السؤال : لماذا وقع هذا التداخل بين ما هو صرافي وما هو صواتي في الصرف العربي القديم؟
لقد سبق أن بينا في الفقرات السابقة أن هناك ارتباطا وثيقا بين المستويين الصرافي والصياتي في اللغة العربية التي تعد من اللغات الاشتقاقية بامتياز .
فقد أشرنا أعلاه إلى أن المتواليات الصياتية التي تكون دخلا للمكون الصياتي هي التي تكون خرجا للمكون الصرافي بعد تطبيق القواعد الصرافية، وكذا قواعد التعديل، فيكون خرج المكون الصرافي بعد تطبيق هذه القواعد عددا من الصيغ الصرفية التي تكون مطابقة تماما للتمثيلات الصياتية. هذه التمثيلات التي تكون دخلا input للمكون الصواتي وتطبق عليها أول قاعدة صواتية.
ومن مظاهر هذا الارتباط كذلك، أن كلا من القواعد الصرافية وكذا القواعد الصياتية تأخذ كمجال لها في التطبيق بنية جذع الكلمة، تاركة ما يطرأ من تغييرات على أواخر الجذوع لمباحث التركيب، وهذا ما حمل القدماء على الاعتقاد أن كل ما يطرأ على بنية جذع الكلمة من تغييرات هو ذو طبيعة صرافية، والواقع أنه ذو طبيعة صرف ـ صياتية morphophonologique أي أن من هذه التغييرات ما هو صرافي محض، وينتمي إلى المستوى الصرافي للغة ، وله أبواب خاصة سبقت الإشارة إليها. وهذه الأبواب بمفردها هي التي تشكل مجال مباحث الصرافة العربية. أما النوع الثاني من التغييرات فهو ذو طبيعة صياتية، وله أبواب خاصة كذلك في اللغة العربية؛ كالإبدال والإدغام والإعلال والقلب والنقل وتخفيف الهمزة والابتداء والوقف والتقاء الساكنين،الخ. فهذه الأبواب وما يرتبط بها من قضايا صياتية هي التي تشكل مجالات بحث الصواتة العربية.
بيبليوغرافيــا:
ابن الأنباري، أبوالبركات، الإنصاف في مسائل الخلاف، دار الفكر، د ت.
ابن جني، أبو الفتح عثمان، سر صناعة الإعراب، المكتبة التوفيقية،د ت.
ابن عصفور، أبوالحسن علي الإشبيلي، الممتع في التصريف، دار الآفاق الجديدة بيروت 1970.
ابن يعيش، أبو البقاء، شرح الملوكي في التصريف، المكتبة العربية 1970.
ابن يعيش، أبو البقاء، شرح المفصل، عالم الكتب، بيروت مكتبة المتنبي، القاهرة.
الأشموني، علي ابن محمد، حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مكتبة الصفا، ط1، 2002.
الشايب، فوزي حسن، تأملات في بعض ظواهر الحذف الصرفي، حوليات كلية الآداب، الحولية العاشرة 1989.
الشايب، فوزي حسن، أثر القوانين الصوتية في بناء الكلمة، عالم الكتب الحديث أربد الأردن 2004.
الغلاييني، مصطفى، جامع الدروس العربية، المكتبة العصرية 2003.
الفاسي الفهري، عبد القادر، البناء الموازي: نظرية في بناء الكلمة وبناء الجملة، دار توبقال للنشر، ط1، 1990.
سيبويه، أبو بشر عمرو ابن عثمان، الكتاب، عالم الكتب، تحقيق عبد السلام محمد هارون 1975.