التداولية وعلاقتها بالسيميائية :
أ- تعريفها :
أصبحت التداولية في السنوات الأخيرة موضوعاً مألوفاً في اللسانيات وفي الدراسات الأدبية بعد أن كانت السلة التي ترمى بها العناصر والمعلومات التي لا يمكن توصيفها بالأدوات اللسانية التقليدية . يقول جفري ليج بهذا الصدد: "لا نستطيع حقيقة فهم طبيعة اللغة ذاتها إلا إذا فهمنا التداولية : كيف نستعمل اللغة في الاتصال " .
تختلف التداولية (( Pragmatics)) عن المذهب الذرائعي في الفلسفة ( Pragmatism ) مع ذلك يرى البعض في الأخير مصدراً من مصادر الأول ويعد موريس أول من أعطى تعريفاً للتداولية حيث اعتبرها جزاءً من السيميائية عندما ميز بين ثلاثة فروع للسيميائية هي : التركيب (النحو ) ويعني به دراسة العلاقات الشكلية بين العلامات ؛ والدلالة ويعني بها دراسة علاقة العلامات بالأشياء ؛ والتداولية ويعني بها دراسة علاقة العلامات بمؤوليها . و توجد محاولات حديثة لربط ما طرحه موريس بالسياق الذرائعي لجالس بيرس . وخصوصاً مفهوم بيرس عن العلامة والفكر . يقول بيرس " لا نملك القدرة على التفكير بلا علامات "
وتبنّى بيرس عقيدة ( العلامة الفكر ) وهي منهج للتأكد من معاني الكلمات الصعبة والتصورات التجريدية .
لقد سارت التداولية منذ ذلك الوقت في اتجاهين هما : الدراسات اللسانية والدراسات الفلسفية . ففي الاتجاه الأول استعملت التداولية بوصفها جزءً من السيميائية اللسانية وليس بعلاقتها بأنظمة العلامات عموماً . وما يزال هذا المنحى اللساني قائماً لحد الآن في اللسانيات الأوربية ، أما في الدراسات الفلسفية وخصوصاً في إطار الفلسفة التحليلية ، فقد خضع مصطلح التداولية إلي عملية تضييق في مجاله . وقد كان للفيلسوف والمنطقي كارناب دوره ، فقد ساوى بين التداولية والسيمياء الوصفية .
لكن ما يهمنا منه ، اتجاه معظم التفسيرات اللسانية لتكون داخلية بمعنى أن السمة اللغوية تفسر بالإشارة إلي سمة لغوية أخري أو إلي جوانب معينة من داخل النظرية ، وظهرت الحاجة إلي تفسير ذي مرجعية خارجية وهنا ظهرت الوظيفية اتجاهاً ممهداً للتداولية .
العلاقة بين التداولية والسيميائية :
يمكن تقسيم التداولية العامة إلي اللسانيات التداولية والتداولية الاجتماعية فالأولى يمكن تطبيقها في دراسة الهدف اللساني من التداولية - المصادر التي توفرها لغة معينة لنقل أفعال إنجازيه معينة - والثانية تعنى بالشروط والظروف الأكثر محلية المفروضة على الاستعمال اللغوي وهو حقل أقل تجريداً من الأول . فالتداولية تدرس المعني في ضوء علاقته بموقف الكلام . والموقف الكلامي يشتمل علي جوانب عديدة يمكن أن نجمعها فيما يلي :
أ- المخاطبين ( فتح الطـاء ) والمخاطبين ( كسر الطـاء ) : وهم المتحدثون والمستمعون . وينبغي هنا التمييز بين المستلم والمخاطب فالأول شخص يتلقى ويؤول الرسالة في حين أن الثاني شخص مستلم مقصود للرسالة .
ب- سياق التفوّه : للسياق عدد من التعريفات ، فهو ينطوي على الجوانب الفيزيائية والاجتماعية ذات الصلة بالتفوّه ، وينظر إليه في التداولية على أنه المعرفة القبلية التي يفترض أن يشترك بها المتحدّث والسامع ، وتسهم في تأويل الأخير لما يقصده الأول .
ج- هدف التفوّه : تتحدث التداولية اللسانية خصوصاً عن الهدف أو الوظيفة بدلاً من ؛ المعني المقصود . والكلمة (هدف ) أكثر حيادية من كلمة (القصد ).
د - الفعل ألإنجازي : تتناول التداولية الأفعال اللفظية أو الأداء الذي يحصل في مواقف معينة ، في حين يتناول النحو كيانات مجردة مثل الجمل . إذن فالتداولية تتعامل مع اللغة على مستوى أكثر ملموسية من النحو والدلالة .
هـ - التفوّه بوصفه نتاجاً : تشير مفردة تفوّه في التداولية إلى نتاج فعل اللفظ بدلاً من الفعل اللفظي نفسه .
أما أهم الموضوعات التي تعالجها التداولية لسانياً المفردات التأشيرية التي يمكن تقسيمها إلي شخصية ، وزمانية ومكانية وخطابية واجتماعية ؛ فضلاً عن التضمينات المحادثية والاقتضاء والمعاني الحرفية والمعاني السياقية ، وأفعال الكلام وتصنيفاتها وتحليل الخطاب وتحليل المحادثة وغيرها الكثير من الموضوعات .
فالتداولية تمتلك إمكانات تطبيقية في حقل الأدب الذي لا يتطلب مسائل تطبيقية محضة ؛ وتفيد التداولية بوصفها منهجاً لحل المسائل في اللسانيات التطبيقية وفي تفاعل الإنسان والآلة ، وفي الصعوبات الاتصالية التي تظهر في اللقاءات التي لا يتواجه فيها المتصلون . وهناك نوع من التفاعل بين التداولية واللسانيات الاجتماعية في حقول اهتمام مشترك فقد أسهمت الأخيرة في مجالات معينة من التداولية وخصوصاً في تحليل المحادثات والخطاب والأدوار الاجتماعية ودورها في تحديد صيغ المخاطبة . فضلاً عن ذلك تمتلك التداولية علاقات مهمة وحيوية مع اللسانيات النفسية فهناك علاقة بينها وبين علم النفس الإدراكي وخصوصاً نظريات معالجة وإنتاج اللغة وتطور مفاهيم القوة الإنجازية والتضمينات والافتراضات السابقة .
إن السيميائية هي تساؤلات حول المعنى .وهي دراسة للسلوك الإنساني باعتباره حالة ثقافية .لأن السلوك لا يمكن أن يكون دالا إلا إذا كان وراءه قصد ما .فالتساؤل عن المعنى تساؤل عن معنى النشاط الإنساني وعن معنى التأريخ .
وفي نهاية هذه الورقة أقول إني قد وجدت كلمة "سيماهم "قد وردت ست مرات في القرآن الكريم ،وذلك في الآيات التالية :
1- الآية 273من سورة البقرة ؛ومنها : "تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا "
2- الآية 46 من سورة الأعراف وفيها : "وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم"
3- الآية 48 من سورة الأعراف ؛ وفيها : "ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم "
4- الآية 30 من سورة محمد ؛وفيها : " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم "
5- الآية 29 من سورة الفتح وفيها : "سيماهم في وجوههم من أثر السجود "
6- الآية 41 من سورة الرحمن وفيها : "نعرف المجرمين بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام "
وقد وردت الكلمة مقصورة كما رأينا ،ولكن الذي أثار انتباهي حقا هو ارتباطها بالتعرف .فخمس من الآيات الست وردت فيها الكلمات التالية :
تعرفهم –يعرفون-يعرفونهم –فلعرفتهم –نعرف .أما الآية السادسة فلم يرد فيها فعل دال على التعرف صريحا ،ولكنه مفهوم من معنى الآية .
من الآيات دعوة صريحة لاستخدام السيما للتعرف على الإنسان في الدنيا ؛وإعلام بأنها مستخدمة في الآخرة ،فالمؤمنون حقا يعرفون بسيماهم التي منها أنهم لا يسألون الناس إلحافا كما أن للسجود أثره في وجوههم . والمنافقين كذلك يعرفون بسيماهم التي منها لحن القول هذا في الدنيا .أما في الآخرة فأصحاب الأعراف يعرفون المؤمنين والكافرين كلا بسيماهم ،وينادونهم فيحدثوهم حديث العارف لمن يحدث كلا بسيماهم .وقد نسب الله جل جلاله لذاته العلية ؛أنه يعرف المجرمين بسيماهم فيجازيهم بما فعلوا أخذا بنواصيهم وأقدامهم .
أيمكن أن أقترح بناء على تلك التأملات في الآيات الكريمة أن يسمى علم السيميائية "علم التعرف " لتكون السيما أهم مصطلحاته ؟
نتائج الدراسة:
1. هناك اختلاف كبير في المصطلحات المتداولة لتسمية هذا العلم ، ولكن السيمياء كلمة عربية وخفيفة الوقع وهي موافقة تماماً لمعنى (العلامة) التي هي محور هذا العلم في صورته المعاصرة كما ورد ذلك في المعاجم العربية والأجنبية.
2. مرّ علم السيمياء بمراحل عديدة فقد بدأ مختلطاً بكثير من العلوم كالسحر ، والكيمياء والطب ، وفي كثير من الحضارات – ومن بينها العربية والإسلامية. ولكنه تمكن أخيراً من التميز والتفرد بوصفه العلم الذي يبحث عن معنى العلاقات اللغوية وغير اللغوية وسط الحياة الاجتماعية.
3. للمسلمين إسهامات جليلة في هذا العلم فقد وردت كلمة (سيما) وبعض مشتقاتها في القرآن عدة مرات مقرونة بالتعرف والمعرفة ، ووردت أيضاً في الشعر العربي. بينما تناول الكثير من علماء العربية العظام الموضوعات التي صارت تعرف اليوم بالمباحث السيميائية ومن هؤلاء ، ابن سيناء وابن خلدون وعبد القاهر الجرجاني والجاحظ وغيرهم.
4. تعود الأصول الفكرية للسيميائية لأصول الفكر اليوناني والإسلامي والمنطقي التداولي والوضعي والتجريبي وأخيراً اللسانيات البنيوية والتحويلية.
5. من مبادئي السيميائية التفكيك والتركيب والتحليل المحايث والبنيوي.
6. للسيميائية اتجاهان رئيسان : أمريكي وفرنسي ، ونوعان رئيسان هما : سيمياء التواصل والإبلاغ ، وسيمياء الدلالة ولكل منهما أشكال عديدة.
7. يرى دي سوسير وتلاميذه أن اللسانيات جزء من السيمياء بينما يرى البعض أن اللسانيات هي أصل السيمياء.
8- يستعمل العلماء في هذا المجال عدداً من المصطلحات أهمها – العلامة ، والدال والمدلول (الدلالة) والتأويل والمحايثة والمعنى وغيرها.
العلامة هي محور هذا العلم إذ استفاض في الحديث عنها العلماء فعرفوها ووصفوا أنواعها وبينوا علاقاتها وصفوها بالاعتباطية وقلبوا تقسيمها على وجوه عدة.
تعد اللغة وآدابها أخصب مجالات التطبيق السيميائي ، ذلك أن العلامة اللغوية هي أهم العلامات و يجري قياس العلامات غير اللغوية عليها.
للسيميائية استخدامات عديدة منها : كشف الكذب والإشهار والإعلان والسينما والقصص المصورة وقراءة اللوحات التشكيلية .