الدكتور محمد خرماش
أستاذ النقد الأدبي والمناهج المعاصرة
جامعة فاس - المغرب
"كلمة عن النقد الأدبي"
تقديم : حول مفهوم النقد الأدبي و تعريفاته
النقد الأدبي عملية فكرية تنصب على الأعمال الأدبية قصد فهمها أو تقريبها أو تفسيرها أو تقويمها، وهي العملية التي يستمد منها النقد مشروعيته وتعريفه وحقيقة وجوده. ولذلك يحدد الناقدان الفرنسيان "كارلوني وفيللو" مثلا أهدافه في التفحص والتوضيح والشرح والتقدير، لأنه يقوم في نظرهما على : "دراسة الأدباء القدامى أو المعاصرين وتفحص مؤلفاتهم بغية توضيحها وشرحها وتقديرها حق قدرها." ولذلك أيضا يتراوح تعريف "النقد" بين اعتبار العمل الأدبي موضوعا للتقويم والحكم،أو موضوعا للمتعة الجمالية،أو للفهم والإدراك، وبين البحث عن مقوماته الخِطابية ضمن حياة صاحبه أو ضمن مكوناته أو ضمن قراءته وتلقيه.
ومن هذا التعريف تتفرع ثلاثة مستويات للنظر:
1 – جمالي وهو الذي يعتبر الأدب مولدا للانفعالات التي تشبع الحس الجمالي
2 – نفسي وهو الذي يعتبر الأدب علامة على الحركية السيكولوجية المتفاعلة
3 – اجتماعي وهو الذي يعتبر الأدب علامة على المعطيات الشخصية والسياقية
ولما كان النقد الأدبي في أصله لصيقا بالأدب ومرتبطا به فهو يشترك معه في بعض المعطيات ويقاسمه بعض العناصر حتى ليقال عنه بأنه الأدب الذي يكتب عن الأدب. ورغم الاعتراضات القائمة ضد النقد التطبيقي الذي قد يعتبر دخيلا أو متسلطا على النص الأدبي، فهو في الحقيقة يعمل كثيرا على تقريب الحقائق الفنية، وعلى فهم المنتج الإبداعي في سائر أبعاده، فيضيء التجربة الأدبية ويكملها، وبذلك ينهض بمهمة خطيرة ودقيقة في خدمة الأدب وفي خدمة الثقافة والمجتمع.
والناقد المحترف على حد قول رولان بارت،وسيط هام بين المبدع والمتلقي فيما يتعلق بإظهار القيم الأدبية، فهو يكتب نتيجة قراءته وتفحصه لكي يجد الآخرون فرصة لقراءة مغايرة أي قراءة أحسن وأخصب. ومن ثم فمهمة النقد الأساسية أن يبحث في أدبية الأدب التي يمكن أن تتأتى من تنظيم أو تكوين خاص لعناصره اللغوية أو من مرجعياته مثل المبدع والوسط والسياق وما إلى ذلك...وحينما ينتهي الى تصنيف إنتاج مّا بانه أدب او فيه ادبية فهو يقومه ويحكم عليه ولو من طرف خفي. وبالطبع فالعملية النقدية التي تسعى لتفعيل النص الأدبي وتحقيقه فنيا وفكريا، تنطلق بالأساس من التراكمات المعرفية الحاصلة في مجال الأدب ونقده؛ أي من محاولة تحديد الإجراءات التي تساعد على استكشاف القيم وتمثل الظاهرة،وتبين المعطيات الداخلية أو الخارجية بالنسبة للنص الأدبي، فتجمع المفاهيم المتضافرة في الاتجاه المشترك. وقد يركز الاتجاه على بعض العناصر المكونة للإبداع الأدبي مثل الكاتب أو النص أو المرجع أو المتلقي وبذلك يمكن تصنيفه وتحديده؛ بمعنى أن المحدد الأساس في التوجُّه النقدي هو تلكم الأسئلة القابعة في ذهن القارئ/ الناقد التي سيواجه بها النص والتي سيقيم عليها بحثه ودراسته. وعليه يمكن القول بأن كل عملية نقدية واعية تنطلق من فرضية مسبقة تحدد السؤال المطروح على النص (والذي غالبا ما نقرأه في العنوان) والمتحكم غالبا كذلك في اختيار المتن واختيار المنهج وكيفية التعامل معهما؛ كأن يتساءل الناقد مثلا عمن هو الأديب شخصيا أو فكريا أو ثقافيا أو نفسيا أو اجتماعيا أو ما إلى ذلك؛ أو عن النص و مكوناته وكيفية انبنائه ودرجة الأدبية فيه وما إلى ذلك، ومن ثم يفترض تعريف النقد الأدبي نوعا من الاختيارات المعيارية التي تؤكد أو تعدل الاختيارات المطروحة، بمعنى أنه تعارضي وقد ينبني على تنافي التوجهات المختلفة. وعليه فقد يمثل الاتجاه بناء على تلك التساؤلات والاختيارات مجموعة من الأفكار والآراء المتقاربة التي تسير في اتجاه واحد أو موحد بنفس المنطلقات ونفس الأهداف، وقد يعمل ضمن حركة النقد العامة ويؤثر في سيرها وتطورها؛ والسؤال المطروح على النقد الأدبي إذن يعود دائما إلى إمكانية وجود تاريخ لتطوره ضمن تطور علاقته مع الأدب وموقفه منه. وثمة مؤلفات عديدة عن النقد أو النقود الأدبية منذ البدايات والى الآن، لكنها لا تستطيع تحديد نقلات بينة ومستقلة في مجال النقد أو المعرفة النقدية ، بمعنى أنها تعيد السابق وتستفيد من اللاحق ، وأن النموذج النقدي لا يفنى ولا يُسلم مكانه لغيره بالمرة، وانما تحصل تعديلات بسبب التفاعل أو التعالق مع العلوم المجاورة أحيانا؛ وبهذا الصدد يمكن الحديث عن المناهج أو المدارس أو النظريات المتداخلة أو المتفاوتة أو المتساكنة؛ والسؤال الأكثر إلحاحا هو الاختيار الممكن بين كل النماذج أو المناهج، والذي غالبا ما لا تحكمه مردودية المنهج أو فعاليته بقدر ما تحكمه أشياء أخرى مثل البعد السياسي أو العقدي أو الجمالي أو ما اليه؛ ولذلك فتاريخ النقد الأدبي يصطدم دائما بما تصطدم به نظريته، أي بغياب التطور المنبَتّ الذي يُنتج تقدما منقطعا كما في العلوم البحتة، وإنما هناك تداول للمقولات وكل نظرية او منهج يحاول أن يبني على انتقاد غيره فتدور سلسلة التعارضات وتستمر.
وقد تساءل الباحثون منذ القرن السابع عشر عن امكانية استقلال النقد كعلم قائم بذاته وانفصاله عن الأدب، فاستعمل "سانت بوف" عبارة "علم الأدب" لأول مرة قاصدا بها تاريخ الأدب، ثم تبعه " هبوليت تين" بتصنيفاته المعروفة؛ لكن الذي ميز فعلا بين النقد الأدبي وعلم الأدب هو رولان بارت الذي اعتبر النقدَ خطابا يبحث عن معنى محدود ومعين في العمل الأدبي، وعلمَ الأدب خطابا عاما يراعي تعددية المعنى في الأدب من خلال البحث في مكوناته وأنماطه وقضاياه، ولذلك فالكثيرون ومنهم روجي فايول مثلا لا يعتبرون إنجازات الشعرية أو السميائيات أو السرديات أو الأسلوبيات أو حتى البلاغة الجديدة من النقد الأدبي ، وإنما هي علوم خِطابية وأدبية..
هذا وتجدر الإشارة إلى أن رصد الاتجاه أو الاتجاهات في النقد الأدبي عملية لاحقة للنقد الأدبي وتدخل في نطاق نقد النقد أو معرفة المعرفة، وأصعب شيء في ممارستها تبيُّن المنهج الذي يحكمها أو يمكن أن يحقق فعاليتها وأهميتها؛وهي لا تملك في الغالب إلا أن تكون وصفية محايدة تدخل في صميم إشكالية المفاهيم والمقولات لضبطها وتأصيلها وتقدير مدى توظيفها ونتائجها، ولو أنها تضطر أحيانا إلى إعادة إنتاج الموصوفات بما لا يخلو من ذاتية أو من مواجهة لمعرفة بمعرفة أوإيديولوجية بإيديولوجية،لكنها تتوخى عادة في المنهج العلمي ما يلي:
- تحديد منطلقات الناقد ولو لم يصرح بها، ومن ثم تحديد منهجه ومقاصده.
- تحديد اختيار المتن ونوعية التحليل والدراسة .
- تحديد الأهداف التي رسمها الناقد وكيف عمل على تحقيقها.
- تحديد مدى الانسجام الحاصل بين المنهج والنتيجة.
على أن عملية التصنيف المنهجي مرتبطة أساسا بنقد الإبداع وليس بالإبداع ذاته، إلا من حيث مناقشة النتائج أو الاستدلال على الناقد بمادة بحثه.
والخلاصة أن النقد الأدبي إنتاج معقد ومتداخل ويصعب تعريفه ولا يمكن أن تكون له حدود ثابتة وقارة ومضبوطة بكيفية نهائية؛لكن لا ينبغي أن يستغرق في الاستطرادات الأنطولوجية التي تبعده عن النص، ولا يجعل من الأعمال الأدبية حقولا للتجارب النظرية، ولا بد أن يزاوج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي وبين ما هو علمي وما هو فني، ويبحث عن المعرفة كي يطورها أسوة بسائر العلوم واستفادة من نتائجها وتقدمها..