" أنا لستُ جاريتك ǃ "
رفعت صوتها كما لم تفعل من قبل. كانت تودّ أن تمدّ يدها لتصفـعه كما فعل لكـنّها لم تستطع، شيء ما – داخلها – خذلها، شيء ما قيّد يدها ليعلو صوتها مضاعفة. ورأى في صراخها تحديّا فأعاد الكرّة و لكن بعنف أكبر : شدّها من شعرها. قرّب وجهها منه. حاولت مواجهته ببقايا ملامحها، نظرت إليه فاكتشفت للمرّة الأولى أنّه يشبه الشّياطين و أنّه قبيح جدّا.
ـ لا تفكّري في الصّراخ في وجهي مرّة ثانية،المرّة القادمة سأجعلك خرساء.
تعمّد أن ينطقها كلمة كلمة، كأنّه يحفر ما قال في ذهنها،مازال لم ينجح في ترويضها بعد بل لعلّها بدأت تتمرّد وعليه أن يجعلها بقايا إنسان حتّى لا تكرّر فعلتها. هوت فارتطم جسدها بالأرض.كانت تُشبه دمية بيد طفل يعشق ألعاب الحروب.
ـ "الرّجال يحترفون وأد الأحلام؟"
الآن-وهي ملقاة على الأرض- تذكر جيّدا ذاك اليوم الذي حدّثتها فيه أمّها عن وهم السّعادة الثنائيّة بعد الزّواج.
بدا لها كلام والدتها ظالِما أو ربّما غبيّا مليئا بالعقد ومظاهر الفشل.هي لا تعرف معنى أن تحَب،معنى أن يختارها رجل فيمنحها إمكان دخول عالم كثيرا ما حلمت به.أمّها لا تدري أنّ لكلام المحبّين سحرا لا يُفسّر وربّما لا يُصدّق.
يومها قالت لها:
ـ بنيّتي،لا أحبّ أن أسرق هذا البريق الذي أرى في عينيك،فقط أحبّ أن تكوني أكثر واقعيّة لتكون حياتك أيسر أو حتّى أنجح،بعد الزّواج لا تحتاجين إلى الحب...
قاطعتها دون تفكير، كلّ ما يعنيها هو أن تثبت لها أنّها تأتي من غير زمنها و أنّها تتحدّث عن شيء لا تعرفه. لا تُصدَّق النصائحُ إلاّ متى صدرت عن خبرة فكيف ستصدّقها وهي تعلم جيّدا كيف تزوّج والداها؟
ـ لست مضطرّة لتكرار تجربتك حتّى أثبت لك أنّ للحياة وجوها غير التي يعرفها الآباء.
ابتسمت أمّها ثمّ أضافت:
ـ ولست مضطرّة لأراك بقايا إنسان لأثبت لك ما أقول،كم أرجو أن تُكرّري ما عشتُ، على الأقلّ سأكون قادرة على إيجاد الحلول وإنقاذك من مواقف عديدة، كلّ ما أخشاه هو أن أفاجأ بعالم لا أعرفه وأن لاتطالك يداي فأحضنك وأنت تذرفين دموع الخيبة والضّعف وموت الحلم.
بدت لها أمّها غريبة هذا اليوم،لعلّها تغار من هذا الذي جاء لـ"يسرق" ابنتها.
ـ أمّي، لا تخافي ، إنّه يحبّني.
- كم أخشى أن يمنّ عليك يوما أنّه قد أحبّك..
لم تكن أمّها على حقّ فهاهو اليوم يمنّ عليها أنّها تتنفّس. حاولت الوقوف،هربت إلى فراشها،تمدّدت و أغمضت عينيها.كان عليها أن تهرب من كلماته،من رغبة مجنونة في بلوغ الحلم مع رجل، من غبائها حين كانت مجرّد إمرأة فغفرت له صراخه في وجههاـ للمرّة الأولى ـ وقد همّ بصفعها ثمّ تراجع. يومها أسعدها أنّه تراجع وودّت أن تقبّل يده لأنّها أثبتت لها أنّه يحبّها وأسعدها أكثر أنّه عاد ليطلب الغفران حتّى ظنّت أنّ قبلته على جبينها جعلتها سيّدة النّساء.لكنّه عاد ليضربها و انتظرت طويلا أن يطلب الغفران ولم يفعل...كان صمتها كالرّمال تتسارع حبّاتها لتقتل زهرة أخطأت المكان.
ـ"حين تصمت المرأة يزداد الرّجل جبنا فيصرخ بصوت أعلى ويكسر أضلعا حوته ذات يوم وخبّأت له أحلاما كالأطفال." هكذا صارت تردّد لنفسها كلّ ليلة قبل أن تنام ثمّ تنسى في تفاصيل الحلم ترنيمتها فتبتسم له وتنتظر طلب الغفران مرّة أخرى... لم تجرأ يوما على أن تُخبر أمّها.مازالت تذكر يوم قالت لها:
ـ لا شيء يقتل الأمّ غير أن ترى إبنتها وقد قتلها حلم مجنون.لا تكوني حالمة فالحالمون مجانين أغبياء،ينفخون في الآخرين روحا سُرقت منهم وينسون أنّهم أحقّ بها...
ماذا تفعل الآن و قد كانت كذلك ؟ماذا تفعل وقد نسيت أنّ النّصيحة لا تفترض الخبرة؟ماذا تفعل وقد صارت تٌضرب لأنّها يجب أن تُضرب حتّى تستقيم الحياة؟ماذا تفعل وقد صارت روحها تُسرَق ثمّ تطالب بالابتسام وإرضاء الرّغبات وإن كان ما يسكنها هو الرغبة في التقيّؤ؟ماذا تفعل وقد صار صوت الباب وهو يُفتح يذكّرها بالعصفور الذي لا يفكّر في الأكل كلّما فتحت نافذة القفص بل في إمكان الهروب وإن في غفلة من صاحبه ثمّ يدعو ربّه أن يدكّ المنزل بعدها ؟ماذا تفعل لتسرق روحها مرّة أخرى وإن ببقايا ملامح؟ماذا تفعل لتستعيد ثبات خطاها وهي تعبر الشّارع؟
تراكمت الأسئلة وفكّرت في أنّ شيئا ما عليه أن يموت لتحيا.لأوّل مرّة تشمّ رائحة الموتǃ وتصوّرت أنّه لو عاد الآن لقتلته...
أرعبتها الفكرة فتكوّر جسدها واستعادت وضعها الجنيني.
لم تكن يوما عدوانيّة ولا حتّى منتقمة وهاهي اليوم تفكّر في...ما هذا الشّيطان الذي سكنها؟إنّها روح هذا الذي أحبّت ذات يوم نُفخت فيها ربّما حين قرّب وجهها منه. ياله من عقاب أبديّ،أن ينفخ فيها روحا مزروعة شوكا ǃ لا طاقة لها بها.إنّها بالكاد تحيا خيبتها ولا تفكّر حتّى في فهمها...كم تخاف أن يدخل الآن ، كم تخاف أن يشمّ رائحة الموت فيسابق رغبتها في الخلاص... ليته يُطيل البقاء خارجا،ليته لا يعود،ليتها تتخلّص من رائحة الأجساد المتعفّنة، ليتها تعود طفلة فلا تمزّق دماها ولا ترى الحلم واقعا ممكنا ...
تكوّرت حتّى اختنقت فعاودها البكاء وقدّرت أنّ أمّها تشاركها الخيبة وأنّ كلّ نساء الكون يبكين فَقْد الحلم كما يبكين فقد الأبناء...علا صوتها، لم تكن تبكي،كانت تنحب،كانت تروّي رمالا تسابقت لتقتل زهرة أخطأت المكان، كانت تبكي وليدها،كان تبكيه وتلعن الرّحم الذي احتواه لأنّه سرق حقّها في الحياة ...
الحالمون مجانين أغبياء... ويصبحون أغبى متى صدّقوا إمكان اكتمال الحلم خارج المقابر...