تأليف د محمد محمد يونس علي
يتفق اللسانيّون في القرن العشرين على أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة، ولكنهم يختلفون فيما يمكن أن يوصف بأنه علمي، أو غير علمي، الأمر الذي ترتب عليه تفاوت فيما بينهم في تحديد نطاق العلم، وحدوده. لقد ساد الاعتقاد في بداية القرن التاسع عشر بأن توجيه البحث اللغوي نحو البعد التاريخي أكسب الدراسات اللغوية طابع العلم، وقد ألمح إلى ذلك اللغوي الدانمركي أوتو جسبرسن Otto Jespersen في قوله: "إن الصفة المميزة لعلم اللغة science of language كما يفهم الآن هي السمة التاريخيّة".[2]
ومن العوامل التي كان لها أثر فعّال في تحديد مفهوم العلم في البحث اللساني ثلاثة تيارات مهمة هي التجريبية empiricism، والوضعية positivism، والعقلانية rationalism. وقد بلغت أهمية هذه النزعات الفلسفية شأوا جعلت جون لاينز يقول إنه بدون معرفة التجريبية، والوضعيّة لا يمكن أن يتوقع من طلاب اللسانيات "أن يفهموا بعض القضايا النظرية، والمنهجية التي ميّزت بعض المدارس اللسانية من أخرى في الوقت الحاضر"[3]. فالتجريبية تشير إلى وجهة النظر القائلة بأن كل المعرفة تأتي من الخبرة experience؛ ولاسيما من الإدراك الحسي perception، والمادة المأخوذة من الحس sense-data. وقد تبنت هذه النظرة المدرسة الوصفية الأمريكية التي كان يتزعمها اللساني الأمريكي بلومفيلد Bloomfield الذي تأثر إلى حد كبير بعالم النفس واطسن Watson مؤسس المدرسة السلوكية في علم النفس. نشر واطسن مؤلفه السلوكية Behaviorism في سنة 1924، ولكنه مهّد له ببعض المبادئ التي وردت في بعض مقالاته، ومحاضراته.[4] عُرِف السلوكيون بصرامتهم في الدعوة إلى المحافظة على الموضوعية، وانتقاد العقلانيين في الاعتماد على الحدس، والاستبطان في الحكم على المادة اللغوية، ورفضهم إقحام الأنظمة العميقة المفسرة للسلوك الخارجي. وقد وصف تشومسكي Chomsky (وهو اللساني، والفيلسوف الذي أعاد الاعتبار إلى الفلسفة العقلانية) هذا الرفض بأنه "موضوع لا يقبل الجدل؛ لأنه تعبير عن افتقاره إلى الاهتمام بالنظرية، والتفسير".[5] ويتساءل عما إذا كان المهم هو التبصّر في البحث أم مجرد التعلّق بالموضوعية مشيرا إلى أن العلوم الاجتماعية، والسلوكية تبرهن على أننا قد نلهث وراء الموضوعية دون أن نظفر إلاّ بقسط قليل من التبصر، والفهم،[6]، ويرى أن التغاضي عن الأحكام الاستبطانية لغرض الحفاظ على النقاء المنهجي ما هو إلا حكم على دراسة اللغة بالجدب، والعقم.[7]
وهكذا بينما كان بلومفيلد، وأتباعه يسألون "كيف يمكن أن نصف، ونحلل ما يقوله المتكلم، والكاتب من كلام يمكن للملاحظ الخارجي أن يلاحظه عيانا؟ كان التشومسكيون يسألون "ماذا يدور في عقل المتكلم السليقي، أو الفصيح بحيث يمكن أن يدعى متكلما للإنجليزية، أو السواحلية، أو اليابانية، أو اللاتينية الكلاسيكية، أو أية لغة أخرى.[8]
ويرتبط هذا الأمر بالحجة التي استخدمها التشومسكيون ضد السلوكيين، وهي ظاهرة اللاتناهي infinity في عدد الجمل التي يمكن للمتكلم في أية لغة أن يقولها. وهي تعني أن ما يحمله المتكلم في رأسه من الجمل الممكنة أكثر بكثير من القولات التي قيلت بالفعل. وقد أدى هذا الأمر إلى العناية بالحدس intuition، والاستبطان introspection بوصفهما أفضل وسيلتين لاستكشاف ما يدور في عقل المتكلم. كما انشغل اللسانيون بأفكار كانت تعد من الميثافيزيقيات التي لا يليق باللسانيات دراستها، ومن هذه الأفكار مفهوم البنية العميقة، وافتراض العمليات الحاسوبية المعقدة التي تحدث في أذهان المتكلمين، والقواعد العمومية التي يولد بها الإنسان. وبذلك تحول البحث اللساني إلى العقلانية، وانتكست التجريبية التي تبناها بلومفيلد، وأتباعه. وقد وصف روبنز Robins الفرق بين منهج تشومسكي، ومنهج التجريبيين بقوله:
"كان تشومسكي، ومن تبعه في منهجه العام ينظرون إلى اللغة من الداخل؛ أي إلى كفاية المتكلم السليقي في استعمال لغته، وفهمها، في حين كان على التجريبيين –مخلصين في ذلك لمبادئهم- أن ينظروا إلى اللغة من الخارج مثلما تفعل العلوم الطبيعية، وكان عليهم أن يشغلوا أنفسهم حصرا بظاهرتي الكلام، والكتابة التي يمكن ملاحظتهما عيانا".[9]
وبناء على رأي تشومسكي فإن اللغة في حد ذاتها إنما هي مفتاح لفهم جزئي للعقل، أو الدماغ البشري؛ ولذا صرح غير مرة بنظرته إلى اللسانيات على أنها فرع من علم النفس الإدراكي cognitive psychology.[10]
ولعل من المهم هنا أن نشير إلى وجود تلازم بين المدرستين التجريبية، والوضعية فيما يتعلق باللسانيات على الرغم مما بينهما من اختلافات تاريخية، وفلسفية. فالوضعية نزعة علمانية نشأت في سياق حملة النقد الموجهة ضد تيار المناظرات الغيبية، والميثافيزيقية، وعرفت برفضها لكل ما ليس له وجود فيزيائي. وكان لهذه المدرسة مبدآن مشهوران هما مبدأ التحقق principle of verification، ومبدأ التخفيض principle of reductionism. ووفقا لمبدأ التحقق لا تكون الفكرة مفيدة ما لم تثبت صحتها بالملاحظة، أو بمناهج علمية معيارية تطبق على المادة المجموعة بالملاحظة، أما مبدأ التخفيض فيقتضي وجود أولويات للعلوم تجعل بعضها أساسا للآخر، فالفيزياء، والكيمياء أكثر أساسا more basic من الأحياء، والأحياء أكثر أساسا من علمي النفس، والاجتماع، وهكذا. وفي التركيبة الكلية للعلم الموحّد تُخفّض مفاهيم (ومناهج) العلوم الأقل أساسا إلى مفاهيم (ومناهج) العلوم الأكثر أساسا (أي يعاد فهمها، وتفسيرها في ضوئها).[11] وعلى الرغم من أن مبدأ التحقق قد تُخلي عنه الآن فلا نزال نرى أثره في نظرية المعنى القائمة على اشتراط الصدق truth-conditional theory of meaning. أما مبدأ التخفيض فلم يعد جذّابا كما كان في عهد بلومفيلد. وعلى وجه العموم، لقد اتسمت لسانيات القرن العشرين (شأنها في ذلك شأن علمي النفس، والاجتماع) بطابع الفلسفة الوضعية، ولكن هذه الفلسفة بدأت تتعرض مؤخرا –كما يذكر لاينز Lyons- إلى النقد بوصفها غير عملية unworkable، وعقيمة sterile.[12] وهكذا فإن كلتا الفلسفتين التجريبية، والوضعية –خلافا للعقلانية- ترفضان إقحام الموضوعات التي تخرج عن نطاق الملاحظة، أو تتعدى حدود الوصف المقتصر على العناصر التي يمكن التحقق منها. وكما لاحظنا فإن تبني الفلسفة العقلية ميز بوضوح مدرسة تشومسكي من المدرسة السلوكية التي اعتمدت الفلسفتين التجريبية، والوضعية إطارا نظريا لأفكارها.