يمثل الاضطراب المفهومي في الفكر العربي المعاصر عمليةً فكريةً أكثر مِمَّا هي مسألة تتعلق بمعرفة حدود المفهوم نفسه. وبكلام آخر لا يرتد الاضطراب إلى مسألة (أكاديميةٍ) بحتةٍ تتعلق بمعرفة بيانات المفهوم ومحدّداته بقدر ما يرتد إلى عمليةٍ فكريةٍ معقّدةٍ، ومشروطة بالضرورة تاريخياً ومعرفياً. وبطبيعة المفهوم نفسه، وهل هو مفهوم (منجز) بشكلٍ يسمح بتدوين تاريخه وتحديد محدّداته؟ أم ما يزال في طور (الإنجاز)؟ وهل هو مفهوم (مدرسي) منجَز؟ أم أنه مفهوم قابل؛ لأنَّ يستعاد من جديد في شروطٍ مختلفةٍ عن الشروط التي تكوّن وتطوّر وتبلور فيه؟
إن المفاهيم المرتبطة بالعمران أو الاجتماع البشري -على مختلف أبعاده- هي في حقيقتها التداولية (مفتوحة) قابلة باستمرار للقراءة والتفسير والتأويل مهما حاول تاريخ الفكر أن يلبسها ثوب المفهوم المتسق والمتماسك و(المكتمل). فلتاريخ الفكر منهجه في وضع حدود المفاهيم بعد (استقرارها)، غير أن لكل مفهوم تاريخ اجتماعي-اقتصادي-سياسي معقد تجعل منه قابلاً للاستعادة وإعادة المساءلة والاستدعاء، وفي شروط معينة الطلب عليه لأهداف اجتماعية-سياسية معينة. بل إن (التماسك) و(الاتساق) و(مناعة) المحدّدات هي جزء من طبيعة المفهوم التجريدية، والانتقال من المتعيّن إلى المجرّد، ومن الواقع إلى الفكر. وهو ما يعطي المفهوم (المجرّد) طابع الاستقلال النسبي عن الشروط التي تمّ إنتاجه أو تكونه أو تطوره فيها بحيث كون قابلاً للمقروئية في شروط زمانية- مكانية مغايرة.
يعبّر ذلك في حقيقته عن ديناميكية الثقافة بمعناها الأنتروبولوجي الثقافي المحدّد، الذي يعني (الكل المعقّد الذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق والقوانين والأعراف، وغيرها من الاستعدادات والعادات التي يكتسبها المرء بوصفه عضواً في المجتمع)(1). فليس هناك من ثقافة (ساكنة) أو (متحركة) ماهوياً، إلاَّ بشكل نسبي، أي نسبةً إلى ثقافةٍ أخرى في عمليةٍ تاريخيةٍ شديدة التعقيد. فلا ينكشف مفهوما (السكون) و(الحركة) إلاَّ حين تلتقي ثقافتان مختلفتان في النظرة إلى العالم فيما بينهما، سواء أكان هذا اللقاء في شكل تفاعل أو مواجهة. وفي الأحوال كافةً مهما كان يظهر في عملية (اللقاء) هذه مِمَّا يوصف ظاهرياً بـ(السكون) أو (الديناميكية)، ولاسيما حين يتصل الأمر بالمقارنة المعيارية مابين الثقافات، فإن (ضعف تحرك) بعض الثقافات لا يرتد إلى أسباب معرفية أو عرقية أو ماهوية مزعومة، بل إلى أسبابٍ تاريخيةٍ وجغرافيةٍ واقتصاديةٍ(2).
بهذا المعنى فإن (الاضطراب) المفهومي هو مظهر من مظاهر عملية أنتروبولوجية معقّدة بين الثقافات المختلفة. وتحضر إشكاليتها في الثقافة العربية بهذا الوصف، بوصف أن عملية (الاضطراب) ناتجة عن عملية أعقد هي ما بات بات يصطلح عليه باسم (المثاقفة) (Acculturation). وينطبق ذلك تمام الانطباق على إشكالية (الاضطراب) المفهومي في الفكر العربي المعاصر. فلقد ولدت هذه الإشكالية في شروط عمليةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ تشير إلى تكون حقبةٍ جديدةٍ في تطور العالم، هي حقبة الحداثة التي قامت جوهر فعاليتها على نزع (السحر) عن العالم، وعلْمنة العالم، وجعله ذاتيّ المرجع بمعنى أن ليس هناك خطاباً مؤسساً لها سوى ديناميكيتها الذاتية المرجع، وإن أنتجت في سياق تاريخانيتها نوعاً مِمَّا يصفه مؤرخو الدين بالأديان البديلة. وبتعبير جان ماري دومينياك ظلت الحداقة تبحث عن إنجيلٍ يحل مكان الإنجيل الذي (حطّمته) كي تسبغ (سمواً) عليها(3).
وعلى الرغم من أن هذه العملية كانت نتاج قرون عاصفة من التحولات والتطورات الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية، والتغيرات في نظم المعرفة والمعايير والأنماط الأنتروبولوجية للثقافة بمعاييرها وجوانبها المادية والرمزية، فإن الفكر العربي المعاصر أخذ يخضع لها بشكل أكثر وضوحاً مِمَّا كان عليه قبل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولما يزل خاضعاً لها في إطار آليات عملية المثاقفة، التي أخذت تتطور بدورها وتتخذ لبوساتٍ جديدةً، تتسم فيها العملية الآن نفسها بكسر ثنائية (الخارج) و(الداخل). فما عادت العلاقة بين (الداخل) و(الخارج) علاقة بين شيئين خارجيين عن بعضهما، بل غدت في عصر الحداثة علاقة داخلية في كل ثقافة. وهذه العلاقة بدورها معقدة أشدّ ما يكون التعقيد، ففي الوقت الذي يتكون فيه حيز عالمي مشترك للاتصال مابين الأفكار - المجتمعات، ويرغم كافة الثقافات على رؤية تطورها (الإيجابي) أو (السلبي) في إطار مفاهيمه، فإنه يطلق ديناميات لا تتوقف أمام عملية التأويل وإعادة التأويل، بل وتخلق ثقافات أخرى فرعية أخرى، أو تطور أنماط ثقافية أصلية في اتجاهات جديدة. وهذه عملية تشهدها كافة الثقافات الآن بشكل (مفتوح) في مرحلة معاودة سؤال عصر الحداثة عن (نهايته) وبزوغ مؤشرات عملية تحول جديد من عصر الحداثة إلى ما بعده، يتسم فيه هذا التحول بأنه عملية لما تزل جاريةً، ويرتد جوهرها إلى بروز الحيز (العولمي) في تبادل الأفكار والاتصال الثقافي بمعناه الأنتروبولوجي الواسع، بشكل أفقي وليس هرمياً، أي أن عملية الاتصال باتت شبكية ولامركزيةً، وليست علاقةً هرميةً تحكم السلطات المختلفة السيطرة عليها.
يشتد في مثل تكون مؤشرات هذه الحقبة الجديدة حضور إشكالية (الاضطراب) المفهومي. وإذا ما أعطينا الكلمة مؤشرها الإجرائي وليس مؤشرها المعياري، فإن (الاضطراب) المفهومي عملية ترتد إلى طبيعة انتقال المفهوم من بيئة إلى بيئةٍ أخرى. وفي عملية الانتقال هذه يشهد كل مفهوم (رحلة) أو عملية انتقال يعاد فيها تفسيره وتأويله، بشكل يكون فيه قابلاً للاستخدام في مجال ثقافي آخر. هذا ما يسميه ادوار سعيد بـ(انتقال النظريات)، مشيراً إلى أن حركة انتقال النظريات (إلى بيئة جديدة لاتتم دون عوائق أبداً، بل تنطوي بالضرورة على عمليات من التمثل والتأسيس، حيث تختلف هذه العمليات عن تلك القائمة عند نقطة المنشأ)(4).
يتنمذج ذلك في حالة إعادة تأويل الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي لمفهوم (الاستبداد) من خلال توسط ترجمة المؤرخ الليبرالي العثماني عبد الله جودت في العام 1898م لكتاب فيكتور ألفييري (الاستبداد) إلى اللغة التركية في شروط أهميته (لأولئك الذين يعانون القهر والعذاب تحت نير حكومة ظالمةٍ مستبدةٍ)، وتأويل عبد الرحمن الكواكبي لمفهوم (الاستبداد) في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) (1898) الذي شكلت الترجمة التركية لكتاب ألفييري إحدى أهم مراجعه، ثم تأثر آية الله الغروي النائيني بتأويل الكواكبي لمفهوم (الاستبداد) عن الترجمة التركية الفييري، وإعادة إنتاجه في شروط ثورة (المشروطة) في إيران 1907-1909م(5). كان السياق الذي استدعى مفهوم (الاستبداد) لدى ألفييري الذي كتب مخطوطة كتابه قبل قيام الثورة الفرنسية في العام 1789م هو سياق اجتمعت فيه الفكرة (الدستورية) مع فكرة المقاومة والدفاع عنها، وطرح فيها -في مقدمة الترجمة الفرنسية التي ترجمت إلى التركية ثم تأثر بها الكواكبي وبالأخير تأثر النائيني- (مفهوم الديمقراطية). لقد حكم ما يمكن تسميته بلغة إدوار سعيد بـ(مجموعة من الظروف أو الشروط التي يمكن تسميتها بشروط القبول)(6). انتقال نظرية (الاستبداد) ومفهومه بين بيئته الفرنسية ثم الإيطالية فالتركية فالعربية فالفارسية. وفي ضوء (شروط القبول) يتحول المفهوم المستعاد في (هجرة المفاهيم) و(ترحالها) أو (انتقالها) إلى جزء من الجهاز المفهومي للثقافة المستقبلة للمفهوم والمحوّلة له، سواء أكان هذا الجهاز مهيمناً أم سيغدو مهيمناً في مرحلةٍ ما.
يسمح هذا الإطار الفكري للإشكالية بمقاربة اضطراب الفكر العربي المعاصر في مرحلة ولادة إشكالية المثاقفة بمعناها الأساسي في القرنين الفائتين، أي إشكالية تأثير عملية المثاقفة بوصفها تعني تغيرات في الأنماط الثقافية الأصلية لدى إحدى جماعتين أو كليهما من الأفراد تنتميان إلى ثقافتين مختلفين، وعلاقتها بإشكالية التغير الثقافي(7)، وهذه الإشكالية الأخيرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـ(اضطراب) المفاهيم، بوصفها تحكم إنتاج الأفكار. كانت هذه المرحلة هي مرحلة ما نصطلح على وصفه الآن بمرحلة (النهضة) أو (الإصلاح) والتي يطلق عليها البعض وصف (مرحلة التنوير العربي). وهذه الأوصاف نفسها تصدر عن مرجعيات مختلفة في قراءة هذه المرحلة، ويعبّر تعددها وعدم استقرارها في حد ذاته عن إشكالية (الاضطراب) المفهومي. إنها ذاتها المرحلة التي صاغها الإصلاحي الإسلامي شكيب أرسلان تحت سؤال: (لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟). وهذا سؤال معياري بامتياز لما يزل حاضراً حتى اليوم، وأثار ولما يزل يثير المفاهيم التي يتم التفكير بواسطتها بمقاربة هذه الإشكالية، و(حلّها). وهو يرتد إلى سؤال الحداثة ذاتها.
تسمح مقاربة الفكر العربي المعاصر لهذه الإشكالية بالتمييز بين جانبين أساسيين في عملية (الاضطراب) المفهومي في استقبال الآخر، وعملية استيعابه التمثلية أو المعكوسة، أو المستقلة. وهما جانب (التوفيق) (Eclectisme) وجانب (التلفيق) (Syncretisme). التوفيق والتلفيق ليسا شيئاً واحداً بل كل منهما مقابل للآخر. فالتوفيق مذهب لا يجمع من الأفكار والآراء والمفاهيم إلا ما كانت وحدته مبنيةً على أساسٍ معقولٍ، بينما يقوم التلفيق على (الجمع مابين معانٍ وآراء مختلفة في مذهب واحد، لا تبدو لمن يجمعها متفقة بسبب عدم التعمق في إدراك بواطنها). فيختلف التوفيق عن التلفيق بتعمقه في بواطن الأمور، وحرصه على التنظيم الدقيق، والتوحيد المتماسك. إن مفهوم التوفيق إيجابي بينما مفهوم التلفيق تبخيسي وازدرائي)(8).
إن الاضطراب المفهومي يشمل المعنيين، ولكنه في الأول يكون إيجابياً بينما يكون في الثاني سلبياً، ففي الثاني يرتد إلى قراءة (خاطئة) للمفهوم. لكن هذه القراءة (الخاطئة) نفسها ليست نتيجة ضعف عملية القراءة، أو نقص في الدراية بحدود المفهوم بل هي -بلغة إدوار سعيد- (جزء من نقل تاريخي للأفكار والنظريات من بيئةٍ إلى أخرى)(9). لا يعني رد الاضطراب المفهومي -بمعناه السلبي أو (التلفيقي)- إلى شروط عملية (النقل التاريخي للأفكار والنظريات) نفي (التلفيقية) عنه، بل مجرد فهم لعمليته التي جعلته (يلفق بين نظريتين). وهذه العملية ثقافية-تاريخية أكثر مِمَّا هي عملية مفهومية مجردة. إنها -كما يقول المغاربة- إشكالية لا تقبل الحل على المستوى الضيق للإشكالية نفسها بل لابد من حلها في الحقول الأخرى التي تتعلق بها الإشكالية.
يتنمذج هذا التلفيق أكثر ما يتنمذج في عملية (التلفيق) بين (الدين) و(العلم). سبق لجمال الدين الأفغاني أن طرح ذلك في إشكالية العلاقة مابين الدين والعقل، محاولاً حلها بالتأويل. لكن من دشنها كان الإمام محمد عبده على الرغم من أن منهجه التوفيقي قد غلب على منهجه التلفيقي هذا التقليد في مجرى دفاعه عن قابلية الإسلام للتواؤم مع مبادئ المدنية الحديثة، بعد تجريده من (المزيدات)، والعودة به إلى الأصل المؤسس الأول. وتجلى ذلك من خلال محاولة تفسيره العلمي لـ(الطيور الأبابيل). لكن هذا المنحى تطور إلى موجة أطلقت على نفسها إسلامية المعرفة). والواقع أنها محاولة (أسلمة) للعلم، بل للإبسيتمولوجيا المؤسسة له، خالطة بين ساحتين متغايرتين أشد التغاير هما ساحة (الدين) وساحة (العلم)، ولكل منهما مفهومه للزمان والمكان، وطريقة معرفته للعالم، وبالتالي رؤيته للعالم. فالدين ثابت بينما العلم متغير، ولايكبر الدين، ولاتعلو هيبته، بمناهج دراسة (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم). فتصدر إسلامية المعرفة عما ينفي المعرفة جوهرياً أو يؤسسها، وهو النسبية والتغير والتحول والتطور بطريقة القطيعة وليس بطريقة خطية سببية. إن مصطلح (الإعجاز العلمي في القرآن) هو في حد ذاته نموذج مكتمل على عملية التلفيق، فالمعجزة في الأصل وفي الأديان كافةً تتم ضد قواعد المعقول واستنئنافاً العقلانية والعلمية.
كانت عملية (إسلامية المعرفة) هي العملية (التلفيقية) الأكبر بالنظر إلى (جدية) مقارباتها ومناهجها، ومحاولتها إضفاء التماسك المنهجي على إنتاجها لأفكارها. ولكنها كانت جزءاً من جنوح طاغ لأسلمة الحداثة(10). وفي هذا السياق ولدت مفاهيم الطب النبوي والاقتصاد الإسلامي. وهناك فرق بين دراسة ذلك على مستوى تاريخ الاقتصاد أو الطب وبين دراسته على أنه الطب أو الاقتصاد الإسلامي. وفي كل هذه النماذج كانت آلية القياس التي انغلق فيها الفقه الإسلامي -وهي آلية مظهرة كاشفة لاآلية منتجة مولّدة- هي التي تحكم (الأسلمات)، بينما همشت نظرية المقاصد التي تبدو أكثر اتساقاً من ناحية النظرية الشرعية الأصولية مع مقاربة العالم الحديث، وغاب استئناف علم أصول الفقه، وإعادة تأسيسه على المقاصد.
إن عملية التوفيق طبيعية ناتجة عن طبيعة عملية التأويل نفسها، وتتسم بطاقتها الإنتاجية لأنها تسقط عناصر عن المفهوم وتضيف إليه عناصر أخرى، من شأنها أن تطوره جذرياً، وأن تولّد مفاهيم وبالتالي أدوات تفكير جديدة، بواسطة تطويره أو القطيعة معه، بمعنى أن القطيعة معه هي نوع من العلاقة يتميز بالانطلاق من نموذج إرشادي Paradigme أو مرجعية أخرى في رؤية العالم(11). ويرتد تاريخ تطور الفكر عامةً إلى هذه العملية، ولكن دوماً في شروط تحديات ملحة، تمثلت بالنسبة إلى الفكر العربي في سؤال أرسلان: (لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟). وفي مرحلة سؤال أرسلان -وهي مرحلة الرد على الغزو الغربي، وتحويله الدولة العثمانية إلى دولة شبه مستعمرة، وإرغامها على محاولة إعادة هيكلتها في ضوء معايير ونظم مفهوم الدولة-الأمة ووحداته: الفرد والمواطنة والحريات...إلخ ما كان السؤال عن تخصيص (المسلمين) يثير إشكاليةً فلقد كانت الثنائية يومئذ هي بين الإسلام والغرب، لكن بات هذا السؤال يثير إشكاليةً اليوم، فما نسميه بالعالم الإسلامي ليس إلاَّ فضاء فسيحاً تكون فيه الفروق بين إحدى دوله ودولة إسلامية أخرى، بل والفروق داخل مجتمع كل دولة أقوى وأكبر من ناحية المؤشرات الكمية والنوعية مع دولةٍ غربيةٍ أخرى، بقدر ما أن الاجتماع الغربي نفسه يتطور بسرعاتٍ كبيرةٍ، ويسائل عن مفهوم الغرب في المجتمعات الغربية، طارحاً أسئلة الدولة والأمة والعلمانية والدين والمواطنة وحقوق الجماعات والثقافات الفرعية التي يتكون منها الاجتماع، ومعيداً النظر بمفهوم الدولة نفسها.
في الآن الذي يختلف فيه مفهوم التوفيق عن مفهوم التلفيق اختلافاً جذرياً، مثيراً اضطراب المفاهيم بمعنييه المتقابلين الإيجابي والسلبي، فإن ضغوط عملية الحداثة في مرحلة سؤال أرسلان، وهي محاولة الرد على تحديات الغرب بإطلاق عملية التنظيمات، وبناء وحدة السلطنة واستقلالها وفق معايير ونظم الدولة القومية الحديثة (الدولة-الأمة) قد اشتملت على عمليتي التوفيق والتلفيق في آن واحد. ودوماً يكون التوفيق مفتوحاً وإيجابياً لأنه من طبيعة المقروئية والتأويل بينما يكون أفق التلفيق مسدوداً. أفضت إلى محاولة (قوْمنة) الإمبراطورية العثمانية، أي قوْمنة مالا يمكن قومنته مع بقائه إمبراطورياً، ذلك أن الدولة الحديثة ترتد إلى نموذج الدولة-الأمة Etat- nation))، الذي يعتبر نموذجاً مقابلاً لنموذج الإمبراطورية، بينما يرتد مفهوم الامبرطورية في تعينه العثماني إلى مفهوم السلطنة. كان الجمع بين السلطنة والدولة عملية تلفيق بين مفهومين متضادين، فمفهوم الدولة يقوم على كل متجانس وموحد هو الأمة، بينما يقوم مفهوم السلطنة على جماعات تعددية ومختلفة اللغات والثقافات والأعراف يلحم بينها مفهوم (الملّة). وبكلام مكثف فإن منطق الدولة هو منطق التنظيم والتوحيد والتجريد والتعميم، وهو منطق العقلانية، بينما منطق السلطنة أو الإمبراطورية أو السلطنة-الإمبراطورية -في حالة السلطنة العثمانية- هو منطق التعدد والتجريبية والعادات والمجانية، أو منطق الاعتباط(12).
والأمة ليست الملّة، بل مقابل لها. ولا تحل هذه المشكلة بتوفيق مفهوم الملة أو مفهوم الجماعة الدينية مع مفهوم الأمة أو مفهوم المجتمع القومي، فهذا تلفيق وليس توفيقاً. فالأمة مفهوم مدني علماني يحيل إلى الدولة-الأمة بينما الملّة مفهوم ديني يحيل إلى مفهوم السلطة التي يمارسها ويجسدها السلطان. لقد أفضت محاولة التلفيق بين السلطنة (الإمبراطورية) والدولة الحديثة (الدولة-الأمة) إلى تكون القومية الطورانية كي تقومن جميع شعوب الإمبراطورية تحت سلطة دولة حديثة واحدة تعتم معيار الدولة-الأمة في مجانستها لـ(كثرةٍ كاثرةٍ) من الأمم. ولا ينحل سؤال التوفيق بين الأمّة والملّة حتى في المجتمعات المتجانسة دينياً، ذلك أن الأمة كلية اجتماعية-اقتصادية نوعية جديدة تقوم على الاندماج والتكامل والوحدة اللغوية والقانونية والعسكرية وتحول العلاقات الشخصانية الأساسية إلى علاقات ثانوية والعلاقات العمودية إلى علاقات أفقية، بينما الملة متعددة ومتنوعة ويسود الضعف في اندماجها الاجتماعي والاقتصادي. وبهذا المعنى فإن مفهوم الأمة تاريخي. فعلى الرغم من الثبات النسبي والديمومة التاريخية الطويلة الأمد في الجوانب الإثنية للأمة مثل اللغة والتراث والتقاليد، فإن مفهوم الأمة الحديث أو الوعي القومي الحديث بالأمة هو شيء تاريخي كلياً، ويخضع للتطور والتحول. وما سجله نشوء الدولة - الأمة الحديثة منذ القرن السابع عشر هو قيام الدولة بعملية (قوْمنة) مجالها، أي توحيده.
لقد واجه الفكر الإسلامي المعاصر إشكالية الدولة الحديثة بمعرفة سلطانية يشكل فيها النموذج السلطاني نفياً لنموذج الدولة. وكان عليه أن يحلّ هذه الإشكالية التي ليس في تاريخ الفقه ما يسندها مِمَّا يقع في فضاء فقه السياسة. ولهذا قام في الحقيقة بمحاولة بناء مفهوم جديد، وإضفاء الإسلامية، وبالتالي إضفاء سمو الفكرة الإسلامية عليه. بعد عملية توفيقية بالمعنى الإيجابي للتوفيق بين الإسلام والحداثة قام بها الخطاب الإصلاحي الإسلامي والخطاب الفكري العربي عموماً، تحققت القطيعة من خلال تبلور نظرية (الحاكمية) وسيادتها. والواقع أن أبا الأعلى المودودي الذي استمّ بطاقته النظرية الكبيرة على إنتاج الأفكار لم يفعل هنا سوى قلب مفهوم (السيادة) في الدولة الحديثة من الأمة أو الشعب إلى الله. في إطار دراسات الاتصال الثقافي وانتقال النظريات، كانت نظرية (الحاكمية) نظرية إسلامية، لكنها تنتمي إلى حيز النظرية الحديثة في الدولة التي ترتد إلى ما يمكن وصفه بلغة لومبار بـ(مثاقفة مضادة)(13)، أو بلغة سمير أمين بـ(تمركز أوروبي معكوس)(14)، وهي نظرية تنتمي إلى حيز من حيزات الدولة المعاصرة أو الحديثة في طورها التاريخاني التوتاليتاري، ولهذا وجد المودودي أن نموذج الدولة الإسلامية وفق نظرية (الحاكمية لله) أو (السيادة) هي أقرب إلى النماذج التوتاليتارية الشيوعية والنازية التي تقوم على الهندسة الكلية للمجتمع في ضوء مخطط تاريخاني، ووصفها المودودي بـ(حكومة إلهية أو ثيوقراطية)(15).
هذه المثاقفة المعكوسة أو المضادة هي جزء من تعقيدات الانتقال التاريخي للأفكار من بيئةٍ إلى بيئةٍ أخرى، ومن ثقافةٍ معينةٍ إلى ثقافةٍ أخرى مختلفة عنها. وهي هنا أكثر من عملية نقل في شروط التبادل (الطبيعي)، لأنها تتم في شروط مواجهة الهيمنة الغربية التي أقامت الفوارق بين الثقافات على أساس معياري يحول الاختلاف إلى تفاوت معرفي ماهوي بين ثقافتين، في الوقت الذي تنتج فيه الاتجاهات النقدية في هذه الثقافة ما يقوّض ذلك.
إن الاضطراب المفهومي هو من علامة الثقافات التي تدخل أو ترغم على الدخول في مرحلة تحولات جذرية، وهي تشكل جزءاً من عملية فكرية معقدة تشكل مبحثاً نموذجياً لدراسات المثاقفة والاتصال الثقافي. وقد اتسم هذا الاضطراب بقوة الموجة أو التيار في الفكر العربي المعاصر ولاسيما الإسلامي منه بسبب طبيعة المواجهة التي بدأت عنيفة بين ثقافة غربية مسلحة بسلطة المعرفة والقوة وفتح العالم وبين ثقافة راسخة الجذور أصيبت بالصدمة وبمواجهة أسئلة وإشكاليات من طراز جديد لم تكن من (النوازل) التي عرفها المسلمون من قبل. وهذه مرحلة أولى في الاضطراب المفهومي تتسم بالتكون البسيط لعمليتي التوفيق والتلفيق، ولكن المرحلة الثانية تتمثل في إعادة إنتاج الاضطراب، ومحاولة (علْومته) أو إضافة إهاب علمي محكم متسق عليه. ويبدو أخطرها -مع أنه جزء من عملية تاريخية- في الاضطراب الناتج عن تعقيد عملية التلفيق، وهو ما يلقي الغشاوة على المخيلة النقدية الطليقة للعقل التي تحتاجها الأمم الراسخة في مراحل التحولات والكوراث لتجاوز (الوعي الفاجع بالتاريخ) إلى عملية صنعه والإسهام النشط فيه.
******************************
الحواشي:
*) كاتب ومفكر من سوريا.
1- كلود ليفي ستروس، الأنتروبولوجيا البنيوية، ترجمة مصطفى صالح، وزارة الثقافة، دمشق، 1977م، ص409.
2- كلود ليفي ستروس، مقابلة ديديه إريبون، أعاد نشره عبد الرحمن يتيم في، كلود ليفي ستروس، قراءة في الفكر الأنتروبولوجي المعاصر، دار القرآن، البحرين، آذار/ مارس 1998م، ص167.
3- قارن مع:
Jean-Marei Domenach, Approches ge la modernite. Eco; e polytechnique, Ellipse, Ed.Marketinque, Paris.1980, p15-16.
4- إدوار سعيد، انتقال النظريات، الكرمل، العدد 9، 1983م، ص12-13.
5- قارن بين مقدمة الطبعة الأولى لترجمة كتاب ألفييري التي قام بها عبد الله جودت ونشرها في 6 كانون الثاني/ يناير 1898م، وبين مقدمة الطبعة الثانية التي نشرها في 26 آب 1908م بمصر حين كان الكواكبي قد انتقل من حلب إلى القاهرة. والطبعة الثانية مهداة إلى قادة انقلاب 1908م الدستوري العثماني إلى نيازي بك وأنور بك. ويستخدم أحمد جودت تعبير (جيش إمبرطوريتنا التركية) مِمَّا يشير إلى تقومنه يومئذ في سياق تقومن وعي النخب التركية العثمانية. مع كتاب (طبائع الاستبداد) للكواكبي، والتي يشير فيها إلى أن ألفييري كان من أبرز الذين بحثوا في الاستبداد لكن من دون الإشارة إلى الترجمة التركية، مع أنه يشير إلى أنه اقتبس من ألفييري، ومع مقدمة الترجمة الفارسية التي قام بها عبد الحسين (هكذا دون كنية- الباحث) لكتاب الكواكبي (طبائع الاستبداد)، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران سيد حسين، منطقة جلوخان، شارع شمس العمارة، 2327. ولمزيد من المقارنة بين تفكير منظر المشروطة حسين الغروي النائيني وبين كتاب الكواكبي قارن مع فقرة مقارنة قام بها جمال باروت في يثرب الجديدة، الحركات الإسلامية الراهنة، دار الريس، بيروت- لندن، 1994م، ص62-63. وعلى الرغم من نشر الباحث لدراسة قصيرة مقارنة بين الكتب الثلاثة، فإن البحث المقارن بينها مابزال في منظور دراسات الاتصال الثقافي يحتاج إلى بحث معمق.
6- سعيد، مصدر سبق ذكره، ص33.
7- قارن مع تحليل وأسئلة معمقة لهذه الإشكالية وتاريخها عند جاك لوميار، مدخل إلى الأتنولوجيا، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، ط1، 1997م، ص154-156.
8- خلدون الشمعة، المنهج والمصطلح، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1979م، ص37-39.
9- سعيد، مصدر سبق ذكره، ص22.
10- في العام 2002م نظم رضوان السيد ندوةً كبيرةً بالاشتراك مع جماعة أسلمة المعرفة ببيروت، شكلت مجال مناقشة معمقة لهذه النظرية الجديدة، وهاجمها السيد بأنه حتى ابن تيمية لم يقل بها (ندوة جمعية المقاصد في بيروت).
11- ميشال دوبوا، مدخل إلى علم اجتماع العلوم، ترجمة سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008م، ص460-461. قارن توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1992م، ص41.
12- قارن مع عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط2، ص62-73.
13- لوميار، مصدر سبق ذكره، ص151.
14- سمير أمين، نحو نظرية للثقافة، نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1989م، ص126-129.
15- أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، دمشق، دار الفكر، 1969م، ص30-31.
(منقول)