قضيت في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من عشرين عاماً, درست خلالها الماجستير والدكتوراه في اللغة العربية والأدب العربي واللغويات. ولم أسلم من الاستغراب أو حتى الاستهزاء من العرب الأمريكيين «تدرسين اللغة العربية في أمريكا بدل الكمبيوتر أو الهندسة أو..؟! ما الفائدة..»، لكن ديني ولغتي وثقافتي كانوا عشقي الدائم.. كأن الصورة تبدو أوضح وأكثر نقاء عندما نراها من بعيد.. وعندما نرى الوجه الآخر.. ذلك الجيل الامريكي ..الذي لا تاريخ ولا حضارة له.. بل مجرد تقدم مادي لا أكثر.. من الغريب كيف يذوب ذلك الإعجاب بالحلم الأمريكي كلما تعمق المرء في مجتمع الولايات المتحدة..
.. وكان لوقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 أثر عنيف على الأمريكيين من عدة أوجه.. منها إدراكهم لجهلهم التام بما يجري خارج نطاق قارتهم.. ومن آثار ذلك بداية ثورة في مجال تعليم اللغات في الجامعات الأمريكية.. وعلى رأسها اللغة العربية..وفي عهد الرئيس جورج بوش تم تخصيص مبلغ 114 مليون دولار لدعم برامج اللغات المهمة في أمريكا, سيما اللغة العربية. وازداد عدد الملتحقين بدراسة اللغة العربية بشكل مذهل, اذ تشير الإحصائيات الى أن جامعة هارفرد الشهيرة مثلا شهدت زيادة نسبتها 93.9% في عدد الدارسين للغة العربية بين عامي 2002 و2005 وكذلك جامعة جورجتاون شهدت في الفترة ذاتها ازديادا في عدد الطلاب الدارسين للعربية بنسبة 89.6%, ولا تكاد تخلو جامعة أمريكية اليوم من قسم لتعليم اللغة العربية..
ويطرح تدريس اللغة العربية في الولايات المتحدة صعوبات وتحديات جمة, منها صعوبة اللغة وضرورة تبسيط القواعد وقلة الأساتذة المختصين بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها, إضافة الى محدودية الكتب التي يمكن استخدامها في هذا المجال. لكن المضحك المبكي هو أن إقبال الطلاب الأمريكيين المذهل على اللغة والثقافة العربيتين يقابله إهمال مذهل أيضا لهذه اللغة في البلاد العربية, والتفاخر بالتحدث باللغات الأجنبية. وفي حين يشهد الغرب, سيما الولايات المتحدة, بداية انهيار شامل في كل المجالات, الاقتصادية منها والأخلاقية, أرسلت أحد طلابي السنة الماضية لممارسة اللغة العربية في بلد عربي, فعاد مستهزئا وهو يقول: «لقد تعلمت الفرنسية بدلا من العربية!» ويعتبر إرسال الطلاب الأمريكيين لممارسة اللغة العربية في بلد عربي من أصعب المشكلات .. فهذا بلد يفخر بالحديث باللغة الفرنسية (رغم أنها أصبحت من أقل اللغات اهتماما بها وممارسة لها في العالم), وذاك بلد تسمع فيه اللغات الغربية والآسيوية.. وندرة قليلة جدا من العربية.. وقد أثارت اهتمامي بالأمس مقابلة تلفزيونية أجريت مع إحدى المثقفات العربيات التي كانت تتحدث كلمة بالعربية ثم تنتقل الى الفرنسية والإنجليزية, ما أجبر مقدمة البرنامج المرتبكة على ان تتحول الى مترجمة فورية!.. إنني أدعو علماء النفس والاجتماع والتربية لدراسة هذه الظاهرة المقلقة الى حد الرعب.. ما معنى أن يهرب العرب من لغتهم, ويلجأوا الى كل ما هو غربي, في حين ينهار العالم الغربي ويعيش ماديا ومعنويا على صدى القنابل والمدافع التي يقذفها على البلاد العربية والإسلامية؟.. لا بد أن ندق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان. أيعقل أن يتقن الأمريكيون اللغة العربية, ونتقمص نحن شخصية غريبة لا تمت لنا بصلة لا من قريب ولا من بعيد.. الأمريكيون أنفسهم يبحثون عن بديل ويدركون ان بلادهم على شفا الهاوية. فرفقا باللغة العربية ورفقاً بتراثنا وما تبقى من حضارتنا كي لا نقول بعد فوات الأوان «جنت على نفسها براقش».
ريمة حلمي