شكوي القبطي الفصيح
حلمي سالم
(مصر)
هذي أرضي وبلادي،
هذي سندي وسِنادي،
وهنا قال الربُّ لنا": كونوا خَلْقي وعِبادي.
روّينا فيها الأرضَ بدمعتنا الدامعةِ،
زرعنا الوادي بالقمح وبالأرز وبالتوت،
وفيها أحرقنا الرومانُ فناجينا الأعلي كي يرسلَ مائدةً،
وينجي عابدةً،
وتسلّمناها من إخناتونَ وأحمسَ فأقمنا بجوار المعبد
أديرةً يذكر فيها اسمُ الله ويختبئ العُبَّادُ من البطشِ،
ولما جاء الأعرابُ فتحنا الدورَ، وأطعمناهم من صومعةٍ،
فلماذا صرنا غرباءَ،
وكنا قاومنا المحتلين شهيداً بشهيد،
سالَ الدمُّ ، صليباً وهلالاً، فوق الرمل،
لتغدو أرضُ كنانتنا طاهرةً من دَنَسٍ.
هذي أرضي وبلادي
أسلافي رنّوا فيها الأجراسَ وأجدادي
ولسوف يواصل نَسْلي رنَّ الجرسِ وأحفادي.
جبرانُ شقيقي إذ قال خذِ الناي وغنِّ لأن غناءَ
الأحياءِ حياةُ الأحياءِ.
شقيقي رزقُ الله إذا زاوجَ في المائيات صلاةَ
الجمعة في قدّاس الأحد،
فأهدينا الدينا بسماتِ وجوه الفيومِ،
أنا أمي لم تك في الأرض بغياً،
ويسوعُ البيرقُ إذ رفرفَ إنّ قال النصُّ:
عليه سلامٌ إن يحيا ، وعليه سلامٌ يومَ يموتُ، عليه سلامٌ حين
سيبعث حيا.
جمعتْ خشباتُ الصّلب الحلاجَ وعيسي،
صائحةً: أن القهرَ شبيه القهر،
وأن مساميرَ الظلمةِ واحدةٌ،
أن الكلمة كانت في البدء معادلةً للموت وللحرية،
هذا قال علي الرَّبعِ«الله بقفطاني»،
فيما ذاكَ علي الربوة قال «الله بقفطاني»،
فتجلّي بين الصحراء وبين الناصرة بلاغٌ يعلن
أن الله محباتٌ، وعلي الناسِ مسرّات الخير،
وفي الأرضِ سلام.
أغنية فرح أنطون:
البشَرُ مودّاتٌ، وتضامٌ، وتنوعُ أطيافٍ، وسَمَاحُ
المدنُ المنتظرةُ: عدلٌ وسواسيةٌ، سِعَةٌ، وبَرَاحُ
الحلمُ: بلادٌ ليس بها غُصصٌ في الحَلْق،
وليس علي بيت الله نواحُ
المدنيةُ ميثاقٌ يحمله فوق فضاءاتِ الكونِ جناحُ
في الغُمَّة ينضّمُ أخي لأخي حتي تلتئم جراحُ
والوطنُ هو العشّاقُ إذا كشفوا المكنونَ وباحوا.
***
كنتُ بميدان التحرير أصبُّ الماءَ لشيخٍ كي يتوضأ
لصلاة العصر، وكان الشيخُ يردّد في الجُمع تراتيلي،
وأنا أقربُ للمعتزلة إذ قالوا أن العقلَ هو العُروةُ،
أقربُ لأبي ذرٍّ إذ قال «إذا جعتَ بليلٍ فاخرجْ في الصبح بسيف»،
وأنا أقربُ للتوحيدي
إذا قال «غريبُ الغربةِ من صار بقلب الوطن غريبا»،
كنا مبتسمين إذا نهتف «يا طاغيةُ ارحل كي
نستنشق ما ضاع من العِطر المصري الضائعِ»،
فلماذا تُحرق دور عباداتي في الليل الأسود؟.
مني عدلي فخري إذ غني «سينا قلعُ سفينتنا المبحرةِ»،
ومني غالي شكري المؤمنُ بحضارةِ عمر بن
الخطاب ووهج الأندلسِ،
ومني الريحاني مؤسّس علم الضحكاتِ.
وكان رصاصُ القنّاصة ليس يفرِّق بين خطيبِ
الجامع والقسّ،
رصاصُ القنّاصة يتوّزع بالعدل:
عيونُ الصبية وهي تُصَّفي: فيها العين الراسمةُ صليباً ساعة ذهبت للربّ،
وفيها العينُ الراسمةُ هلالاً ساعة ذهبت للرحمن،
الشهداءُ سواسيةٌ كالمشْطِ،
لماذا انهدّ بليلٍ ركن الشمع وبابُ المذبح؟
هذي أرضي وبلادي
هذي مَددي ومِدادي
فيها أعمدتي، تعميدي، وعمادي.
كنا مبتسمين ونحن نخطّ «ارفع رأسكَ عاليةً»
فلماذا صار شقيقي جهماً يتربّص بي؟ ولماذا
أخشي أن تغدو الرأسُ مطأطأةً؟
وأنا المحروم من التاريخ، ومن برجٍ لصلاتي، من
أن أحرسَ دون غزاةِ الوطنِ حدودي،
من أن أتوّلي سَوْسَ بلادي.
نحن تشاركنا في الدّمِ، لماذا لا نتشارك بكرامات الإنسان؟
أنا خَلَفُ الكاتب إذ جلسَ بقرفصةٍ،
وأنا خلفْ السيدة الجامعةِ من الوادي أوزويسَ
المتمزّقَ شلواً شلوآً،
وأنا خلف الصُّوفي إذا قالَ:
«قد صار قلبي قابلآً كلَّ صورةٍ
فمرعي لغزلان، وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواحُ توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أَنَّي توجّهتْ
ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني»
***
كنا نهتف في العاصفة «يد واحدة»،
نتلقي الطلقاتِ ونهتف في النزف «يدٌ واحدةٌ»،
وتدوس سنابكُ خيلِ الهجّانةِ فوق الأضلعِ،
نهتفُ من تحت الدّوْس «يد واحدةٌ»،
فلماذا صارت يدنا الواحدةُ أيادي متفرقةً؟
ولماذا في الناصية تلاحقني اللحيةُ والشَّرعُ ودرسُ اللغةِ
العربيةِ والحَجْرُ الصحي وحصصُ النحو وكتبٌ صفراء؟
أغنية لويس عوض:
عاشَ بطرح النهر الأقباط ُ
يربطهم بشرايين النيلِ الجاريةِ رباطُ
تذكر ترتيلَتَهم مدنُ البحر وتذكرها الفسطاطُ
العفو هو الدَّيدنُ والغفرانُ سِرَاطُ.
لن نهجر هذي الأرضَ، ولن نستدعي أغراباً كي يحمونا
من أهل قاسمناهم لقمتَنا ومواجعَ أيام قاحلةِ. مَنْ
سكبَ الزيت علي نار وأحلَّ البغضاء محلَّ هناءات
القربي؟ فيما الربُّ الأعلي قال «ليؤمنْ من شاء،
ليكفرْ من شاء». أنا خلفُ الفلاح المتفصّح إذ
رنَّتْ شكواه بوادي النطرون «أنا لم أسرق جاري،
لم أرم القاذورات بأنهاري، لم أطرد ضيفا من داري،
الليلُ صلاتي والعمل نهاري». لا يرمي الجمرةَ في
الهيكل حتي يتوسّخَ إكليلُ العرسِ وتتفحّمَ أيقوناتُ العذراء ِ
سوي مغلوظِ النطفة.
مني مجدي يعقوب الباني مدرسة القلب المفتوح
فلا ينظر إن كان الشريانُ المتغلّقُ ينبض بالإنجيل
أم القرآن، فهل يدفع يعقوب الجزية لوجوهٍ شانئةٍ؟
ولماذا يلقي الخَبَثُ علي وجه بناتي إن
سِرْن بلفتاتٍ مبتسماتٍ وقلوب مبتهجات، فيما
قال الربُّ الأعلي لبتولٍ هزّي جذعَ النخلة حتي
يتساقطَ بين يديكِ الرطّبُ جنياً؟
هذي زادي، زِنْدي، وزنادي وهنا وَجْدي، ووجودي، حرّياتُ القلبِ، وأصفادي
وهنا فِتْناتُ الأرقِ، وأرقُ الفتنةِ، وسُهادي.
في الميدانِ المتلاطمِ كان علي يربط جرحَ وسيلي، بينا چورچ
يشيل حسين علي كتفيه مصابا بشظيات الرقبة،
فاختلط النزفُ علي النزف، وشربَ الدمُّ الدمَّ،
وكان رصاصٌ حي ليس يميز بين السّلفي وبين كتابي،
والسحلُ المجرمُ لا يفرز بين السُّنة والأرثوذكس.
فكيف تناسي أهلي قولةَ رب الدنيا أن تخالفنا
رحمة رحمنٍ ورحيم؟
أغنية إدوار الخراط:
مريمُ راياتٌ يتسلّمها جيلٌ يخلفه الجيلُ
نقشُ المعبدِ توثيقٌ للحبّ ، ورسمٌ للمرحمةِ، وتسجيلُ
وكرامات المرء هنا سيجَّها إعلاءٌ للإنسان وتبجيلُ
لو هانت عزّةُ أنفسنا قصفتنا أحجارٌ وأبابيلُ وسجيلُ
رامةُ جرحي، والخطبُ خطابي، واللغةُ الإنجيلُ.
***
كانت تشعل شمعاتٍ بكنائسَ متعلّقةٍ فوق
أصابعِ قديسين احترقتْ في الجو، وبعضُ أصابعها
تمشي فوق بيانو، تهمس «يارب احفظ مصرَ»
لماذا يصبغ بيتي بعلاماتٍ مختلفات حتي
يتبدي أني خارجُ إيلافِ الصَّفِّ؟
وقد صدَّقنا الرحمنَ إذا قال لعذراءَ كُلي يا عذراءُ وقَرِّي
عينا، وذهبنا من أخميم إلي كاترين حِفاةً. قال يسوعُ
«أحبّوا»، أحببنا. باركْ لا عنَكَ، فباركنا. أعطِ
الخدَّ الأيسرَ، أعطينا.
فلماذا يتجنبني أهلي في الطرقات؟
أنا أختي ترفعها الموسيقي فوق الأسطح
فتشفُّ إلي أن تغدو معني. في ميدان الصرخة كانوا
بسّامينَ فصاروا جهّامينَ، وكانوا بشّارينَ فصاروا
نفّارينَ، وكانوا رغّابين فصاروا رهّابين.
هذا وعدُ فقيه الظلمة:
سنقطعّ أيديكم من خلفٍ، أرجلكم من خلفٍ،
ونكونُ عليكم إعصارا
نحن كرابيجُ الربِّ علي الأرضِ،
ملائكة الله يصيرون لنا أعواناً مِطْواعينَ وأنصارا
سنحاصركم في حُجْر المعزولينَ، المغضوب عليهم،
ونطيلُ حصارا
وسنرجمكم بالحَجَر إلي أن ينبثقَ الدمُّ الفاسقُ
من شريانكمُ الفاسقِ، أنهارا
سنجزُّ جدائلَ حلواتِ الَبِّر،
ونسكبُ ماءَ النار علي أوجهكم:
شبانآً، وشيوخاً، أطفالاً، وعذَاري
منبوذونَ كمثلِ بعير أجربَ:
مدنيينَ، شيوعيينَ، بهائيينَ، ملاحدةً، ونصاري.
يا ربُّ أحفظْ مصرَ، فإنَّا روَّينا الأرضَ بدمعتنا الحارةِ،
وزرعنا الوادي بالأرز
وبالبصل وبالتوت، ولما أحرقنا الرومانُ دعونا الربَّ
ليرسلَ مائدةً، وينجي عابدة، ويدلَّ إلي اللقيا
شاردةً. نحن تسلّمنا الرايةَ من إخناتونَ وأحمسَ
فأقمنا بجوار الكرنكِ أديرةً يذكر فيها اسمُ الله ويختبئ
العُبّادُ من البَطش. فإن جاء الأعرابُ فتحنا الدورَ،
وأطعمناهم من صومعةِ الراهبِ. فلماذا صرنا غرباءَ؟ وكيف
نصيرُ ببيتِ الأهل ضيوفاً؟. لن نهجر هذا الطينَ،
ولن نغدو ذميينَ، ونحن الشركاءُ من المنبع.
هذي أرضي وبلادي
هذي بدأي ومسيري ومَعَادي
وهنا خيمةُ عمري، وجذورُ الروح، وأوتادي.
(مايو 2011)