ما لا يستحيل بالانعكاس
هذا لون من ألوان البديع أغرم به الأدباء لجماله وروعته، ودلالته على تمكن صاحبه من ناصية اللغة، وهو أن تقرأ الجملة من أولها إلى آخرها كما تقرأ من آخرها إلى أولها دون أن تتغير الألفاظ أو المعاني، نحو قول القاضي الأرجاني في مطلع قصيدة له: " مودتي لخلي تدوم " ، وقد سماه السكاكي: (مقلوب الكل) ، وسماه السيوطي : (الطرد والعكس) وبين أن من أسمائه: (القلب)، و(المقلوب المستوي)، و(ما لا يستحيل بالانعكاس)، واتفق معه في التسمية الأخيرة الحريري في مقاماته، وابن حجة الحموي، وقد اشترطوا لحُسْن هذا اللون البديعي أن يكون رقيق اللفظ، سهل التركيب، منسجما في النثر أو النظم، ومن أمثلته التي رق لفظها: ساكب كاس – كبر رجاء أجر ربك – حوت فمه مفتوح – كل فى فلك – كبرت آيات ربك – سر فسار برأس فرس – سور حماه بربها محروس – عقرب تحت برقع – أرض خضراء – مراكب كارم – فيها أهيف – رمح أحمر – بحر رحب ...... فهذه الجمل كلها إذا قرأناها بالعكس جاءت كما هي دون تغيير، وقد روي أن العماد الأصفهاني الكاتب المشهور مر ذات يوم على القاضي الفاضل فقال له: " سر فلا كبا بك الفرس "، ففطن القاضي الفاضل لما في قوله من بديع فرد عليه بمثله قائلا: " دام علاء العماد " ..... وقد ذكر هذا اللون السيوطي في كتابه: (معترك الأقران في إعجاز القرآن) ضمن أنواع الإطناب الواقعة في القرآن الكريم والتي تعد مع الإيجاز وجها من وجوه إعجازه اللغوي، فبعد أن ذكر أسماءه وعرفه، مَثّل له بقوله تعالى: (كل في فلك) ، وقوله: (وربك فكبر) ، وبين أنه لا ثالث لهما في القرآن . وقد تفنن المتأخرون من الأدباء في إبداع هذا اللون شعرا، نحو قول أحدهم :
قيل : افتح باب جار تلقه ** قلت : راج باب حتف أليق
وقول الآخر: أرانَا الإِلهُ هِلاَلاً أنَارَا
وقول الحريري :
أُس أرْمَلا إذا عـــرا ** وارْع إذا المرءُ أســـا
ونحو قول القاضي الأرجاني الذي يعد من أروع ما قيل في هذا الفن؛ لسهولة تركيبه، ورقة ألفاظه، وانسجامها:
مودَّتُهُ تدومُ لكلِّ هولٍ ** و هلْ كلٌّ مودتهُ تدومُ
ونجح أحد الشعراء في صنع قصيدة أبياتها من هذا الفن، وفيها يقول : قمرٌ يفرط عمدا مشرقُ رشَّ ماءً دمع طرف يرمقُ قد حلا كاذبُ وعدٍ تابع لعبا تدعو بذاك الحدقُ
قبسٌ يدعو سناه إن جفا فجناه أنسُ وعدٍ يسبقُ
قرفي إلف نداها قلبه بلقاها دنفٌ لا يفرقُ
فهذه الأبيات تقرأ من أولها إلى آخرها كما تقرأ من آخرها إلى أولها دون أن تتغير الألفاظ أو المعاني، أي أن عكسها كطردها، ولكنها تتسم بالتكلف والتعقيد، وتخلو من روعة التعبير وصدق الأحاسيس ودقة المعنى وقوة تأثيره في النفس، مما يفقدها المتعة الفنية، فما هي إلا صناعة مفتعلة وتكلف زائد، من خلال التنميق ورصف الكلمات واللعب بالألفاظ، إظهارا للبراعة اللغوية، ويستحيل أن يقع مثلها دون قصد أو ترويض، قد يؤدي إلى إفساد المعاني المقصودة.
والله ولي التوفيق .