مقدمة

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه , ثم أما بعد
فإن اللغة العربية لغة عظيمة خصها الله بالكثير من الميزات والخصائص الفريدة التي
لاتكون في غيرها من اللغات , كيف لا وهي لغة أهل الجنة , وقد شرفها الله كذلك بنزول
القرآن بهذا اللسان العربي المبين وهي لغة الضاد الذي أصبح علما لها ونبراسا عليها .
لقد عكف الباحثون على دراسة العربية بقضاياها المتعددة ومباحثها الكثيرة وظواهرها
المتشعبة , ومن هذه الموضاعات ( ظاهرة التضاد ) . التي سأخصص لها هذه الورقات
البحثية المتواضعة , فما هو التضاد في اللغة والاصطلاح ؟ وما هو موقف العلماء – قدماء
ومحدثين – منه ؟ وماهي الأسباب التي أدت إلى وجود هذه الظاهرة ؟ بعد ما نجيب على
هذه التساؤلات سوف نعرج بعد ذلك على التضاد الدلالي موضحين شروطه , تم نتطرق
لبعض ألفاظ التضاد التي وردت في القرآن الكريم آملين من الله العون والتيسير .



علي بن سالم المري







إهداء

انقسم الإهداء عندي إلى شطرين فمنه العام ومنه الخاص , فأما العام فهو لكل مهتم

بشؤون اللغة العربية آملا من الله أن يجد فيه شيئا من الفائدة .

وبالنسبة للإهداء الخاص فهو للدكتور فايز المحاسنة الذي اخذ بيدي وأنار طريقي وسبيلي

فالفضل يعود له بعد الله في تيسير وتوضيح كل ما جابهني من صعوبات فجزاه الله عني كل

خير وجعل كل ما يقول ويفعل في ميزان حسناته , آمين .










التضاد
تعريف التضاد في اللغة :
ورد في لسان العرب أن الضد هو كل شيء ضادَّ شيئاً ليغلبه.(1) وورد التعريف نفسه في "تاج العروس" للزبيدي (2)وأضاف: "السواد ضد البياض، والموت ضد الحياة: قال الليث. ويقال: لقي القوم أضدادهم وأندادهم أي: أقرانهم. وقال الأخفش: الند هو الضد والشبه. وقال ابن السكيت: حكى لنا أبو عمرو: الضد مثل الشيء. والضد: خلافه.

وجاء في "المصباح المنير"(3): الضد هو النظير والكفء. والجمع أضداد. والضد خلافه. و (ضادّه) (مضادةً) إذا باينه مخالفة و (المتضادان) اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار.

التضاد في الإصطلاح :
يقول ابن فارس هو ( الكلمات التي تؤدي دلالتين متضادتين بلفظ واحد ) مثل كلمة( الجون )
تستعمل للأبيض والأسود .(4)
التَّضَاد هو الكلمة ذات المعنى المضاد لكلمة أخرى. فكلمة سريع، تقابلها بطيء، فكل منهما مضادة في المعنى للأخرى.
---------------------------
1- لسان العرب , لابن منظور .
2- تاج العروس للزبيدي .
3- المصباح المنير للفيومي .
4- الصاحبي لابن فارس .



موقف العلماء من وجود التضاد :
فريق ينكر وجوده :
اختلف العلماء حول وقوع التضاد وأسباب وقوعه، فرأى بعضهم أن التضاد ليس إلا نوعا من
الاشتراك اللفظي ومن أبرز المنكرين للتضاد على الإطلاق ابن درستويه، فهو يرفض وجود
هذه الظاهرة حيث قال : "النوء السقوط أيضا وأنه من الأضداد وهو الارتفاع بمشقة وثقل، وقد
أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد ( 5 )
وإنكار ابن درستويه للمتضاد كإنكاره للمشترك حيث يرى فيه تغطية وتعمية للدلالة، ويرى أنه
إذا اعترى اللفظة الواحدة معنيان مختلفان، لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب وانتصر
السيوطي لهذا المذهب في صدر الفصل الذي عقده في كتابه المزهر فقال : هو نوع من المشترك
وأنكره بعضهم مثل ابن سيده فقال كان أحد شيوخنا ينكر الأضداد وكان ثعلب يقول " ليس في
كلام العرب ضد لأنه لو كان فيه ضد لكان الكلام محالا " كما انتصر الجواليقي لهذا الرأي
وسنده إلى المحققين من علماء العربية، ثم عرض لكثير من الكلمات التي قيل إنها من الأضداد
وبين عدم التضاد فيها ومن العلماء من عد الأضداد نقصا في كلام العرب وفي لغتهم، وقد رد
عليه ابن الأنباري في كتابه عن الأضداد قال : " كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويربط أوله
بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه فجاز وقوع اللفظة
على المعنيين المتضادين لأنه يتقدمهما ويأتي بعدهما ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون
الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا المعنى الواحد "(6)و الجدير بالذكر أن ابن
درستويه وثعلب إنما إنكارهما يتحدد في نشوء التضاد في أصل الوضع أما ظهوره فيما بعد فإنما هو لعوامل معينة .
------------------
5- إبطال الأضداد لابن درستويه .
6- الأضداد لابن الانباري
7-
الفريق الثاني : يقرّ بوجود التضاد
وهم أغلب علماء العربية نذكر منهم: الخليل بن أحمد وأبا عمرو الشيباني وقطرب وأبا عبيدة والأخفش الأوسط وأبا زيد الأنصاري والأصمعي وأبا عبيد القاسم بن سلام، وابن الأعرابي
وعبد الله التوزي وابن السكيت وأبا حاتم السجستاني وغيرهم، وقد خص كثير منهم هذه الظاهرة
بتأليف مستقل كقطرب و الأصمعي وابن السكيت وابن الأنباري وقد أقر علماء العربية بقلة هذه
الألفاظ المتضادة . قال ابن الأنباري: وهذا الضرب من الألفاظ هو القليل الظريف في كلام
العرب" ( 7)
أسباب ظاهرة التضاد :
يرى الباحثون أن لظاهرة التضاد أسبابا منها:
التفاؤل و التشاؤم : وهما من الحالات النفسية التي تسيطر أحيانا على سلوك بعض الناس فقد
يتشاءم بذكر كلمة وقد يتفاءل بذكر أخرى و اللغة تعكس ذلك كله مما يفسر لنا بعض كلمات
الأضداد مثال ذلك كلمة المفازة وأصل معناها المعجمي النجاة من الهلاك ، واشتقاق الكلمة من
الجذر(ف و ز) يؤكد ذلك . أما إطلاقها كاسم على الصحراء وهي في الحقيقة تدل على الهلاك
من باب التفاؤل ومن هنا قد يحدث الضد .
التهكم والسخرية : قال ابن الأنباري : " ومما يشبه الأضداد أيضا قولهم للعاقل : يا عاقل و
للجاهل يا عاقل إذا استهزؤوا به " (8 ) فالاستهزاء هنا أدى إلى تغير الدلالة إلى الضدية وهو أمر أيده المحدثون
------------------
8- الأضداد لابن الانباري




الخوف من الحسد : وذلك مثل أن يطلق العربي القديم على الفرس الجميلة اسم شوهاء أو حين
يطلق على المرأة العاقلة بلهاء أو على السيف المصقول الخشيب وكل ذلك اتقاء للحسد و الخوف
من الشر .

اختلاف اللهجات وتداخلها ، فللاختلاف اللهجي دور كبير في نشوء كثير من الظواهر اللغوية
خاصة بعد تداخلها نتيجة رواية اللغة وجمعها من قبائل عربية متعددة ومختلفة في ظواهرها
ومن ذلك قول ابن السكيت (الساجد : المنحني وفي لغة طيء: المنتصب والسامد : الحزين عند طيء و اللاهي عند اليمن( ( 9 )
قال ابن الأنباري : " إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فمحال أن يكون العربي أوقعه
عليهما بمساواة منه بينهما ولكن أحد المعنيين لحي من العرب و المعنى الآخر لحي غيره، ثم
سمع بعضهم لغة بعض ، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء " .(10)

التغير الصوتي
وهو من العوامل اللغوية التي تؤدي إلى وقوع التضاد حيث يؤدي تغير بعض أصوات الكلمات
----------------
8- الأضداد لابن الانباري .
9- الأضداد لابن السكيت .
10- الأضداد لابن الانباري






إلى خلق كلمات ترتبط فيما بينها بعلاقة التضاد مثل الفعل ضاع الذي يدل على الاختفاء و تطور الفعل إلى صورة واحدة هي (ضاع) ويدل على هذا الفرق صورة المضارع إذ هي بمعنى الفقد تكون (يضيع) وبمعنى الظهور (يضوع) وبالمثل : جبذ وجذب حصل لها قلب مكاني
دلالة الصيغة الصرفية
حيث تحتمل الصيغة الصرفية أحيانا أكثر من دلالة مثال ذلك : صيغة فعيل التي تأتي بمعنى فاعل مثل : سميع عليم ، قدير ، أو بمعنى مفعول مثل : دهين بمعنى مدهون ، كحيل بمعنى مكحول ، جريح بمعنى مجروح .
ومن هنا قالوا بالتضاد في الغريم بمعنى الدائن والمدين والقنيص بمعنى القانص والمقنوص .

الاستعمال المجازي
ويراد به الاتساع في استعمال دلالة الألفاظ الحقيقية و الانتقال منها إلى معان مجازية لعلاقة ما
تربط بين المعنيين وقد يصل هذا الاتساع إلى درجة الضدية، ولما كثر استعمال هذه الألفاظ
بمعانيها الجديدة وتنوسي الأصل عدت من الأضداد .
قال أبو علي الفارسي: " أن تكون لفظة تستعمل بمعنى ثم تستعار لشيء فتكثر وتغلب فتصير
بمنزلة الأصل " (11) ومن هذا الاتساع كما جاء في كتب الأضداد : كأس : هو الإناء الذي يشرب فيه و الكأس ما فيه من الشراب .

دلالة اللفظ على العموم
كأن يكون المعنى الأصلي للكلمة يدل على العموم ثم يتخصص هذا المعنى مثل كلمة : الطرب
وأصل معناها الخفة تصيب الرجل لشدة الفرح وشدة الجزع، فقد جاء من تخصص الدلالة على
الحزن مثل ذلك : المأتم معناها الأصلي النساء يجتمعن في الحزن والفرح على السواء، ثم
خصصت الدلالة باجتماعهن في الحزن فحدث الضد .
---------------
11- البغداديات لأبي علي الفارسي .

نماذج من الأضداد

السامد : للحزين و اللاهي ، الصارخ : للمستغيث و المغيث ، الصريم : لليل و النهار

الجبر : للملك و العبد ، جدا : سأل وأعطى ، المفرح : للمسرور والمثقل بالديون

السدفة : للظلمة و النور، الجلل : للعظيم و اليسير، القانع : للراضي و السائل

نص تطبيقي حول التضاد

قال ابن الأنباري : " كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويربط أوله بآخره ، ولا يعرف معنى

الخطاب منه إلا باستقائه و استكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة على المعنيين المتضادين

لأنه يتقدمهما ويأتي بعدهما ما يدل على خصوصية المعنيين دون الآخر ، ولا يراد بها في حال

التكلم والإخبار إلا معنى واحدا ، فمن ذلك قول الشاعر :


كل شيء ما خلا الموت جلل والفتى يسعى ويلهيه الأمل (12)

وبالنظر في التعريف الثاني للتضاد والذي يعتبره كلمة مضادة لكلمة أخرى في المعني نجد ابن الانباري رحمه الله يعقد في كتابه فصلا بعنوان ( الألفاظ والمعاني : النقائض والمترادفات )

حيث يقول } إن أكثر كلام العرب يأتي على ضربين آخرين، أحدهما أن يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين كقولك: الرجل والمرأة، والجمل والناقة { .

-----------------
12- كتاب الأضداد لابن الانباري .



ظاهرة التضاد الدلالي
أولا : شروط ظاهرة التضاد الدلالي :
يرى محمد بن دريد أنَّ اللفظة لا تعدُّ من الأضداد، إلا إذا دلَّت على المعنى وضده في لغة واحدة، إذ يقول: الشَّعب: الافتراق ، والشَّعب الاجتماع ، وليس من الأضداد إنما هي لغة لقوم "(13) فأفاد بهذا أنَّ شرط الأضداد أنْ يكون استعمال اللفظ في المعنيين في لغة واحدة (14) .
ويعلل أصحاب هذا المذهب ظاهرة التضاد بأنَّها تنشأ في لغات مختلفة، ثم تستعير كل لغة المعنى المستعمل عند الأخرى، وبذلك يجتمع المعنيان المتضادَّان في لغة واحدة، بسبب هذه الاستعارة، ويقول هؤلاء: " إذا وقع الحرف على معنيَين متضادَّين فمحال أنْ يكون العربي، أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما ، ولكن أحد المعنيين لحيٍّ من العرب، والمعنى الآخر لحيٍّ غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض، فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء، قالوا: فالجونُ: الأبيض، في لغة حي من العرب، والجونُ: الأسود في لغة حي آخر ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر (15).
ومن المؤكد أنَّ اللفظة من الأضداد، لم توضع للمعنيين المتضادَّين في بادئ الأمر وإنما وُضِعت لأحدهما، ثم وُجِدت عواملُ أدت إلى نشأة المعنى الثاني المضاد للأول .


-------------------
13- جمهرة اللغة لابن دريد .
14- المزهر للسيوطي .
15- الأضداد لابن الانباري .

دراسة لبعض ألفاظ الأضداد في القرآن الكريم :
إنَّ من أهم الأسباب التي دفعت اللغويين إلى التأليف في الأضداد، هو ورود طائفة منها في
القرآن الكريم .
وقد صرح بذلك أبو حاتم السجستاني في مقدمة كتابه في الأضداد، حيث قال: " حَمَلَنا على
تأليفه أنَّا وجَدْنا من الأضداد في كلامهم والمقلوب شيئاً كثيراً، فأوضحنا ما حضر منه إذ كان يجيء في القرآن (الظن) يقيناً وشكاً، و(الرجاء) خوفاً وطمعاً، وهو مشهور في كلام العرب…
فأرَدْنا أنْ يكون لا يرى من لا يعرف لغات العرب أنَّ الله عزَّ وجل حين قال: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ
عَلَى الخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ…)[البقرة]، مدَحَ الشاكِّين في لقاء ربهم وإنما المعنى:
(يستيقنون)، وكذلك في صفة من أُوتي كتابه بيمينه من أهل الجنة: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي
ظَنَنتُ..)[الحاقة] يريد: (إنِّي أيقنت)، ولو كان شاكاً لم يكن مؤمنا، وأما قوله: ( قُلْتُم مَّا
نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ )[الجاثية] فهؤلاء شُكَّاكٌ كفارٌ "(16)

-----------------
16- الأضداد لأبي حاكم السجستاني .









وقد أثير نقاش واسع في مسألة الأضداد في القرآن الكريم لدى أهل اللغة، بين منكر ومثبت لوجودها فيه، وبين موسِّع ومضيق لمفهومها وشرطها (17) .
وسوف نحاول أنْ نستجلي حقيقة الأمر في شأنها، من خلال دراسة بعض تلك الألفاظ القرآنية التي قيل إنَّها من الأضداد وما ذكره لها أهل اللغة والمفسرون من دلالات، وأنْ نتبيَّن الأثر الذي تركته تلك الألفاظ في معاني الآيات القرآنية.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنَّ أكثر تلك الألفاظ قد جاء في القرآن الكريم بأحد معنييه الضدَّين ولم يأت بالمعنى الآخر، إمَّا لأنه لم يَرِد إلا مرة واحدة في القرآن، أو لأنَّ القرآن قد استعمله في إحدى دلالتَيه دون الأخرى.
وبعض تلك الألفاظ قد فُسِّر بالوجهَين الضِّدين معاً، وهي أقل من النوع الأول. وسوف نتناول بالدراسة مجموعة منتخبة من تلك الألفاظ من النوعين، مرتبة على هجاء الحروف.

----------------------
17- التطور اللغوي التاريخي د . إبراهيم السامرائي .




















رجا: عَدَّ أهل اللغة (رجا) من ألفاظ الأضداد، فقد قال الأصمعي: «ويقال: ما رجوت فلاناً، أي ما أمَّلته، وما رجوته، أي ما خفته، وقال الله جل وعز: ( مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً )[نوح]، أي لا تخافون لله عظمة.." (18) وقال السجستاني: " والرجاء يكون طمعاً ويكون خوفاً، وفي القرآن في معنى الطمع: ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )[الإسراء]، وقوله تعالى: ( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن ربِّكَ)[القصص]، وقوله تعالى: ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن ربِّكَ تَرْجُوهَا )[الإسراء]… والرجاء في القرآن في معنى الخوف كثير، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)[الكهف] ، و( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا )[يونس]، وقوله تعالى: ( وَارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ )[العنكبوت]، وهو كثير.."(19)
وقد تقلبت دلالات هذه اللفظة عند المفسرين بين دلالتي الخوف والطمع، وقد أشار إلى معنى الخوف ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ( مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً )[نوح] فقال: أي مالكم لا تعظمون الله حق عظمته (20)، وقال مجاهد: أي مالكم لا تبالون عظمة ربكم. والرجاء: الطمع والمخافة (21)
وجاءت بمعنى (الطمع) في قوله تعالى: ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن ربِّكَ تَرْجُوهَا )[الإسراء]، قال ابن عباس: ابتغاء رزق (22)، وقال مجاهد: انتظار رزق الله عز وجل ( 23)
--------------------------------
18- الأضداد للأصمعي .
19- نفس المرجع السابق .
20- تفسير الطبري .
21- نفس المرجع السابق .
22- نفس المرجع السابق .
23- تفسير مجاهد .

ويبدو لي أنَّ عدَّ (الرجاء) من ألفاظ الأضداد فيه شيء من التجوز والتوسيع لمفهوم التضاد وإنما هو من المشترك اللفظي، لأن الخوف والطمع ليسا متضادين في حقيقة الأمر، فالخوف ضده التجلد والشجاعة، والطمع ضده اليأس وانقطاع الأمل، فليس ثمة تضاد بين
المعنيين.
عَسْعَس: قال أهل اللغة: " عَسْعَسَ الليلُ إذا أقبلَ وعسعس أدبر... وقال بعضهم: إذا ولى" (24) .
ونقل السجستاني عن أبي عبيدة أنَّه فسر قوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ )[التكوير:17] بقوله: عسعس أقبلَ ويقال أدبرَ (25)
وما جاء في (مجاز القرآن) لا يؤكد نسبة هذا القول إلى أبي عبيدة، لأنَّ أبا عبيدة نفسه نقل كلام بعض أهل اللغة في معنى (عسعس الليل) فقال: " قال بعضهم إذا أقبلت ظلماؤه، وقال بعضهم: إذا ولّى، ألا تراه قال: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)" (26) .
قال السجستاني: " قد تَقَلّد أبو عبيدة أمراً عظيماً، ولا أظن هاهنا معنى أكثر من الاسوداد. عسعس: أظلم واسودَّ في جميع ما ذكر، وكل شيء من ذا الباب في القرآن فتفسيره يُتَّقَى، وما لم يكن في القرآن فهو أيسر خطباً " (27) .

-------------------------------
24- الأضداد للأصمعي .
25- الأضداد للسجستاني .
26- مجاز القرآن .لأبي عبيدة
27- الأضداد للأصمعي .


وقد رد أبو الطيب اللغوي قول السجستاني: إنَّ معنى (عسعس) أظلم واسودّ فقال: " وليس الأمر كما ظن، فقد أنشد قطرب لعلقمة بن قُرْط التيميّ:
حتى إذا الصبح لها تنفسا وإنجاب عنها ليلها وعسعسا
فهذا لا يحتمل أن يكون المعنى فيه إلا أدبر، لأنّ من المحال أن يقول: إنجاب عنها ليلها وأظلم، وإنَّما ينجاب بالضوء " (28).
ونقل أبو الطيب نفسه أن ابن عباس قال في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) أي: أدبر، وقال غيره أظلم، وقال آخرون: أقبل (29) .
وذكر الطبري اختلاف المفسرين في هذه اللفظة، فقال بعضهم: عسعس الليل: أدبر، وقال آخرون: معناها: أقبل بظلامه، وروى رواياتٍ عدة عن ابن عباس: أن معناها أدبروقال مجاهد: (إذا عسعس) يعني: إذا أدبر (30) وفي رواية عنه نقلها الطبري تردد كلامه بين المعنيين، فقال يعني: إقباله، ويقال: إدباره (31)وهذا يدل على إحساسه بأنّ هذه اللفظة تحتمل هاتين الدلالتين المتضادتين معاً. لكنه عاد إلى ترجيح إحداهما وهي الإدبار كما جاء في تفسيره.
------------------------------
28- الأضداد في كلام العرب .
29- نفس المرجع السابق .
30- تفسير الطبري و مجاهد
31- نفس المرجع السابق .



وقد رَجّح الطبري هذا المعنى أيضاً بقرينة من السياق هي قوله بعد تلك الآية مباشرة: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)، وتَنَفُّسُ الصبحِ إقباله، وهو إيذان بإدبارِ الليل، حيث قال: " وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال معنى ذلك: إذا أدبر. وذلك لقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) فدلَّ بذلك على أنّ القَسَمَ بالليل مدبراً وبالنهار مقبلاً. والعرب تقول: عسعس الليل وسَعْسَعَ الليل إذا أدبر ولم يبق منه إلا اليسير، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
يا هند ما أسرع ما تعسعسا ولو رجا تبع الصبا تتبعا
فهذه لغة من قال: سعسع.." (32) وقال الفراء: " اجتمع المفسرون على أن معنى (عسعسَ): أدبرَ، وكان بعض أصحابنا يزعم أن عسعس: دنا من أوله وأظلم.." (33) والذي يبدو أنّ المعنى الراجح لهذه اللفظة في هذا الموضع الوحيد من القرآن الكريم هو: (أدبر)، لاجتماع القرائن اللفظية على ذلك. أما اختلاف أقوال المفسرين بين دلالتين متعارضتين لها فهو يؤكد أنها من ألفاظ الأضداد حقاً.

------------------------
32- تفسير الطبري .
33- معاني القرآن للفراء .






وبعد دراسة هذه الأمثلة من الألفاظ التي قيل إنَّها من الأضداد في القرآن الكريم يمكننا أنْ نستخلص النتائج الآتية:
أولاً: إنّ هذا الضرب من الألفاظ موجود في القرآن الكريم ولكن على قلة.
ثانياً: لقد توسع أهل اللغة كثيراً في مفهوم التضاد، وأكثر ما عدوه منها لا يتضمن شروط التضاد الحقيقي، ومن ذلك: رجا، وغيرها.

ثالثا : إنّ الألفاظ التي ثبت أنها من الأضداد تركت آثاراً مهمة في دلالات الآيات القرآنية، فقد ترددت أقوال المفسرين بين المعنيين المتضادين لكل واحدة منها، مما يؤكد إحساسهم بأنها من الأضداد وأنها تحتمل المعنيين معاً، وقد ظهر ذلك في اختلافهم في تأويل لفظة (عسعس) وغيرها.
رابعا : أكثر الألفاظ التي قيل إنها من الأضداد جاءت في القرآن الكريم كله بإحدى دلالتيها وندر أن جاءت إحدى تلك الألفاظ بالمعنيين المتضادين في السياقات القرآنية المختلفة.








الخاتمة

الحمد لله حمدا كثير كما يحب ربنا ويرضى فهو أهل الحمد والثناء نحمده على نعمه وآلائه
منّ علينا بنعمة الإيمان والأمان والصحة وغيرها من نعمه التي لا تعد ولا تحصى , أما بعد فقد
أتممنا هذا البحث بفضل من الله سبحانه , حيث تطرقت لتعريف التضاد في اللغة والاصطلاح
وبينت موقف العلماء منه بين مؤيد ومعارض ثم عددت الأسباب التي قد تكون أدت إلى حدوثه
انتقلت بعد ذلك إلى نماذج من الألفاظ المتضادة يليه الحديث عن ظاهرة التضاد الدلالي مبينا
شرطه ثم خلصت إلى بعض ألفاظ التضاد في القرآن الكريم والوصول إلى نتائج مستخلصة من
دراسة تلك الألفاظ وكما بدأنا بالسلام والصلاة نختم بها خير ختام .









المصادر والمراجع
1- تفسير الطبري .
2- معاني القرآن للفراء .
3- الأضداد في كلام العرب لأبي الطيب اللغوي .
4- تفسير مجاهد .
5- الأضداد للأصمعي .
6- الأضداد للسجستاني .
7- مجاز القرآن لأبي عبيدة المثنى .
8- التطور اللغوي التاريخي د . إبراهيم السامرائي .
9- جمهرة العرب لابن دريد .
10- المزهر للسيوطي .
11- الأضداد لابن الانباري .
12- البغداديات لأبي علي الفارسي .
13- الأضداد لابن السكيت .
14- إبطال الأضداد لابن درستويه .
15- لسان العرب لابن منظور.
16- المصباح المنير للفيومي .
17- تاج العروس للزبيدي .
18- الصاحبي لابن فارس .

الفهرس
الموضوع رقم الصفحة
المقدمة . ( 1 )
إهداء . ( 2 )
تعريف التضاد . ( 3 )
موقف العلماء من التضاد . ( 4 , 5 )
أسباب ظاهرة التضاد . ( 5 , 6 , 7 )
نماذج من الأضداد . ( 8 )
نص تطبيقي حول التضاد . ( 8 )
ظاهرة التضاد الدلالي . ( 9 )
شرط التضاد الدلالي . ( 9 )
بعض ألفاظ الأضداد في القرآن الكريم . ( من 10 إلى 15 )
النتائج . ( 16 )
الخاتمة . ( 17 )
المصادر والمراجع . ( 18 )
الفهرس . ( 19 )