تأليف د محمد محمد يونس علي
تشتمل طريقة الأحناف على أربعة مستويات من الوضوح: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم مع أن الثلاثة الأولى فقط هي المناسبة هنا. ويشرح الفرق بين الظاهر والنص بالإشارة إلى الفرق بين المعنى والمراد: فالظاهر يستخدم لوصف مستوى وضوح المعنى اللغوي، في حين أن النص يستخدم لوصف مستوى وضوح مراد المتكلم. فإذا نظرنا إلى القولة نفسها من زوايا مختلفة، فقد تعد ظاهرا ونصا في الوقت نفسه. تأمل المثال الآتي:
(1) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.[i]
لقد عُدّت الآية "وأحل الله البيع وحرم الربا" من قبيل الظاهر؛ لأن أي متكلم عربي سليقي يفهم معناها اللغوي "من غير تأمل".[ii] كما عدت نصا أيضا على اعتبار أن القرينة "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا" تدل على أن المراد التصريح بأن البيع مختلف عن الربا. وهكذا فإن سهولة البنية القواعدية للآية، ووضوح معناها المعجمي جعلاها من قبيل الظاهر، في حين أن القرينة –التي يفترض أنها أفصحت عن مراد المتكلم- جعلتها من قبيل النص. ومن المهم أن نلحظ أن كلا الظاهر والنص –ضمن أصول الحنفية- قابلان للتأويل. وبناء على ذلك، فإن ما يفهم من ظاهر الآية القرآنية السابقة، وهو الإباحة المطلقة للبيع والتحريم المطلق للربا يمكن تقييده، ومن ثمّ، فهو محتمل للتأويل اعتمادا على قرائن سياقية أخرى تدل على أن تحريم بعض أنواع البيع، وإباحة بعض أنواع الربا. وعلى المنوال نفسه، فإن ما تدل عليه القرينة من إنكار مطلق للمشابهة بين البيع والربا محتمل للتأويل، أما ما يميّز المفسر من الظاهر والنص فهو وضوحه الكامل، وقطعيته، ومن ثمّ، عدم احتماله للتأويل. والمثال المقتبس كثيرا في هذا السياق هو كلمة "ثمانين" في قوله تعالى:
(2) {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.[iii]
إذ لا يمكن هنا الخروج عن المعنى الحقيقي لكلمة "ثمانين"؛ لأن أي محاولة لإلغاء العدد، أو زيادته، أو إنقاصه سيؤول إلى تناقض بين ما يعنيه اللفظ وضعًا، وما يفهمه السامع، وهو ما يعده علماء الأصول انتهاكًا لشرط من شروط التأويل الصحيح، التي سنفصلها فيما بعد.
وقد ميّز الأحناف بين نوعين من المفسّر، يعود وضوح أحدهما إلى البنية، وهو ما سبق توضيحه، ويعود وضوح ثانيهما إلى القرينة. ولكي نوضح النوع الثاني دعنا نناقش المثال الآتي:
(3) {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}.[iv]
فكلمة "الملائكة" نفسها قد تفهم على أنها تشير إلى بعض الملائكة، لا إلى جميعهم، ولكن لمّا أُتبعت بعبارة "كلّهم"، استبعد هذا الاحتمال. ومع هذا فبدون إضافة كلمة "أجمعون" ما زال التأويل ممكنا؛ لأنه لمّا يتضح بعد: أسجد الملائكة فرادى أم جماعة [كمايرى بعض الأصوليين]؟ ولم تصبح الآية قطعية إلا بوجود كلمة "أجمعون".[v]
ولتلخيص ما قلناه عن درجات وضوح النص، يمكن القول: بينما يرى الأحناف أن كلا الظاهر والنص يقبل التأويل، يذهب الجمهور إلى أن التأويل يكون للظاهر فقط. ومهما يك من أمر، فإن مصطلح الظاهر في الأصول النظرية للجمهور يشمل الظاهر والنص بحسب استخدام الأحناف لهذين المصطلحين، أما مصطلح المفسر عند الأحناف فهو مرادف للنص عند الجمهور.
[i]القرآن الكريم، 2/275.
[ii]السمرقندي، 1/505.
[iii]القرآن الكريم، 4/24.
[iv]السابق، 15/30.
[v]ينظر السرخسي، أصول السرخسي، 1/163-165، ابن الملك، ص 353.