بسم الله الرحمن الرحيم
أمريكا في ميزان الحضارة
تستطيع أن تلمح من خلال أحداث التاريخ والمفاهيم التي تعتمد عليها الحضارات عوامل الهدم الكامنة في نموذج حضاري (ما)، ذلك أن كل حضارة قامت على هذه ا لأرض تحمل مع عوامل بنائها عوامل هدم يمكن رؤيتها بالنظر الفاحص والبحث المتأمل .، لأن الهدم يوفر بالضرورة المواد الولية لإعادة البناء.
ولكن الحضارة الإسلامية لا تخضع لهذا القانون الحضاري .، لأن المفاهيم الشرعية التي قامت عليها هذه الحضارة مفاهيم لا يتطرق إليها الباطل ولا يمكن أن يتطرق الهدم إلى بناء هذه الحضارة إلا إذا انحرف سلوك المسلمين عن هذه المعرفة المعصومة .، لذا يجب أن يكون الحد واضحا بين الإسلام بما هو إلهي المصدر (قرآنا وسنة)، وبين تفكير المسلم الذي يتحرك في حدود هذا الإطار المعصوم وعلى هدي من معالمه، إذن الإسلام لا يتطرق إليه خطأ ، والنص الشرعي صك ملزم ولا يقع الخطأ إلا في سلوك المسلمين، وفي فهمهم للكتاب والسنة، أما الأطر الفكرية الأخرى فالخطأ يقع فيها .، لذا فدراسة الفكرة الكلية (المبادئ ) الكامنة خلف أي حضارة تضع أيدينا على إمكانية الإفادة من هذه الحضارة، وتمكننا من وزن هذه الحضارة، إلى المدى الذي يجعلنا قادرين على تحديد عمرها بدقة متناهية.
من نقطة البدء أو نقطة الاندفاع في البناء، مرورا بنقطة النضج ، وهي أعلى نقطة يصل إليها المنحنى البياني لحضارة ما ، وهي كذلك النقطة التي يبدأ معها المنحنى الحضاري في الانحدار باتجاه إحداثي الصفر، أو اتجاه الذبول، والاصفرار والانزواء. إذن قضية المسلمين اليوم مع أنفسهم وليست مع الإسلام، بينما ينعكس الوضع عند التعامل مع الحضارات الأخرى.
ذلك أن الإنسان في الحضارات الأخرى يشرع لنفسه، فقضيته هي قضية الأفكار التي وضعها، والتي لا تتسم بالثبات، كما أنها لا تتسم بالعصمة .
وحين بضع الباحث الحضارة الأمريكية في الميزان ، يعجب أشد العجب من تأرجح الميزان بهذه الحضارة، حتى إن كفتها تطيش خفة، أو يميل الميزان إلى جانب القيم والمبادئ التي يجب أن يكون عليها الواقع الحضاري الصحيح، فما أخفها من حضارة، وما أتفه الأفكار والقيم التي قامت عليها !!.
من نقطة البدء هي حضارة دموية قامت على الأشلاء الممزقة والأعناق المندقة ،" ففجأة في القرن السادس عشر وقعت الكارثة بعد أن أطل عليها كولومبس حيث انطفأت حضارة كاملة ، من أنظمة حكم وطبقات اجتماعية وملوك وجيوش وقلاع وأسوار وقصور ذهبية الأبواب ومدن تفتن الأعين وفنون تغالب الخيال في النحت والرسم وكتابة وحساب وهندسة ومعارف فلكية دقيقة وطب وعلاج وحرف وزراعة تتسلق السفوح وشبكات محيرة من أقنية الري .
انطفأت هذه الحضارة كلها بضربات شيطانية ماحقة اختنقت بدماء أصحابها. جنون الذهب الذي أصاب الغزاة افترس الجنس الهندي وأباد حتى ظلال البيوت ، وذلت الفلول الباقية من الهنود ، وانحلت أعمدتهم الفقرية أمام البارود الجبار والسنابك ، ثم جاء الغزاة إلى القارة الجديدة بالجدري وبالأمراض الزهرية أيضا، فحصدت الهنود بالآلاف، وسكن الأسى الأبدي قسمات أحفادهم المبعثرة حتى اليوم بعد قرن وبعض قرن كان الهندي يكاد ينقرض في قارته الكبرى، وورث الأوربي الأرض وما عليها." 1
تلك كانت البداية دماء وأشلاء جماجم ، جرم لم تعهده حضارة في التاريخ ولم تقم حضارة في التاريخ على أشلاء الحضارات الأخرى مثلما قامت الحضارة الأمريكية الحديثة ولم يقتصر جرم هذه الحضارة في القضاء على الهنود الحمر في موطنهم الأصلي بل امتد إلى القارات والحضارات الأخرى في مواطنها الأصلية في أفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية .
غرباء وشذاذ أفاق ومغامرون جمعتهم آلام الغربة ، وسطوة المغامرة وآمال الغرباء في العيش ودفعتهم نزعتهم الاستعمارية التي كانت قد تأصلت وتبلورت آنذاك وأصبحت المبدأ الرئيسي للفكر الغربي والإنسان الغربي ، حيث تم اكتشاف رأس الرجاء الصالح وتمت السيطرة على جنوب شرق آسيا، وعلى طريق التجارة الدولي في الخليج العربي ، حيث سيطر البرتغاليون والإنجليز والهولنديون على تجارة الخليج تباعا بواسطة الشركات التجارية .
1- كتاب العربي ، تاريخنا وبقيا صور، شاكر مصطفى ص 38/39
ثم جاء الدور على عالم ما وراء البحار حيث كانت قارة بكر بكامل حضاراتها القديمة التي أبادها الأوربي المغامر الذي قاوم أمواج بحر الظلمات في رحلة اللاعودة ، وتوالت دفعات المهاجرين للمغامرين من شرق المحيط إلى غربه ، أجناس مختلفة وخليط عجيب . خليط شنق آخر قسيس بأمعاء آخر مللك، وليس لديه ما يحمله من دين أو قيم في رحلته إلى الشاطئ الآخر، لم يحمل معه إلا أمله في العيش ، وهمجيته الاستعمارية التي دفعته إلى القتل وسفك الدماء ، وتلك بدائية تجاوزها الإسلام تجاوزا بعيدا، بدائية يعاني منها – الآن - المواطن الأمريكي نفسه ، ومظاهرها متعددة بحيث تكثر على الإحصاء.
إن بداية كهذه البداية يمكن أن تبني حضارة ولكنه بناء لا يستند إلى قيم أو عقيدة تتوكأ إليها هذه الحضارة ، ليس لديها المبادئ التي تمثل الأساس الفكري المضبوط، أو العَقَدي الصحيح.
فهذا البناء الكرتوني الضخم الذي يرتفع فيه ضجيج الهمجية المنظمة، والتلصص المقنن يستمد مقاومته من شرعية دولية مزيفة، أو ديمقراطية متحررة من القيم، هذا البناء يحتوي قوة الدفع التي مكنته من وضع الطوابق الكرتونية لتصبح ناطحات سحاب خلابة ، وسيارات فارهة ، وأدوات دمار مخيفة، ولكنه يفتقد إلى قوة المقاومة التي تحتاجها كل حضارة عندما تفتر قوة الدفع لدى بنائيها.
أن نقطة البدء لاتعني أكثر من أن هذه الحضارة قامت على مبدأ الأخذ والأنانية أو المصلحة، والطموح إلى السيطرة والابتزاز، وإلا ما استطاع هذا البناء الحضاري أن يستوعب هذا الخليط العجيب منة البشر ، الجميع تنازل عن عقائده الخاصة، وعن كل القيم التي عايشته قبل الهجرة وتحولوا جميعا إلى مبدأ النفع ، ومبدأ الاستغلال والسيطرة على العالم الجديد، وحسبنا ذلك تبريرا لعدم قيام منازعات عقائدية أو أيديولوجية أو دينية.
وقد وصلت الحضارة الأمريكية إلى مرحلة الترف العلمي ، والترف الاقتصادي بتأمين تذكرة السينما لمواطنيها، يعيش هذا المبدأ وتلك القيمة في كل مظاهر هذه الحضارة بداية من السيطرة المباشرة على بعض الدول ، بتمكين عملائها من الوصول إلى سدة الحكم ، وانتهاء بفرض نظام دولي جديد يضمن لها السيطرة على مقدرات الشعوب ، من خلال منظمات دولية تابعة لإرادة الولايات المتحدة، يعطي الشرطي الأمريكي صلاحيات جديدة، يمكنه مكن خلالها تكريس ضعف الدول النامية.
فأمريكا اليوم تسعى لتأمين تذكرة السينما لمواطنيها من خلال تصدير أزماتها إلى الدول الفقيرة ، وتضمن التفوق لحضارتها من خلال التعجيز وتصدير المشكلات والأزمات، لا من خلال المنافسة الشريفة ، مع إنها تعيش هي والمعسكر الغربي على نتاج العقول المهاجرة من العالم الثالث.
إنها حضارة الأخذ و الأنانية، لا حضارة العطاء والغيرية ، إن هذا المبدأ الذي قامت عليه الحضارة الأمريكية منذ البداية مبدأ الأناني والنفعية، ليس متجسدا في نقطة البدء وحدها وليس من صنع ظروف طارئة تتلاشى بانتهاء الظروف التي صاغته وصنعته، وإنما هو مبدأ تمحورت حوله هذه الحضارة، وتبلور هذا المبدأ فيما يعرف بالفلسفة البرجماتية، والتي وضعها مؤرخو الفلسفة بأنها فلسفة أمريكية خاصة، أو اتجاه أمريكي خاص.
وقد بلور هذا الاتجاه في صورة مقولات فلسفية ثلاثة من أعلام الفلسفة الأمريكية هم : ساندرز ،بيرس ، وليم جيمس، ولم يستثني هؤلاء الفلاسفة العقيدة الدينية من الإخضاع لهذا الاتجاه النفعي أو الانحطاط إلى هذا المستوى العقلي، وإنما اعتبر واحدا من بضاعتهم المزجاة، ذلك أن المتاجرة بالمبدأ وإخضاع القيمة للمنفعة جزء من كيان هذه الحضارة.
"فليس ثمة حق في ذاته بصرف النظر عن ظروفه أنه كالسلعة قيمتها تقدر بثمنها الذي يدفع فيها فعلا في السوق"1. ويبدو تهافت الموقف النفعي من الناحية الفلسفية في قول وليم جيمس :" إن الفكرة الواحدة قد تكون صادقة في وقت ما ، أي (حين تؤدي نفعا) ، ثم باطلة في وقت آخر حين تفشل بعد هذا في تحقيق المنفعة"2
وهي كما ترى حضارة بلا ثوابت ، حضارة خاوية من المضمون ، لا هدف لها إلا الأخذ، وتحقيق الذات على حساب الآخر، وحينما أقول على حساب الآخر لا أعني أن هذا يأتي عرضا ، وإنما استغلال الآخر وامتصاص دمائه حد من معادلتهم الحضارية، والأنانية لا تعترف للآخر بوجود، وإنما تعترف فقط بالذات، وفارق كبير بين من تضطره الظروف القاهرة إلى عدم الاعتراف بالآخر، ومن، وبين من لاعترف لا يعترف بالآخر إلا مضطرا.
ولهذا فالإستراتيجية الأمريكية ، أو السياسة الأمريكية البعيدة المدى للحضارة الأمريكية كانت خير معبر عن إحساس هذه الحضارة بالخواء ، بنفس المستوى الذي عبرت به عن الأنانية وعدم الاعتراف بالآخر، فهي كما أطلقوا عليها إستراتيجية مرنة ، تراوغ باتجاه المنفعة ، وتراوغ من أجل إحكام السيطرة على الخصم ، مستعملة كل ألوان الخسة التي يترفع عنها الوحوش بله الإنسان الشريف، وهي تقوم على القضاء المبرم على الخصم، لأنه لا يجب أن يكون هناك بقاء للآخر إلا ريثما تكون المنفعة، وإلا فلا وجود إلا للذات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1- أسس الفلسفة، توفيق الطويل ص63
2- أسس الفلسفة، توفيق الطويل ص63
وقد ورد هذا الكلام على لسان هنري كيسنجر أحد أكبر مهندسي السياسة الأمريكية ، وهي إستراتيجية تعبر عن الخوف والجبن من وجود الآخر، أو خوض منافسة شريفة معه، فهي إستراتيجية النذالة والغدر والخيانة والخوف، ومثلها في ذلك مثل الضرير الذي يداهن ويخادع من أجل إثبات الذات من غير استحقاق ولا جدارة، وتلك سنة غالبه على ذوي العاهات.
ولله در القائل :
وضعيفة فإذا أتتها فرصة ** قتلت وتلك قدرة الضعفاء
إن الإستراتيجية الأمريكية تعد من أبرز مظاهر الانحطاط والسقوط في الحضارة الأمريكية، فهي تقوم على إذلال الآخر ، حتى ولو كان صديقا ، وخير مثال شاه إيران، الحارس الغبي للمصالح الأمريكية في الماضي ، وبرفيز مشرف الذي أثار سخط الشعب الباكستاني في سبيل إرضاء صديقه اللدود (أمريكا)، في نفس الوقت الذي تنكرت فيه أمريكا لكل خدماته.
لقد كانت هذه الإستراتيجية أحد أهم المبادئ التي بلورها صانعو القرار وفقهاء السياسة في أمريكا بعدما كانت جزءا من الظرف الأول للأوربيين الغزاة ، فقد أبادوا الجنس الهندي بحيث لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك ، ووجدوا في ذلك راحة لهم وأمنا من خصمهم العنيد الذي عز عليه أن يباد من جريرة اقترفها ، واستمات في سبيل استبقاء ولو عرق نابض من بني جنسه. وكأنهم تعلموا من هذا التاريخ الأسود أن الأمن لا يتحقق إلا من خلال القضاء المبرم على الآخر، ثم جعلوا ذلك أسس إستراتجيتهم المرنة الماحقة.
إننا نشم رائحة الجلافة والبدائية والتحجر تنبعث كريهة من خلف ناطحات السحاب الفارهة، فليس للدين عندهم مكان، ولا للقيم، ولا للروح الملهمة، والوجدان الطاهر ، والبراءة الرحيمة، ولا للثوابت الضابطة، وإنما تطل الازدواجية المقيتة، والنفاق السياسي الأهوج، والكلام الذي يناقض الكلام في يبجح كريه ووقاحة ظاهرة، والكذب الصراح ، والدجل السياسي المغلف بتهديد الضعفاء، واستعمال العملاء.
أن الحضارة الأمريكية كالنبات المتطفل الذي يعتمد نبات عائل فيستحوذ على غذائه، ولكنه سرعان ما يموت هو الآخر، ومثل هذه الحضارة اللقيطة قصير العمر ، بالقياس للحضارات الشرعية ، وقد يظهر تفوقها لقرن أو قرنين أو – حتى -ـــ عددا من القرون القليلة، ولكنها لا يمكن أن تعيش أربعة عشر قرنا ، تقاوم وحدها عوامل الفناء في غفلة من أهلها النائمين على وسائد ناعمة من تراثهم الخالد .
ولا سبيل بحال من الأحوال إلى مقارنتها بحضارة المسلمين التي أعطت أربعة عشر قرنا، وهي اليوم تتحدى كل الظروف القاسية بل القاهرة التي فرضها عليها الغرب من الخارج تحت لافتة دولية مطاطة وهي محاربة الإرهاب، وعملاؤهم في الداخل، فالإسلام الآن محشور بين مطرقة الغرب وأمريكا في الخارج، وسندان العملاء في الداخل. ومع ذلك لا يزال الإسلام يتجاوز ضعف الإسلام وتفاهتهم، وهم على حد تعبير محمد قطب : " يشبهون الديدان تنزو في قطعة من الفضلات".
الحضارة الأمريكية ــإذن ـــ آيلة للسقوط والانهيار .، لأنها كالمسيخ الدجال الذي يخلب العقول بسحره، ولكنه على كل حال من أحواله دجال وكذاب ، وإذا انهارت هذه مثل هذه الحضارة فانهيارها يكون سريعا وعجيبا في تلاحقه ، ولقد بدأت بالفعل مظاهر الانهيار متمثلة في التحلل الأخلاقي ، والصراع العرقي واللوني ، وانمحاء معالم الأسرة من المجتمع الأمريكي، وزنى المحارم والإجهاض، والسطو والمخدرات، والسقوط في مجال العلاقات الدولية الذي جعل أمريكا تكتسب كل يوم مزيدا من الخصوم، وقيام الكثير من التجمعات الإقليمية للوقوف في وجه هذا المار المنفلت من قمقمه، وتبني مبدأ القهر والإذلال والسيطرة ، وإهانة المقدسات الدينية، وانتهاك الأعراض في البلاد المستعمرة كالعراق. كل ذلك من مظاهر السقوط والانهيار. وتلك سنة كونية ، سارية في الخلق من لدن قيام أول حضارة إلى قيام الساعة ، ولكن الأغبياء لا يعقلون.
قال تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنا لهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين".
وقال تعالى: " قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
فكل حضارة تقوم على احتقاب مبدأ هدم الآخر وعدم الاعتراف به حضارة دجالية فانية ، قصيرة الأجل.
أن النظام الدولي الجديد الذي تتزعمه أمريكا نظام غير عادل ، وليست له من غاية سوى تكريس ضعف العالم الإسلامي، وإحكام السيطرة على مقدرات أمتنا ، ولكن العملاء لا يفقهون.
جمعة سعد الشر بيني