فن الحضارة وحضارة الفن بين الأصالة والمعاصرة
قراءة أبستميولوجية د.غالب المسعودي
أود تنبيه القاريء الكريم الى:
1. في يوم خريفي من عام 1835 إرتكب هنري كريسيوك رولنسن خطأ طائشاًًًًًً وهو يسقط من صخرة بيهستن.
2. لم يستطع لايارد فك رموز مكتبة نمرود المكتشفه من قبله والتي كان فيها نصوص للملك آشور ناصر بال الثاني (883-859) ق.م وهذا مقطع من تلك الكتابات :
(أحرقت العديد من الاسرى بينهم بالنار ،
وإتخذت عدد منهم أسرى أحياء ، قطعت إنوف
البعض وآذانهم وأصابعهم وإقتلعت أعين العديد منهم ،
صنعت نصباً من الاحياء ونصباً آخر من رؤوسهم
وأوثقت رؤوسهم على جذوع الاشجار حول المدينه ،
أحرقت شبانهم وعذاراهم بالنار).
تقدمه:
(لقد كان بلزاك كاتباً ثورياً دون أن يريد ذلك ودون أن يعلمه ، فعواطفه الحقيقية جعلته حليفاً للمتمردين والعدميين ، وقد أدرك معظم معاصريه أن من المستحيل الاعتماد عليه في النواحي السياسيه إذ كانوا يعرفون أنه في أساسه فوضوي يشعر دائماً بإتفاقه التام مع أعداء المجتمع ومع أولئك الذين خرجوا عن الصف وأقتلعوا من جذورهم ، وإني لأرى أن إضطرار بلزاك الى الخروج على تعاطفه الطبقي على هذا النحو ، وإدراكه ضرورة إنهيار نبلائه المفضلين ، ووصفه إياهم بأنهم أناس لايستحقون مصيراً أفضل ، ورؤيته لرجال المستقبل الحقيقيين في المكان الوحيد الذي كانوا يوجدون فيه عندئذ – ذلك في رأي واحد من أعظم إنتصارات الواقعية ، ومن أعظم سمات صديقنا القديم بلزاك )*
من السهل على المرء أن يقع في الفخ لكن من الصعب أن يستسلم والذي لا يحتفظ بمذاق العسل تحت لسانه صعب عليه أن يتذكر الاشياء الجميله ، بين الروح والجسد و فضاءات الوعي هناك المسكوت عنه واللامفكر فيه وهناك المتخيل والمقدس وذاكرة اللغه وكل مكائد التأويل ، تعددية دلالة النص والتفاعل المنهجي والتحليل البلاغي وترسبات الوجودية الثقافيه المخيال الحكائي نسق الاشياء سواء في الطبيعه أو في نتاج الانسان، وفي خرقٍ للسائد يمكننا تجاوز الاطار إذ إن الاطار حد وحيث لا إكتمال عند محاورة النص وإذا كانت الروح خاويه فما معنى الفضيله الاخلاقيه ، إن حب الذات يبدأ من مركزيه مرضيه ، لا تبالي بحياة بقية البشر ، لأن الحب يبدأ عند بؤرة صغيرة ويستمر في النمو ليصبح بحجم الموت فلا يبالي بمن كان حبه أرضي التضاريس ولكي لا أزيد في إرتباك الذهن وتجريد المعنى علي أن أقول أن البحث والكشف هو لب الحضارة لذا فإن روح البحث والتحليل تتغلغل في أعماق اللذين نذروا أنفسهم للفن والعلم وهو أن المسارات النهائيه لعمل المنظومه الفكريه تتخذ صيغ مختلفه في الايضاح والابانه والانحياز للفن والحضارة سلوك يبعد الانسان عن أصله البدائي، والاسطورة كانت الحافز الاول لتخطي النمط الخاص كونها لا تمت للزمن الكرنولوجي بعلاقه ثابته لذلك فهي إمتداد للحظة تأسيسها وهي ذات علاقه بنمط التحقق البدئي ويبدو الفنان في تمييزه بين الوجه الاجتماعي والاقتصادي والوجه الفلسفي أو كما يعبر عنه هو بين الحياة بأشكالها المختلفه والروح بشفافيتها الاثيريه التي تتوق للتقدم والتطور والتي تعبر فوق الحواجز المصطنعه متنسمة المطلق
أن الفنان في تمييزه هذا بغض النظر عن إنه خرق للمنطقي بصيغ متعدده أي وضع الحياة في سياق التحول والتطور يجعلها في تدفقها بمنجز يتفوق على نفسه في بعده النظري والمعرفي إنطلاقاً من تأويل ذلك الايمان الدافق على نحو عقلي درءاً لكل إلتباس منهجي قد يحدث بهذا السياق ففي محور الاصاله والمعاصرة والثورة ،هناك عمليه تمثل للماضي وصهره في إناء الحاضر وعندما يكون الظرف الموضوعي وهو خارج الذات غير مناسب لهذه المعادله فسيكون المنجز الفني نوع من الحوار المونوكرامي الذي يفضي الى إنتحار الذات على مذبح العدم ولكي لا يتحقق ذلك لا بد أن يكون هناك نوع من أنواع القتل ليس بالمفهوم الغابي(أي بمعنى نظام والنظام المضاد) وكونها عملية إحتواء تؤدي بالتالي الى هضم كل شاردة وواردة بنظام تمثيل متقدم يعتمد أساساً على أجهزة غاية في التطور من ناحية منظوميه كي لا يكرس الهيمنه الشامله لمجموع من الخطابات تفرزها آيديولوجيات متعارضه وتجر معها كل أشكال الصراع وإن لم تكن بمنأى عن قانون التغييرات الاجناسيه، إذ أن قانون تثبيت اللحظه قد فعل فعله منذ قرون وقدس الماضي وتألقت أسطورة العصر الذهبي وتهاوت معها كل أشكال الحداثه وأصبح المفكر فيه هو من الحاضر الى الماضي و أصبح المستقبل هو تكريس للماضي وليس عملية إنتقال من حال الى حال (initiation) .
إن تقييم وممارسة التيار الارثودوكسي و بالرغم من إشكالاته وإحباطاته لاتزال هي السائدة في الفكر الشرعي والمتغلغله في الوعي التأريخي والتي لا يستطيع الباحث فض أقنعتها وإعادتها الى مصدرها الانساني لأن في العالم لاتجد تطوراً يسير في خط مستقيم وهذا يمنحها الشرعيه بأن النتائج التي يصل إليها الفنان ↔ المفكر في تخمين وإستقصاء الملامح البعيدة غير المباشرة لطروحات مثل الاصاله والمعاصرة والثورة والخروج بحصيله مستقله عن الاحتياجات وبوصف هذه الاستقلاليه نسبيه نوعاً ما إذ أن الجمال ليس عذباً إلاّ لشدة مرارته وأن النعيم لا نمسك به إلا في أعلى درجات الوهم.
إن تحديد المسارات التي يتخذها الوعي وفي ظل ظروف وأفكار مشتته تتجه نحو مستقبل غامض في حين كان التراث والذي يجب العودة اليه أكبر ممثل للمعاصرة في حينه ولو لم يكن كذلك لكان تقليداً خاملاً وكل تقليد لاينتج فعاليه وإنه تراثٌ فعالٌ في المستوى التأسيسي للحضارة الانسانيه لا بد أن يمتد تأثيره شرقاً وغرباً وتتفاعل معه أمم شتى ، أن أي تطور يجري خارج الكيان البشري والكيان المعرفي داخلي مبني على قيمة المنظومه الفكريه للأفراد ، لذا فإحتمالات الاستجابه لا تكون واحدة ، وحتى يحصل نوع من التوازن بين المعطيات والبناء الاجتماعي و الانساني لا بد للفن أن يأخذ مجاله في تربية الفرد وتنمية ذوقه وهذا لايتحقق إلا بالانتباه الى حيوية الفن وخطورة دروره في بناء الحضارة ولكي يحصل ذلك لابد من إعطاء الفن دوره الكافي والحقيقي الفن الخالق لإسطورته الحاليه وهنا يجب الانتباه الى أن حواسنا لاترى شيئاً قصياً والفرط في الضجيج يجلب الصمم وأقصى ما تحارب به الحضارة هي الاعتداء على رموزها الفنيه فالعلاميوم عندما غزوا أرض سومر وبابل أخذوا معهم تماثيل الآلهه وإن مسلة حمورابي التي وجدت في عيلام لأنها تمثل الانتصار المعنوي من قبل المحتل كما تمثل قالب الهزيمة على المستوى السايكولوجي بالنسبه للحروب الحديثة وفي تقدير العمل الفني توجد حاله من الشعور الجمالي يمكن أن يشاهد فيها ترابطات فسيولوجيه وحتى فيزيائيه ومن المحتمل أن تكون عمليه فعليه متضمنه وقابله للتطور في ألفاظ عامه ومن الملاحظ أن للخبرة الجماليه وحدتها والتي تخلع عليها أسمها الخاص، وتكون بفعل الكيفيه الفرديه التي تشيع فيها كلها على الرغم من تنوع الاجزاء والفنان كونه مجال عملها يمكن من إكتساب خبرة فرديه وتساوق في دقة التفكير نحو إكتشاف المجهول داخل العمل الفني وإمتداد فعاليته في الذات الواعيه التي كانت بعيدة في مسارب ومفارق الطرق وفي خضم التفاعلات التي تهيء العمل الفني كونه منجزاً حضارياً،و كي يكتسب المهارة في مواجهة الاخطار المحيطة به والتي تؤثر في القاموس الفكري لعناصر المجتمع والتي بدورها قد تؤثر سلباً في البناء التقدمي لكيانه الثقافي .
كلنا قرأنا سطور ملاحم وادي الرافدين بشغف وكلنا على إطلاع على التاريخ الحضاري لهذه المنطقه وقد دهشنا للمستوى العقلي للفنان الرافديني وهذا لا ينتج عن فراغ ، وبين التداخلات المتعدده الجوانب أصبحت أرض الرافدين معتركاً لقوى وطموحات كثيرة والعمل الفني لا يقاس بقيمته العابرة لأن الفن العام الفن الإنساني ينطلق مما هو محلي ويلقي بظلاله لما هو عالمي والفن العام تتصاعد قيمته مع تماهيها والمطلق مثال الجمال والخير وبغض النظر عن الاعمال التي إفتقدت قيمتها الفنية من أجل قيمتها التاريخيه والاثريه فإنه يتطلب من الفنان درايه ورؤيه فكريه منسجمه مع الواقع الحضاري المعاش فإسقاط البعد الفكري على العمل الفني أدى الى إنتاج أعمال بقيت قيمتها الفنيه حيه رغم مرور آلاف السنين على إنتاجها وبغض النظر عن إن الملك كان عادلاً أو غير ذلك أسقط الفنان الرافديني البعد الدلالي بتغيير أبعاد الاشكال ذات الاهميه الكبرى في العمل الفني وعبر عن البعد والقرب ضمن مستويات أفقيه يعلو أحدها فوق الآخر وعبر عن الامتداد بأشرط صوريه وكذلك عبر الفنان المصري عن سطوة الفرعون ببناء الاهرامات وبمواد ثقيله وأحجام كبيرة وحين نظر الاغريقي الى الانسان كمثال للجمال والكمال ونحته بكل دقه ومهارة أداء وذلك بخلق الشكل الامثل والحل الفاضل مبنياً على تصورات تلك الحضارة والنظرة الى الحياة والموت والخلود وأرى أن الفن يتخطى عتبة التفسير المباشر لأيديولوجيا معينه أو حقبه تأريخيه معينه لأن الذي يتنسم المتعالي لا بد أن يبدأ بخطوات كبيرة على سلم المتعالي وإن الاساءة الى الاعمال الفنيه هي نقض لقيمتها التاريخيه وقيمتها الفكريه وذلك إن الفن لا يترجم الى شعارات أي أنه مهارة وإبداع وأنه معبراً عن إسلوب الحياة الاجتماعيه والاقتصادية والدينيه بشكل مندغم لأن هدفه هو الوصول الى ما إستهدفته الحضارة البشرية وهي صبغ العالم بالصبغه الانسانيه.
وهذا ما يجعل الوصول الى النتيجة التاليه أمراً ضرورياً ومشروعاً ويمثل الحصيله الحضاريه العامه ، قد يبدو أن الاشارة الى الاقرار بوجود مفارقه بين الواقع العيني والاستخدام الطوبولوجي للرمز إذ أن هناك من يُعنى برفع التعميه عن المقول وتجريد المرموز عن مظهره لكشف المعنى وهناك من يسعى الى إعادة الصفه الاسطوريه للغه المحكيه وهذا بالمقابل ليس أكثر من مشهد ظاهري إذ أن تجاوزه وارد حالما يتمثل للفنان طبيعة العلاقه بين الواقع والفكر عموماً ، فهذه العلاقه ليست بسيطة ومباشرة وبالتالي لاتتم على نمط الصورة المرآتيه بل تتطلب من الفنان يقظة جدليه أي إنها تجسد الحصيله الاكثر تماسكاً وعمقاً في التعبير عن الوعي التأريخي والفن بإعتباره نوعاً من أنواع المكر ، لذا فمصيدة الحكمه التي تصور الانسان يتطلع الى صورته في السماء قبل أن يراها في نفسه مصدراً للحيرة إذ أن الاحداث التي يكتب عنها في الحاضر هي نتاج ممارسات خطط لها في حقبة منصرمه وتعمل في ضوء عصرها الراهن وكما يقول رولان بارت (( فبعض الاشياء تغدو فريسة للكلمة الاسطوريه لمدة من الزمن ثم تنقرض وتحل أخرى محلها )) لكنه في النهاية يساورنا الاحساس أن هناك مفارقه مقصودة وذلك بوجود دلالات هامشية تسترعي الإنتباه كما يفعل أبو البشر آدم عندما يضع القناع على وجهه وهو يرى الافعى وقد إنسلت بعدما إن وضعته في بيت الحكمه إذ لولاها لما إستقطب التاريخ نفسه ولما وقف بين شخوص من غيهب شبحي تتراقص حروفه من نار كي يظل ملاصقاً لوجوده الازلي.
* كارل ماركس وفريدريك أنجلس(الثقافه والفن).