العقد المبروم هو تلك الشروط التي وضعها التوحيدي للإجابة، وقبل توضيحها، نشير إلى فكرة طريفة وهي قوانين المحادثة التي وضعها جرايس (1) ، ونحاول سحبها على الكتابة – فما يصلح للأصل يصلح للفرع، مع مراعاة خصوصية كل جانب طبعا، جرايس يضع مبادئا (2) هي التي يستخلص منها هذه القوانين:
1- بديهية الكمية Maxime de quantité : إعطاء المعلومات الكافية (بالتبادل).
2- بديهية الصدق Maxime de qualité: وتعني إعطاء معلومات صحيحة وإن أمكن تدعيمها بالأدلة.
3- بديهية العلاقة Maxime de relation: مراعاة المقال للمقام.
4- بديهية التوجيه Maxime de modalité : الإيضاح، الاختصار، المنهجية.....
ومن هذه المبادئ صيغت قوانين المحادثة عند جرايس: (3)
فمبدأ الكمية قانون الإخبارية
فمبدأ الصدق قانون الصدق
فمبدأ العلاقة قانون الإفادة
فمبدأ التوجيه قانون الشمولية
وسنرى هذه القوانين من خلال المدونة واحدة واحدة:
(1)- أخذنا هذه القوانين من كتاب: الإمتاع والمؤانسة بين سلطة الخطاب قصدية الكتابة لكميلة واتيكي.
(2)- ن. م ص 261 ولقد وضح الدكتور طه عبد الرحمان هذه القوانين جيدا تحت هذا العنوان: " ليكن اندفاعك في الكلام على الوجه الذي يقتضيه الاتجاه المرسوم للحوار الذي اشتركت فيه" وهي:
+ كم الخبر: - لتكن إفادتك المخاطب على قدر حاجته .
- ولا تجعل إفادتك تتعدى القدر المطلوب.
+ كيف الخبر: - لا تقل ما تعلم كذبه
- لا تقل ما ليس لك عليه بيينة.
+ علاقة الخبر بمقتضى الحال: ليناسب مقامك مقالك.
+ جهة الخبر: - لتحترز من الخطاء في التعبير.
- لتحترز من الاشتباه في اللفظ.
- لتتكلم بإيجاز.
- لترتب كلامك.
ولقد اعتمدت مرجع كميلة واتيكي لأنها ذكرت القوانين باللغة الأجنبية.
وأشير هنا إلى فكرة أظنها جد هامة : ل ئن وضع جرايس هذه القوانين واعتبرها شروطا للمحاورة ، فإنه يمكن سحب هذه القوانين على كل أشكال التواصل بين الأفراد، بما في ذلك: الحجاج موضوعنا، وبالتالي نطبق باطمئنان على المدونة.
(3)- ن. م. ص 263-265.
1 - قانون الإفادة: Pértinance: نعتمد هنا : المدونة بشكلها المغلق، أقصد لن أدخل نوايا/آراء/ رغبات التوحيدي في مسكويه. يظهر أبو حيان واثقا في إجابة مسكويه، خير دليل على ذلك قوله في المسألة 147/315: " ....وقد جهزت المسألة إليك، ووجهت أملي في الجواب عنها نحوك، وأنت المدخر لغريب العلم ومكنون الحكمة، فإن تفضلت بالجواب، وإلا عرضت عليك ما قلت للسائل....فإن كان سديدا عرفتنيه، وإن كان ضعيفا نصحتني فيه..."
فما نستنتجه من هذا القانون أن المحادثة وبالتالي الكتابة المفيدة هي تلك التي تنجز عنها نتائج وفوائد علمية يستفيد منها المستمع القارئ، وهذا ما نراه في هذه المسألة صراحة من التوحيدي، والكتاب ككل من المفروض أن هذا هدفه، ومن شروط هذا القانون أيضا عدم الخروج عن الموضوع: وسنرى أن مسكويه حاول الإجابة التي أقدره عليها جهده وعلمه، وإن خرج عن الموضوع فلأسباب ومهما يكن، فإن مسكويه بالنسبة لأبي حيان يبقى تجربة يستفيد منها أي إنسان – وإن أنكر-.
2- قانون الصدق: Principe de Sincérité : من المفروض أن يثق التوحيدي لحد كبير في علم مسكويه، خصوصا ومعظم الأسئلة من باب اختصاص الثاني (الفلسفة والمنطق)، فيمكن أن نستنتج الصدق للطرفين:
- أبو حيان: - كثيرا ما يبرر أسئلته.
مذكورة صراحة.
- كثيرا ما يحيل أسئلته على شخصيات
يمكن استنتاجها.
- مسكويه: كثيرا ما يحيل إلى المصادر التي استقى منها المعارف، سواءا شخصية ( الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق)، أم غير شخصيته(علماء، أدباء، علوم،...). هذا ما سنراه في مبحث التناص(Textualité)، وإن كان التوحيدي ثلب مسكويه وأتهمه بالبخل في المال والعيش، فإنه لم يفعل ذلك أبدا بخصوص عمله ، وعموما ففي فكرة الإحالة هذه: كان التوحيدي هو من اشترطها، وبالتالي كان هذا بمثابة رسالة لتحري الموضوعية والدقة:
3- قانون الإخبارية: الإخبار هو المهمة الأولى للغة، فهو هدف التواصل عموما، ولكن الإخبار الفعال هو ذاك الذي يزود الطرف الآخر ( مستمعا/ قارئا)، ربما بمعلومات لم يسبق له معرفتها. وفي هذه النقطة بالذات، نقول : لا أحد يرزأ التوحيدي قدره وعلمه وغوصه في كثير من العلوم. لذلك لن نؤكد أبدا وبالمقابل لن ننفي أبدا وبالمقابل لن ننفي أبدا استفادة التوحيدي من إجابات مسكويه.
4- قانون الشمولية: مرتبط كثيرا بالفائدة، و التأكيد، والموضوعية، ويفترض مد الطرف الآخر بكل المعلومات وبقدر كبير، وهنا نرى أن مسكويه في كثير من المسائل، يجيب ويعتبر إجابته كافية شافية، "... وهذا بين كاف في جواب المسألة" أو 3/23 : " فقد لخصنا وشرحنا هذه المسألة تلخيصا وشرحا إن شاء الله" ....
كما نجد أن التوحيدي قد اشترط: الإيجاز والاختصار والتلخيص في الأجوبة، إضافة إلى الإجابة على المصادر والمراجع، ربما لأنه يعرف أن الحاجة إلى الإيجاز عند من كان في مستواه تعادل تماما الحاجة إلى الإطناب عند من هم دونه علما.
ولقد أظهر مسكويه الاحترام لهذا الشرط في عديد من المسائل، مثل 35/108: " وأنا أضمن بالجملة أن أعرفك وجه الصواب عندي في هذه المسائل، وما أذهب إليه، واجتهد لك في إيضاحه على غاية الاختصار والإيماء كما شرطته في الرسالة التي صدرت بها...." أو في 48/129: " ... ولو شرحنا هذه المواضع لاحتجنا إلى تصنيف عدة كتب نقرر فيها الأصول ونلخص بعدها الحروف، ولكن "...الشرط سبق بغير هذا....."
- وأحيانا تحس أن هذا الشرط هو أتفاق بينهما وليس مفروض من التوحيدي فحسب 33/94:" واستقصاء هذا غير لائق بشرطنا في ترك الإطالة".
- أحيانا يعمل مسكويه على توجيه التوحيدي إلى الطريق المثلي للاستفادة والعلم، فيذكر مثلا الاستقراء وملاحظة الظواهر. 52/143: " و الاستقراء يفيدك كل عجيبة وطريفة من هذا النحو في الروائح والسماع وجميع الحواس ...." ، وأحيانا ينبه إلى أن السؤال ليس منهجيا مثلا المسألة 86/209:" ... ولو لا أن مسألتك وقعت من غير هذا المعنى لاشتغلت به، ولكن هذا أصل له، فلا بد في ذكر الفرع من ذكر الأصل...."
وفي الأخير يقرر مسكويه أنه احترم جميع شروط التوحيدي، يقول في المسألة الأخيرة :" هذا آخر ما سألت في الهوامل ، وقد سلكت في الجواب عن جميعها المسلك الذي اخترته واقترحته من الاختصار والإيمان إلى النكت ، والإحالة – فيما يحتاج إلى شرح-إلى مظانه من الكتب" (1) وسنرى التحليل إن كان هذا صحيحا.
(1)- الهوامل والشوامل للتوحيدي ومسكويه.تح: أحمد أمين والسيد أحمد صقر ص 369.
إن شكل المدونة سؤال/جواب، مع توفر بعض المراجع تؤكد رأي السائل في الأجوبة والمجيب أمور تجعل المدونة خير نموذج لدراسة موضوع هام: الحجاج الذي غايته الإقناع والذي يؤدي في أشد مظاهره إلى تغيير اعتقاد/ تغيير سلوك إلى ما نريد.....
ولكن قبل ذلك : لابد من التطرق إلى هذا الموضوع من نشأته – المنهجية طبعا- الأولى أقصد اليونان عموما وأرسطو خصوصا، لنرى فيما بعد ماذا استفاد العرب من الدراسة الحجاجية الأرسطية خاصة في جانب المناظرات، ومن ثم الغربيون وإحياؤهم التراث اليوناني وإلباسه حلة جديدة، ولكنها من نفس المادة الأولية الأرسطية، لنرى ما هي مرتكزات الحجاج عند الطرفين: أبو حيان ومسكويه- ونرى هل استطاع مسكويه حقا أن يحقق هدف الإقناع، وقبله الإشباع المعرفي لأبي حيان. ولنستنتج في النهاية – ربما- هدف التوحيدي أصلا من الأسئلة.