- يبدو أبا حيان كثير الشكوى من الزمان وأهل الزمان، وهذه صفة ذميمة فيه برزت في معظم مؤلفاته، وليس الهوامل فحسب." لقد شكا في الإمتاع والمؤانسة لأبي البوزنجاي ولابن سعدان، وشكا في الصداقة والصديق والمقابسات، البصائر والذخائر وشكى في الإشارات الإلهية" (2) ولقد قرعه مسكويه ونبهه على ذلك بشدة في الشوامل: " قرأت مسائلك التي سألتني في رسالتك التي بدأت فشكوت الزمان واستبطأت بها الأخوان فوجدتك تشكو الداء القديم والمرض العقيم..... استعذ بالله من الشيطان و وساوسه، ومن دنس الجهل وملابسه واستغني بالله يغنيك..."
يمكنني أن أقول أن أسئلة التوحيدي في عمومها تميل إلى الانطلاق والتحرر من أي قيود، أعني قيود المنطق أو اليقين، لدرجة يبدو لي أنه لم يكن يبغي من ورائها الجواب، وإنه إنما فعل ذلك فقط ليصبر غور فيلسوف مشهور كمسكويه في زمانه ذاك، فكما سنرى من إجابات مسكويه أننا سيمكننا موافقته فيما وافق آراءنا، ومخالفته فيما عدا ذلك.

(1)- أبو حيان التوحيد. حوار الغقل وسؤال الحرية، ماجد يوسف. مجلة فصول. أبو حيان التوحيدي. ج2 المجلد الرابع عشر. العدد الرابع، شتاء 1996.
(2)- مقدمة الهوامل والشوامل.(د).

III- الكتابة عن أبي حيان التوحيدي(*): على الرغم من أن المشافهة سابقة على الكتابة وهي أصل لها، إلا أن الكتابة – عموما- تحظى باهتمام وقيمة كبيرين جدا، ويكفي أن نذكر بفضل الكتابة والتدوين حفظ كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، وما نقل إلينا من أخبار وعلوم الأولين إنما كان بفضلها، يقول الجاحظ: " فأما الخط، فمما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضيلة الخط والإنعام بمنافع الكتابة، قوله لنبيه عليه السلام: " إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مال م يعلم"، واقسم به في كتابه المنزل على نبيه المرسل حيث قال:" ن، والقلم وما يسطرون" و لذلك قالوا: القلم أحد اللسانين.... وقالوا: القلم أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا" (1)
بصفة عامة، الكتابة وفي أبسط إشارة لها هي تعبير أو إحالة إلى اللغة الشفوية، بواسطة عناصر مكتوبة مرئية، (بصرية) تحيل رأسا إلى العناصر الشفوية التي تدل عليها، وبهذا فالكتابة نظام سيميائي، وهي تتطور حيث المدنية وكثرة العلوم، يخاف ضياعها واندثارها فيلجأ إلى تدوينها (2).
- شكلت الكتابة عنصرا مميزا في مسيرة التوحيدي العلمية والأدبية، بحضورها الدائم طوعا أو قصرا، وأدائها لوظائف عدة سنراها بالتدليل على مواضعها، فقد اتخذ منها وسيلة/سلاحا:
- لإثبات نفسه وعبقريته.
- لتحدي الواقع الذي يعيشه بمتناقضاته وشخصياته.....إلخ
يمكن أن نلخص أهم وظائف وخصوصيات الكتابة عند التوحيدي فيما يلي:
IIII-1- الرواية: في الرسالة التي روى أبو حيان أن أبا بكر وعمر – رضي الله عنهما- بعثا بها إلى علي كرم الله وجهه، وقد وقف علماء (3) كثيرون منكرون لها، ومتهمين التوحيدي بأنه وضعها
الكتابة = سببا للاتهام والطعن في شخصية لسلب الثقة عنه فيما عدا هذه الرسالة .
IIII-2- النقل والأخبار: خاصة فيما كان يحدث في مجالس المقابسات من أجواء التسامح الديني والعلمي بين مختلف أبناء الديانات " في كتابه الشهير المقابسات " وإن كان قد أخفى اتجاهه الاعتزالي – كما يرى معظم المفكرين- فإن نقله لأفكار من المذاهب الأخرى " خاصة إخوان الصفاء" وللأقوال

(1)- البيان والتبيين: الجاحظ.
(2)- يطالعنا التاريخ مثلا أن سقراط لم يترك شيئا من المؤلفات، لذلك ما كنا لنعرف جهوده ولا فلسفته لولا مؤلفات تلاميذه وخاصة
أفلاطون التي ذكرت كل ذلك.
(3)- منهم الذهبي وابن حجر وابن أبي حديد والسندوبي وزكي مبارك وحتى أحمد محمد الحوفي في كتابه أبو حيان التوحيدي ج2-
ص123-126.
(4)- نركز على الكتابة عند التوحيدي، لأنه سبب إيجاد الهوامل والشوامل، وأيضا لتميز الكتابة عنده.

عديدة خصوصا في كتابه " الإشارات الإلهية" ، كل ذلك، جلا لهؤلاء المفكرين فكر الرجل ومذهبه الإعتقادي، وفي هذه النقطة بالذات يجب أن نلح على فكرة أمانة الرجل في النقل والأخذ ويظهر هذا في:
- إذا أثبت الخبر بنصه نبه على ذلك، وإذا اختصر من الكلام أشار إلى ذلك.
- كان أمينا في وصف مجالس العلم والمناظرات والحوار بين الأنداد، وكان دقيقا في تسجيل الحوادث.
- مع أنه يهجو ويثلث ويطلق لسانه بشكل مريع، إلا أنه لا يتحرج من إبداء شهادة الحق في مذمومه، وبالعكس هناك أشخاصا أحسنوا إليه فذكر إحسانهم ولكنه لم ينس عيوبهم.
- عندما قرعه مسكويه " في الهوامل والشوامل" وفي غير موضع من ذلك الكتاب لم يحذف شيئا من ذلك، بل أثبته كما هو.
- لعل من أشد مظاهر أمانته: هو أمانته مع اللغة ذاتها، من حيث تعادل الدلالة بين دوال الملفوظ ومدلولاته، وهذا بين في عديد أقواله، لذلك فهو من رواد الاتجاه الذي تحترم الشطرين قال: " ولا تعشق اللفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ"(1)
الكتابة = شهادة صادقة عن عصر التوحيدي والتوحيدي معا.
IIII-3- كانت الكتابة : المرآة التي عكست لنا همومه الشخصية، ونظرته إلى الحياة، فنحن نستنتج مميزات شخصية الرجل انطلاقا من مؤلفاته فعلا، وليس من آراء الآخرين به نحسب (2) ولذلك ذكرت آنفا أن حياة الرجل ومؤلفاته مرتبطان ارتباطا عظيما، بل استطيع القول إنهما وجهان لعملية واحدة، وفيما يلي بعض الأمثلة للإيضاح:
- يجب المال والجاه والحياة الهانئة، قال : " العاجلة محبوبة، والرفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكل حول وقوة مخطوبة، والدنيا حلوة، خضرة وعذبة ونضرة" (3).
- عاش حياة بائسة، فقيرة: " فكان يأكل الكسيرة اليابسة، والقبيلة الذاوية، ويلبس القميص المرقع، و يتأدم بالخبز والزيتون وينفق أربعين درهما في الشهر" (4)

(1)- الإمتاع 1/10.
(2)- وهذا موضع آخر يتميز فيه التوحيدي عن غيره من الكتاب قليلون هم الذين عكست الكتابة شخصيتهم كاملة- هنا أتحدث عن تاريخنا
العربي.
(3)- الإمتاع 1/13 نقلا عن الإمتاع والمؤانسة بين سلطة الخطاب وقصدية الكتابة. كميلة واتيكي ص66.
(4)- ن. م.

- كان أحيانا يتذلل إلى حد الخنوع، وينسى عزته وكرامته، قال لأبي الوفاء المهندس: " خلصني من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، اشترني بالإحسان، اكفني مؤونة الغذاء والعشاء..." (1)
- ولما أعانه قال : " أنت مولى وأنا عبد ومصطنع وأن صنيعه... وأنت أول و أنا آخر" (2) مع أنه في مواضع أخرى كان يسأل الله تعالى صون وجهه من الحاجة والذلة لغيره سبحانه، خاصة في كتاب الإشارات.
- كان يحب الكسب السهل، قال ابن السعدان مرة: " كنيت عن الكسل بحب السلامة وعن السفولة بالرضا باليسير، فقال :" إذا كنت لا أصل إلى السلامة إلا بالسفولة، ولا أتطعم الراحة إلا بالكسل، فمرحبا بهما" (3) واستقصاء مثل هذا كثيرا فهذا يكفي.
الكتابة = نفسية التوحيدي.
- اتخذ من الكتابة وسيلة للتنفس عما يجيش بصدره من غضب، سواء على الواقع المزري، أم على شخصيات من ذلك الواقع المزري، كان واقعه ظالما: يرفع وضيعا ويضع رفيعا ، و قد هجا كل من اتصل بهم: ابن العميد، ابن عباد، مسكويه، بعض ندماء ابن سعدان.... إلخ.
- الكتابة عند التوحيدي = الإبداع، ولولاها ما عرفنا جهوده وإضافاته الثرية للمكتبة العربية الإسلامية، والمكتبة الأدبية، عكست لنا عمق فكر الرجل ومنطقيته.
*- كانت الكتابة إذن هي ما يميز التوحيدي، هي دفاعه وهجومه، هي الدال الذي يرمز إلى مدلوله (أعني حياته قاطبة )، ويمكننا أن نقول و بكل اطمئنان أن:
أبا حيان التوحيدي = الكتابة
بصفته أديب، فيلسوف.......
ولما بلغ من العمر أرذله، ووصل به اليأس منتهاه، أقدم على فعلة غريبة جدا، لقد أحرق كل كتبه، ولو لم تكن هناك نسخ لدى آخرين لما بقي له ما يذكر به أبدا الآبدين، وهنا نرى أن تحليل واسيني الأعرج هو تحليل رائع ومنطقي جدا، فهو يرى أن فعل الحرق هذا هو انتحار حقيقي ، واستمرارية في التدرجية الصوفية التي تقود إلى التلاشي والعدم.

(1)- الامتاع 2/329 نقلا عن أبي حيان التوحيدي للحوفي ص
(2)- ن. م
(3)- ن. م. ص.



الكتابة = أبا حيان
إذن
الحرق (الإرادي) = الانتحار
وهذا
العدم = الزوال
ويضيف: " الحرق والمحو أداة التوحيدي المتبقية ليثبت حريته وقدرته في مواجهة الاستبداد والخوف والقدر" (1) .
*- بعد فعل الحرق هذا، وقتله للكتابة (وانتحاره)، نراه يتخذ من الكتابة مجددا وسيلة لتبرير (2) فعلته تلك، من خلال رسالة رائعة (أسلوبا) وثرية (مضمونا) بعث بها إلى صديقه القاضي: أبو سهل علي بن محمد الذي أنبه على فعلته تلك، وكأنه بالكتابة برر قتل الكتابة.
4-1 الكتابة في " الهوامل والشوامل": لقد استطاع التوحيدي بفضل الكتابة أن يأخذ مواقع عدة ويلعب أدوارا مختلفة، ففي حين نراه سائلا في الهوامل نجده مسؤولا في الإمتاع والمؤانسة من قبل: الوزير ابن سعدان" وفي حين نجده ناقلا لمناظرات في المقابسات والبصائر والذخائر نراه بطلا للمناظرة في أحيان أخرى. وفي كتاب الإمتاع والمؤانسة نلاحظ شيئا مثيرا للإنتباه. هو في الأصل مسامرات بين التوحيدي والوزير ابن سعدان، ولكن الوزير أبو الوفاء المهندس تدخل وفرض على التوحيدي أن ينقل – كتابيا- كل صغيرة وكبيرة جرت بينهما قال له: ".... وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك... إلا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتها هدب الحديث عليه،... حتى كأني كنت شاهدا معكما ورقيبا عليكما أو

(1)- الكتابة ، تراجيد يا التوحييدي ، واسيني الأعرج، فصول، أبو حيان التوحيدي ص 315. نقلا عن الإمتاع والمؤانسة بين قصدية
الكتابة وسلطة الخطاب. ص 71.
(2)- أورد في هذه الرسالة: العديد من المبررات نختصرها فيما يلي:
- كل حي مصيره إلى الفناء عداه سبحانه.
- أنه استخار الله قبل حرقها
- أنها لم تنفعه.
- لم يجد من يقدرها حق قدرها- خشي أن يتخذها أعداؤه وسيلة للنيل منه.
- أنه يتفي على 80 سنة، فلا أمل له بجاه أو لذة، - أنه اتخذ من علماء قبلة أسوة في فعلته هذه.
- أن الشهرة بهرج وزيف وإنما العبرة بالأعمال الصالحة – أن الحرص على الكتب كالحرص على الذهب ولا خير في جمعها.
- أنه كان مريضا معسرا عندما أحرقها- وأن هذا هذا قضاء الله وقدره.
- هذه الأسباب أخذناه – بتصرف- من كتاب: ابو حيان التوحيدي: أحمد الحوفي، ج1، ص 114.
متوسطا بينكما" (1) بل لقد هدده تهديدا صريحا: " ومتى لم تفعل فانتظر عقبى استيحاشي منك، وغفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حران حيران يا أبا حيان، تأكل أصبعك أسفا، و تزدرد ريقك لهفا، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر و في يومك لغدك (2).
فالكتابة هنا جاءت فرضا – ومع ذلك كان هذا الكتاب من أروع ما خلف التوحيدي – بخلاف الهوامل والشوامل: حيث كانت هي المنطلق وهي المنتهى (3)، وبرغبة التوحيدي ونيته حيث أرسل أسئلة إلى مسكويه ولولا ذلك لما كان هذا الكتاب أضف إلى هذا لقد وضع التوحيدي شروطا للإجابة، وبالتالي أصبح هو المتحكم وهو نقطة القوة:
- فمسكويه سيكون عليه الإجابة رأسا على الأسئلة التي لم نعرف أنه تدخل في اختيارها.
- في غير موضع من الكتاب، يعيد ذكر شروط التوحيدي للإجابة ويبدي موافقة بل التزامه باحترامها.
فالكتابة بالنسبة (4) لمسكويه كانت استجابة خارجية أثارها التوحيدي بأسئلته.
لقد كانت إذن مشاركة بين إثنين أحدهما يسأل، والآخر يجيب، فحدث بينهما نوع من المشاركة والتعاون – دون تحديد حصة من أهم- للإشارة: هذه المشاركة قد تكون شفوية وهي ما تؤدي إلى المحاورة أو الحوار، وكما نرى هنا فهي مشاركة كتابية كالتالي:
---------- وسيلة الاتصال: الكتابة ----------------
أبو حيان التوحيدي مسكويه
يسأل + أحيانا يجيب يجيب

هناك شبه عقد مبروم بينهما


(1)- الإمتاع والمؤانسة 1/6 نقلا عن: ..... بين قصدية الكتابة وسلطة الخطاب ..... ص 93.
(2)- ن. م. ص 94.
(3)- فالكتابة في الإمتاع والمؤانسة كانت تالية بعد المشافهة (المحادثة).
(4)- يمكن أن نقول أن الكتابة بالنسبة لمسكويه كانت:= وظيفة من وظائف عدة مارسها – (طبعا لا أقصد يتقاضى عليها أجرا حقق بها:
- التأريخ ( وتدوين التاريخ).
- التأليف في تهذيب الأخلاق والفوز الأصغر.
- إثبات الذات والمستوى العلمي في مدونة الهوامل والشوامل