قراءات
في الفكر الجزائري المعاصر
د. خروع أحمد
قد يتساءل القارئ معنا عن مدلول هذا العنوان: ويردّد مع نفسه هل هناك فعلاً فكر جزائري مميز عن باقي الأفكار أم أن النعت ها هنا لايتجاوز مدلوله الجغرافي كأن نتحدث مثلاً عن أدبٍ جزائري أو موسيقى جزائرية، أما صفة النعت بالمعاصرة فلا يقصد منها إلاّ أننا بصدد دراسة نماذج فكرية راهنة ومتداولة اليوم على الساحة الجزائرية.
رغم كل ما يشاع من ندرة الإنتاج الفكري في مجتمعنا إلاَّ أن هناك مفكرين ما فتئوا يغدقون علينا بإنتاج منتظم ومسترسلٍ بحيث ما يكاد القارئ ينتهي من مطالعة كتاب لأحدهم حتى يُفاجأ بصدور كتاب ثانٍ وثالثٍ الخ.. من بين هؤلاء: اخترنا أن نقف في هذا المقال عند مفكريّن لهما إنتاج وافر وغزير وهما الدكاترة أبو القاسم سعد الله ومحمد أركون.
أشياء كثيرة تجمع بين هذين المفكرين: وأخرى لا تقل كثرة تميز بينهما، فأما تلك التي تجمع الاثنين، فتتمثل أولاً: في الأصل والجنسية. ثم في مجال الاختصاص حيث يعتبر كل واحد منهما نفسه مؤرخاً قبل كل شيء هذا وإن تعدَّدت وتنوَّعت مساهماتهما الفكرية لتشمل مجالات شتى من أدب وفلسفة وتاريخ الخ...
أما ما يميّز بينهما فيتمثل أساساً في اللغة التي يكتب بها كلُّ منهما. فبينما يعتمد سعد الله على اللغة العربية في معظم كتاباته. نجد د. أركون غالباً ما يؤلف باللغة الفرنسية لتصدر له فيما بعد ترجمات بالعربية( ).
ولعل أهمّ ما يميزّهما الواحد عن الآخر، يكمن في التيار الإيديولوجي الذي ينتمي إليه كلاهما وهنا لا بد من الوقوف بريهة من الزمن لشرح ما نقصد بالانتماء الإيديولوجي.
إن المفكرين اللذين نحن بصدد دراسة مؤلفيهما، عالمان تتوفر لديهما صفة العلمية بأتمّ معنى الكلمة، فهما من خريجي جامعات غربية تلقنا فيها المنهجية العلمية وأبرزا من خلال إنتاجهما الفكري الزاخم أنهما على درجة كبيرة من الانضباط والنزاهة العلمية. ومع هذا فإن العلم لا يتنافى مع الذاتية وإنما يسعى إلى "تهذيبها والرقي بها إلى مستوى الموضوعية. وما من عالم إلاّ ولهُ ذاتية يحملها ويتعايش معها وكما قال شاعرنا:
ومهما تكن عند الفتى من خليقة
وإن خالها تُخفى عن الناس تُعلمِ
فالعالم إذن ليس مطالباً بنكران ذاتيته بقدر ما هو مطالبٌ بتهذيبها وترقيتها لتقديمها للناس في شكل موضوعي مقبول وفي هذا المضمار. نجد مفكرينا جدُّ مختلفين في الأسلوب والمنهج، فبينما يعمد الد. سعد الله أسلوباً مباشراً في كتاباته، ولا يتردَّدُ عن التعبير على مواقفه الإيديولوجية صراحة وبكل بساطة. يعمد الد. أركون من جهته أسلوباً أقلُّ ما يقال عليه أنه أسلوب مناور، يحاول إخفاء ذاتيته ويتستر وراء المحايدة العلمية، ولكنه في نهاية المطاف يكشف عن تورّط إيديولوجي أكبر.
لقد صدر مؤخراً، لهذين المفكرين كتابان، عبر كل واحد منهما في كتابه عن مجمل الخواطر والأفكار التي يحملها حول قضايا تهمُّ المجتمع العربي الإسلامي وتعالج أبرز التحديات المطروحة على ساحته. وهذان الكتابان هما هموم حضارات( )، والفكر الإسلامي( ).
فأما الكتاب الأول، فهو للد. سعد الله وهو عبارة عن مجموعة من المقالات والمحاضرات التي ألقاها الأستاذ أو كتبها خلال السنوات الأربع الأخيرة، وتتناول قضايا متنوعة تتراوح بين أزمة الخليج، وأزمة المجتمع الجزائري، وأوضاع وهموم العالم العربي الإسلامي عامّة. والكتاب كما هو واضح من خلال عنوانه، عبارة عن خواطر يسردها المؤلف بأسلوب شيق ومباشر يعبّر فيها عن ألمه وحزنه لما يتخبط فيه مجتمعة من محنٍ ومصائب. ويستنكر فيها الهجمات المتكررة التي يشنها الغرب الإمبريالي وحلفاؤه الصهاينة على الدول والشعوب العربية الإسلامية ويشجب دور المثقف المسلم الذي يجب أن يكون طلائعياً لصدّ هذا العدوان والوقوف إلى جنب القيادات الوطنية والتقدمية في خدمة وحدة هذا المجتمع ورُقيّه.
ونجده إزاء الأزمة الجزائرية: لا يتردد فيحمّلُ مسؤولية الوضع إلى : "الذين اغتالوا الثورة وهم الحكّام الجهلة والمتسللّون الخونة: وحتى بعض المجاهدين المنخدعين الذين انشغلوا بجمع الغنائم مثلما وقع للمسلمين في غزوة أحد"( )
ثم يقدم اقتراحات كفيلة بحلّ الأزمة ويعرب بأنه: "في استطاعة الجزائر أن تستقطب التيارات الوطنية والإسلامية المضطهدة هنا وهناك لإحداث المعجزة وإقامة دولة موحدة بمنطقة شمال إفريقيا، يكون أساسها الحضارة العربية الإسلامية ورائدها التقدم التكنولوجي"( )
ينتقل بعد ذلك الد. سعد الله للحديث عن أزمة الخليج فيعبر شأنه في ذلك شأن كل مثقف عربي مسلم، عن حزنه وألمه لمحنة الشعب العراقي، ويندّد بشدة عن موجة الخيانة والتخاذل التي اكتسحت العالم العربي
الإسلامي، وأغرقت أنظمته وشعوبه في غمرة البذخ والاستلاب المادي، ودفعت بهم إلى أحضان الغرب فباعوه مجدهم وكرامتهم: وتنازلوا له عن العراق وفلسطين مقابل كمشة من الدولارات الفانية أما ثقل النكسة، لا يجد أستاذنا من مخرج سوى الالتفات إلى الأجيال الصاعدة، وتعليق الآمال عليها لكي تثمر عن السواعد وتمحو آثار العار والخزي وتعيد للأمة عزتها.
والشمس إن غربت عنَّا فمرجعها
للعرب حتى كأن الشمس لم تغب
ينتقل بعدها الد. سعد الله للحديث عن مواضيع أدبية: فيقدّم لقرائه تقريراً مفصّلاً عن نشاط المجمع اللغوي بالقاهرة وأعماله خلال دورة سنة 1990، من أجل ترقية اللغة العربية وبأسلوب سهلٍ ممتنع، يسرد علينا المؤلف نشاطات هذا المجمع من محاضرات وجلسات، ويصف لنا بلغة عذبة وسلسلةٍ، تتخللها هنا وهناك نوادر أدبية. وجولات وزيارات منعشة تجعل القارئ ينصهر مع وجدان المؤلف ويسرح معه عبر السطور. وهنا تظهر حقيقة براعة الأستاذ سعد الله وقدراته الأدبية الكبيرة.( )
بقدر ما يسهل على القارئ التهام كتاب الأستاذ سعد الله بقدر ما يصعب عليه هضم كتاب الأستاذ م. أركون. فالأول بفضل أسلوبه المباشر ولغته البسيطة والجميلة في آن واحد. يستقطب اهتمام القارئ ويشدّه إليه، أما الثاني فنظراً للأسلوب المبهم والمعقد، واللغة الإصطلاحية الجافة تنفّر القارئ وتثقل عليه: وربَّ عذرٍ أقبح من ذنب. فقد يتبادر إلى ذهن القارئ أنّ الاختلاف بين المؤلفين راجع إلى كون المؤلف الثاني يطرح مسائل فلسفية وهي بطبعها أكثر تعقيداً من الهموم الغابرة التي يسردها الأول. قد يجوز هذا في حدود معينة إلا أنه تبرير غير مقبول إذا ما اتفقنا على أن أنجح الفلسفات هو ما كان أبسطها وأقربها المنال. فالفلسفة كما هو معلوم إذا تعالت بأسلوبها ومجرداتها عن عامة القراء تصبح طلاسم مبهمة يتداولها خبراء في برجهم العاجي ومهما يكن من أمر، فدعنا نتأمل ما يقترحه علينا الد. أركون، كتابه المعنون "الفكر الإسلامي" هو عبارة عن مجموعة من الأجوبة يقدمها لنا الأستاذ ردّاً على مجموعة من الأسئلة (سؤال) يتولى طرحها المترجم نيابة عن القراء.
وعموماً نجد الد. آركون يتحاشى الإجابة المباشرة عن الأسئلة المطروحة ويعمد إلى أسلوب الغمز والإيماء فيلف ويدور حول السؤال: ويكتفي بالتلميح والتسطيح حول بعض جوانبه، متبعاً في ذلك منهجيةً قروسطيةً طالما عاتب هو نفسه أصحابها( )ولعلَّ عذر د. أركون يرجع إلى كونه يعالج مسائل جوهرية ويقدم على رفع تحديات جسام تتمثل في تحديد معنى القرآن. وإعادة قراءته على ضوء معطيات العصر. وتهتم بضحد المنهجية السلفية، وتحطيم السياج الدوغمائي المغلق الذي نسجته الأرثذوكسية الفقهية حول الدين ومفهومه، كما يناضل صاحبنا من أجل تحرير الفكر الإسلامي، وإحياء علم الأنثروبولوجيا المطبقة. وغير ذلك من المشاريع الضخمة التي يعجز عن وصفها اللسان.
إن مشروع الد. أركون من الأهمية والضخامة بمكان. وله جوانب إيجابية قائمة نذكر من بينها استفزازاه للجمود الفكري السائد في الساحة العربية الإسلامية، وتحريض هذا الفكر للخروج من طور
الجمود والتقليد الأعمى إلى مجابهة العالم وتحديَّاته.
وما نعيبه على صاحبنا هو التهور والمبالغة في الطموح والخلط بين الاجتهاد والابتداع. فهل يعقل أن يطمح أحد في إصلاح الفكر الإسلامي إنطلاقاً من السوربون، واستناداً إلى أدوات ومصطلحات فكرية وفلسفية مستحدثة في الجامعات الغربية والتي هي في مجملها لا تمتُّ بصلة إلى الحضارة والتراث العربي الإسلامي؟ إن هذا مجرد سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ نتمنى أن يوليه الد. أركون بعض الوقت والتفكير.
يدَّعي الد. أركون أنه من رواد الحقيقة المعرفية الموضوعية والكونية، ولكنه يتناسى أن يبيّن لنا أين تكمن هذه الحقيقة وأين يستقرُّ الحياد العلمي عندما يتعلق الأمر بقضايا تمسُّ الإسلام؟ إن الهدف الذي يصبو إليه الد. أركون وإن هو مازال لم يتجرأ بعد عن الإفصاح عنه شفاهة، هو التنازل عن الدين الإسلامي وطرحه بين قوسين على صعيد الحياة الاجتماعية فهو يريد علمنة المجتمع الإسلامي على نفس الطريقة التي تمَّت بها علمنة المجتمع الغربي، وتحريره من جميع القيود الدينية لتمكينه من الزحف نحو تكريس، حق الروح في الحقيقة؟( )
بيد أنه لا يبوح لنا بمضمون هذا الحق ومغزاه كيف بربك يا استاذ: تريد من أناس أدركوا حقيقتهم وضالتهم أن يتخلوا عنها مقابل سرابٍ قد أبهر بريقه المنبعث من أضواء باريس عقلك واستحوذ عليه؟
إذا كان مجهودك هذا يندرج في باب الاجتهاد، فلما تفرُّ من المواجهة وتعزف عن مناقشة فقهائنا ومجادلتهم بالتي هي أحسن؟ لمَ تعمد دائماً إلى الاستشهاد بدكاترة الغرب وفقهائه وأنت تخاطب جمهوراً مسلماً؟ ألم تجد وسط الزِّجام الحاشد الذي تعجُّ به حضارتنا من نوابغ وعباقرة سوى التوحيدي تتعلق بأشلائه وتتمشدق بآرائه بالحداثة؟ كيف بربّك يحلو لك يا سيدي أن تزجَّ بابن تيمية والغزالي وابن خلدون وابن رشد في غياهب "القروسطية" لتنفرد أنت ومن ارتضيت وليَّاً بالعقل والمنطق والحداثة: بل وكيف تبلغ بكل الوقاحة فتعجب من فوضى القرآن. وتتحسَّر على المآسي التي تفجّرها الحداثة عندنا وفي الوقت ذاته، نجدك تتغافل عن فوضى الغرب، وتتعامى عن همجية السباق نحو التسلح، ولم نسمعك في يوم ما رغم استجواباتك العديدة التي تكرمت بها للنيل من الإسلام وشعوبه، تندد بالمجازر التي ترتكبها الامبريالية والصهيونية في حق الشعوب؟ بل وكيف لا تقتدي بأساتذتك في ضحد مشروع الحداثة وتقويمه؟...( )لقد أشرنا سابقاً إلى حقيقة بعض أفكارك التي تعاتب فيها المثقفين المسلمين، وتشدّ هممهم من أجل التمرد على السلفية والخروج من طور التقليد والجمود للمناظرة والاجتهاد من أجل رفع التحديات ولكننا لا نساندك في عزمك على الإطاحة بالسياج السلفي، فهو في اعتقادنا كما أوضح ذلك رشيد رضا. الحزام الحافظ للبيضة الإسلامية ولو اخترق أو تلف . ذهب معه كل شيء، أو كما قال أبو حامد الغزالي فهو الحارس ومن لا حارس له ضائع لا محالة.
نودّك أن لا تربط بين إفلاس الخليقة، وإفلاس العقيدة، وهي عين الخلاصة التي اهتدى إليها المفكر عبد الله العروي إن ثبوت الشق الأول من المعادلة لايرتِّب حتمياً ثبوت شقها الثاني، وعليك فعلاً إن كنت
تصبو لخدمة الإسلام أن تبين بدقة معنى العلمنة التي تودُّ إدخالها للدار الإسلامية. فإذا كان رغبتك في الانطلاق من الحداثة تهدف إلى إفضاء المطلق واختزال الدين من الساحة الاجتماعية والإطاحة بالمقدسات الروحية من أجل الرضوخ "للفرد" المبجل ونزواته كمقدساتٍ جديدة فذلك خيار خاطئ من الأساس يبتاع البخس بالنفيس والأرذل بالأفضل والنسبي بالمطلق، وإذا كانت الحداثة كما تزعم قد توصلت إلى إختزال الدين في بعدها الإنساني وأصبحت لا تفرِّق بين الأسود والأبيض والمسلم وغير المسلم في معاملاتها فهذا المعطى مجرد افتراض نظري يُكذّبه الواقع المرّ الذي مازال يكيل بمكيالين. فيبجلّ اليهودي بفلسطين، ويخذل المسلم في البوسنة، وعليك إن لم تقتنع بعد أن تنظر في وضعك أنت بالذات كضيف على بلد الثورة الجمهورية هل تحظى بمواطنة كاملة أم أنك لا تعدو وشأنُك في ذلك شأن كلَّ مهاجر مسلم، مجرد مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة؟
إننا سنمهلك بعض الوقت للتدبير والتفكير أو سنترقب اجتهاداتك في التراث الإسلامي للحكم لك أو عليك، أما في الوقت الراهن، فلا يسعنا سوى الدعاء لك بالهداية والرشاد وإجابتك من وراء ما أسميت بالسياج الدوغمائي المغلق فأننا نحمد الله ونشكرهُ في السَّراء والضَّراء، وعلى العموم، نفضّلُ الاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والاستئناس بابن تيمية تحت ظلال بستانه وجنَّته، ونتركك لوحدك تنعمُ بغمرة الحداثة وتسبح في أضواء باريس البراقة. وإن كان واجباً علينا تذكيركَ، بأن "من لم يجعل اللَّهُ لهُ نوراً، فماله من نور"
صدق الله العظيم.