فهمُ النصّ الذي يتطلّب حسنَ البيان بالدّرجة الأولى ، هو الذي ألحّ على الجاحظ إثارة قضايا متصلة ببناء النصّ على مستوى راقٍ من التأليف بين أجزائه ( القران ) و( التماسك ) ، ويتطلّب ذلك مقدرة وكفاية إبداعيّة تُلتمس في عناية المبدع المطبوع بإنتاجه ، يقول في ذلك: " وأنا أُوصيك ألاّ تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أنّ لك فيها طبيعة ، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة ، ويشاكلانك بعض المشاكلة، ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة ، ويستبدّ بها سوءُ العادة . وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة ، وبقوّة المنّة يوم الحفل ، فلا تُقصّر في التماس أعلاها سُورة وأرفعها في البيان منزلة " (1) .
فالجاحظ يضع المتلقي في قلب عملية التخاطب والاتّصال ، فهو المقصود من التماس البيان والتبيين، لذلك هو يلحّ على المبدع أن يعتني بقريحته ومعاودة تنقيح نصوصه حتى تبلغ مكانة رفيعة لدى المتلقين مما يدلّ على استحسانهم وقبولهم ( فلا تقصّر في التماس أعلاها سُورة ، وأرفعها في البيان منزلة ) . المتلقي إذن تبوأ مكانة الصّدراة عند الجاحظ ليكون معياراً لقبول النصّ أو إهماله (نصيّة النصّ ) ، فانصراف المتلقي عن النصّ دليل على عدم انسجامه أي عدم ترابط أجزائه ، يقول الجاحظ في ذلك : " فإذا عاودت أمثال ذلك مراراً ، فوجدت الأسماع عنه منصرفة ، والقلوب لاهية ، فخذ في غير هذه الصناعة ، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه ، أو زهدهم فيه "(2) .
عبارات الجاحظ السّابقة حجةٌ لنا على ما يتمتّع به من وعي عميق بأهمية ظاهرة الترابط الدَّلاليّ في النصّ العربيّ قصيدة أم خطبة أم رسالة ، ولعلّ كفاية المبدع ومقدرته ومقبولية النصّ من طرف المتلقي ورفضه ، هما طرفا المعادلة في هذه العملية ، وهو ما يؤكّده الدكتور محمد العبد معلّقاً على نصّ للجاحظ جاء فيه : " وقال عمر بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك ! قال: وبم ذلك ؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه ، وأنت تقول البيت وابن عمّه "(3) . يقول معلقاً على هذا النصّ: " الأخوّة والعمومة في كلام ابن لجأ إشارة إلى درجة قوّة الترابط الدَّلاليّ بين سلاسل المنطوقات المتواليات ، مما يصير به النصّ كلاًّ موحّداً دالاًّ . وهذه الإشارة الوجيزة في كلام ابن لجأ تعكس وعي منتجي النصوص أنفسهم بأنّ إنتاج النصّ قدرة على القصد ، يُظهرها المتكلم تجاه الملابسات والظروف التي ينتج فيها نصّاً، والتي يحاول فيها أن يجعل هذا النصّ مفهومًا ، من خلال التخطيط وتسلسل المعلومات على نحو منطقيٍّ (4).
إذاً فكرة التناغم والتناسق بين أجزاء القصيدة أو الخطبة أو الرسالة وترابط أوّلها مع آخرها ، وبناء العمل الأدبيّ على فكرة واحدة ( موضوع الخطاب ) ، ومعيار المقبولية من طرف المتلقي ، هو ما وجد عناية فائقة من الجاحظ سواء على مستوى الصّوت المفرد أم على مستوى التركيب ، فكانت دعوة إلى وحدة النصّ وترابطه ليكون كالكلمة الواحدة ، وفكرة البيان التي يؤصّل لها الجاحظ في كتابه النقديّ المتميّز ، تُعدّ من سمات التفكير البراغماتي ( التداوليّ ) وهو مبدأ مهمٌّ للتعاون بين المتكلم والمخاطب ، يقول في ذلك : " ... يكفي من حظ البلاغة أن لا يُؤتى السامع من سوء إفهام النّاطق ، ولا يُؤتى النّاطق من سوء فهم السامع " (5) .
الهوامش:
1. عمرو بن بحر الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ط 4 ، مكتبة الخانجي بالقاهرة 1975. ج1 ص200.
2. المصدر السابق ، ج1 ص203 .
3. المصدر السابق ، ج1 ص206 .
4. محمد العبد ، النص والخطاب والاتصال ، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي ، ط1 ، القاهرة 2005 ، ص102 .
5. الجاحظ ، البيان والتبيين ، ج1 ص87 .