الترابط النصي في القرآن الكريم
بقلم : أ / عبد الكريم محمد صالح السعيدي
جامعة سبها
إن من بين القضايا التي شغلت علماء اللغة والمفسرين المسلمين البحثُ في الكيفية التي بها يتماسك النص القرآني ويتآخذ مُشَكٍّلةً بذلك نصاً متسقاً ، ومن ثم اهتم علماء اللغة والمفسرون باستخراج الوسائل والعلائق والآليات التي تسهم في اتساق النص القرآني ، وتجعله كلاً واحداً موحداً رغم اختلاف أوقات نزوله وأسبابه ، كما عُنِيَ علماء العربية بالروابط التي تربط أجزاء الجملة من ناحية ومن ناحية أخرى بالروابط التي تربط عدة جمل مع بعضها مكونة نصاً أو خطاباً.
وقد تنوعت هذه الجهود بين أشكال مختلفة من التحليل فمنهم من اهتم بالنحو وأصوله ، ومنهم من ركَّز على الجانب الصرفي ومنهم من جمع بين الاثنين فوازن بين النظرية والتطبيق ، كما عُنِيَ علماؤنا المتأخرون بجانبين آخرين برزت قيمتهما في الفترة الأخيرة لا تقل أهميتهما عن الجانبين النحوي والصرفي ، هذان الجانبان هما الجانب الدلالي والجانب التداولي ، حيث تتلاحم فيهما المعاني الجزئية للمفردات مع المعاني العامة للأساليب على مستوى الجملة وهو البعد الأول، ثم يأتي دور السياق لأهميته في التأثير على الدلالة الجزئية للتعبيرات اللغوية فمعظم الكلمات من حيث المفهوم دالة على أكثر من معنى ، ولكنَّ السياق يحدد ويفصل هذه المعاني فيتشكل بذلك البعد الثاني وهو النص .
إن علماء نا كانوا على وعي متقدم بأن القرآن يشكل نصاً واحداً، فقد كان الإمام عبد القاهر الجرجاني ت : ( 471 ) هـ سبَّاقاً إلى إدراك خصوصية تماسك النص وترابطه حيث شبَّه واضع الكلام بالصائغ الذي يذيب قطع الذهب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة إذ يقول : ( واعلم أنَّ َََمَثل واضع الكلام مَثلُ من يأخذ قطعاً من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدةً ، وذلك أنك إذا قلت : ضرب زيدٌ عمراً يوم الجمعة ضرباً شديداً تأديباً له فإنك تحصل من مجموع هذه الكَِلمِ كلها على مفهومٍ ، هو معنىً واحدٌ لا عِدَّةُ معانٍ كما يتوهَّمُه الناس، وذلك لأنك لم تأتِ بهذه الكَلِمِ لتفيده أنْفُسَ معانيها وإنما جئت بها لتفيده وجوهَ التعلُّقِ التي بين الفعل الذي هو ( ضرب ) وبين ما عمل فيه ، والأحكامَ التي هي محصُول التعلَّق )(1) .
وهكذا ترسخت النظرة البنيوية في فكر عبد القاهر الجرجاني فتمخضت عن نظرية النظم وأهميته ، والتي ركزت على الأثر العظيم لتعلق الأجزاء بعضها ببعض وأخذ الخطاب كله دفعة واحدة ، فحَسْبُ عبد القاهر تترابط أجزاء الخطاب بعضها ببعض ترابطاً تعلقياً وهو الذي أشار إليه فيما سبق ، كما يظهر ذلك في تعليقه على بيت بشار بن برد :-
كأنَّ مُثارَ النقعِ فوق رؤوسنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
يقول
فبيت بشار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنعه الصانع حين يأخذ كسراً من الذهب فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرجها لك سواراً أو خلخالاً... فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد ، والبيت من أوله إلى آخره كلام واحد) (2) .
إن المتأمل في الاقتباسين السابقين يدرك أن عبد القاهر الجرجاني جعل النظم للمعاني ، فالنظم عنده هو صياغة المعاني النحوية في نفس المتكلم ، لا بناء الكلمات في صورة جمل ، والنظم أيضا هو تصوُّر العلائق النحوية بين الأبواب ، كتصور علاقة التعدية بين الفعل والمفعول به ، و تصوُّر علاقة السببية بين الفعل والمفعول لأجله ، وهذا مضمون قوله في بيت بشار أيضا : ( فانظر الآن ما تقول في اتحاد هذه الكلم التي هي أجزاء البيت ؟ أتقول : إن ألفاظها اتحدت فصارت لفظة واحدة ؟ أم تقول : إنَّ معانيها اتحدت فصارت الألفاظ من أجل ذلك كأنها لفظة واحدة ؟ فإن كنت لا تشك أن الاتحاد الذي تراه هو في المعاني ، إذ كان من فساد العقل ، ومن الذهاب في الخبل ، أن يتوهَّم مُتَوهِّم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفضة واحدة . فقد أراك ذلك ، إن لم تكابر عقلك أن النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها ، وأن نظمها هو توخي معاني النحو فيها ) (3) ، بل إن دراسة عبد القاهر للربط لم تقتصر على داخل النص فحسب ، وإنما ربط بين النص ومسرح الحدث الذي دارت عليه الأحداث اللغوية ، رغم أن عبد القاهر لا يملك من وسائل الدراسة الحديثة شيئا ولكنه كان يملك أن يعيش واقع هذه اللغة وأحوال المخاطبين ، وهو اتجاه عُرفَ حديثاً في الدرس اللغوي الحديث والذي ينادي بضرورة دراسة اللغة من خلال تمثيل المسرح الذي دارت عليه الأحداث اللغوية ؛ ذلك أن اللغة وليدة الواقع الحي وبالتالي تحمل من هذا الواقع وإيحاءاته عناصر كثيرة تمتزج بعناصر بنيتها الأساسية ، وهذه العناصر مجتمعة تشكل في مجملها سياقاً ثقافياً أو اجتماعياً له دوره في إنتاج النص وأن إهداره يؤثر سلباً في استنطاق النص لإنتاج الدلالة الحقيقية للنص ، يقول عبد القاهر : ( ومما هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى: يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىَ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لّكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لّهُ ما فِي السّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً(4) وذلك أنهم قد ذهبوا في رفع ((ثلاثة)) إلى أنها خبر مبتدإ محذوف ، وقالوا : إن التقدير: (( وَلاَ تَقُولُواْ آلهَتُنا ثَلاَثَةٌ)) وليس ذلك بمستقيم . وذلك أنّا إذا قلنا : (( وَلاَ تَقُولُواْ آلهَتُنا ثَلاَثَةٌ )) ، كان ذلك والعياذ بالله شبه الإثبات أنّ ههنا آلهةً ، من حيث إنك إذا نفيت ، فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ ، ولا تنفي معنى المبتدأ ) (5) ، ويرى عبد القاهر في تحليله لهذه الآية أن ربطها بمسرح الحدث اللغوي ينفي القول بالحكاية ؛ ذلك أن الخطاب في الآية للنصارى أنفسهم ومن ثمَّ يكون التقدير : (( وَلاَ تَقُولُواْ الله والمسيحُ وأمُّه ثَلاَثَةٌ )) نعبدهما كما نعبد الله ،ويرى عبد القاهر أن هذا التحليل يبينه ويوضحه قوله تعالى: لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لّمْ يَنتَهُواْ عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (6) ؛ ذلك أنه ( استقرّ في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصفٍ من الأوصاف ، وأن يجعلوهما شبيهين له ، قالوا: (( هم ثلاثة ))) (7) ، وبهذه الرؤية الثاقبة للواقع اللغوي فإن عبد القاهر الجرجاني ـ كما يقول الدكتور البدراوي زهران : ( لم يكتف بالتأويل العقلي المحض ، ولم يعامل اللغة معاملة الأمثلة الجامدة وإنما من واقع ما دعا إليه من ربط اللغة بما عليه أحوال المخلوقين ومن أنك بهذا تستطيع أن تنقل الكلام من صورة معنى إلى صورة معنى آخر من غير أن تغير من لفظه شيئا أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر رأى أن كل تأويل عندما تربطه بواقع اللغة تكون له سمات خاصة ويعطي دلالة خاصة به وهذا من الأمور المسلم بها الآن في الدرس اللغوي الحديث ) (8) ، وبذلك ينتهي عبد القاهر في عرض نظريته إلى الخلاصة التالية :
1ـ أنه لا فصل بين الألفاظ و معانيها ، ولا بين الصورة والمحتوى ، ولا بين الشكل والمضمون ، في النص ، ولهذا ( يرفض عبد القاهر ثنائية النص ، وتقسيمه إلى لفظ ومعنى فقط ؛ لأن هناك بعداً ثالثاً لم يلتفت إليه الأقدمون وهو ((الصورة )) ) (9) .
2 ـ أن البلاغة في النظم لا في الكلمات المفردة ، ولا في مجرد المعاني ، والبحث في الإعجاز إنما يكون في النظم وحده .
3 ـ أن النظم إنما يكون في مراعاة معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه فيما بين معاني الكلم .
والزمخشري ، ت : ( 538 ) هـ في استخدامه للصيغة الاستفهامية وما يتلوها يعبر عن وعي بالترابط وكيفيته ، من ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى : وَبَشّرِ الّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ كُلّمَـا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رّزْقاً قَالُواْ هَـَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فيها أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (10): ( فإن قلت : مَنْ المأمور بقوله تعالى : (وبشر) ؟ قلت : يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون كلَّ أحدٍ كما قال عليه الصلاة والسلام : ( بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة ) (11) لم يأمر بذلك واحداً بعينه وإنما كلُّ أحد مأمور به ، وهذا الوجه أحسن وأجزل ؛ لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشِّر به كلُّ من قدر على البشارة به ؛ فإن قلت : علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمرٌ و لا نهي يصح عطفه عليه ؟ قلت : ليس الذي اعتُمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكلٌ من أمر أو نهي يعطف عليه . إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين ) (12) .
والرازي ت : ( 606 ) هـ يرى أن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط ، ولهذا نجد في تفسيره اهتماما بالمناسبة معبراً عنها بصيغتين : ـ
أولهما : قوله في تفسيره لقوله تعالى : أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ (13) : ( ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها ، أحدها : أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة ، وثانيها : لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم : إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردكم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله . عن أبي مسلم ، وثالثها : لما أمر ونهى قال أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى ؟) (14) .
وثانيهما : قوله في تفسيره لقوله تعالى : مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (15) : ( في كيفية النظم وجوه ( الأول ) قال القاضي رحمه الله : إنه تعالى لما أجمل في قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاًُ كثيرة ) فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء والإماتة .... ..( الوجه الثاني ) : في بيان النظم ما ذكره الأصم: وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل ما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته ، ( الوجه الثالث ) : لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت )(16).
ومن بعدهم جاء أبو حيان الأندلسي ت : ( 754 ) هـ فكشف الربط بين أول السورة و أخر السورة التي قبلها ، ويظهر ذلك في تفسيره لسورة النمل ، يقول : ( ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة ؛ لأنه قال : ( وما تنزلت به الشياطين ) وقبله : ( إنه لتنزيل رب العالمين ) وقال هنا: ( طس تلك آيات القرآن ) أي الذي هو تنزيل رب العالمين ) (17).
الهوامش :
(1) دلائل الإعجاز . عبد القاهر الجرجاني . ت : محمود محمد شاكر . ص412/413 . مطبعة المدني بالقاهرة
ط3 . 1992م
(2) المرجع نفســه .ص 414 .
(3) المرجع نفســه . ص414/415 .
(4) سورة النساء / (171) .
(5) دلائل الإعجاز . ص379 .
(6) سورة المائدة / (73) .
(7) دلائل الإعجاز . ص383 .
(8) ظواهر قرآنية . د : البدراوي عبد الوها زهران . ص89 ـ 90 . ط1 ، 1988 م . دار المعارف ، القاهرة .
(9) الأسلوبية و البيان العربي . د : محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون . ص79 . الدار المصرية اللبنانية . ط2 .1999م .
(10) سورة البقرة / (24) .
(11) سنن أ بي داود . سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي . ت : عزت عُبيد الدعاس . مج1 . باب رقم : (50) . حديث رقم (561) . ص379 . ط1 . 1969 م . دار الحديث للطباعة والنشر ، حمص ـ سوريا .
(12) الكشاف . أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري . ج1 . ص99 . دار مصر للطباعة .
(13) سورة البقرة / (108) .
(14) التفسير الكبير . محمد الرازي فخر الدين . مج2 . ج3 . ص255 . دار الفكر بيروت - لبنان . ط1 . 1981م .
(15) سورة البقرة / (261) .
(16) التفسير الكبير . الرازي . مج4 . ج7 . ص47/48 .
(17) البحر المحيط . محمد بن يوسف بن حيان . ج7 . ص52 . مكتبة النصر الحديثة . الرياض.