اللّغة والتبليغ:
اللّغة أداة تفاهم وتواصل:
يرى جون لاينز (John Lyons) أنّ تحديد اللّغة بوصفها أداة تواصل يعدّ حقيقة بديهيّة ومن باب الإطناب الذي لا طائلَ من ورائه، لكن من الصعب العثور على تعريفٍ يدور في مدار اللّغة ولا يعرج على هذه الحقيقة عينها . مع ما تحرص عليه هذه الملاحظة من ضرورة تحاشي تمييع فكرة (اللّغة والتواصل) نحوم بدورنا في محارمها لا لشيءٍ إلاّ لكي نثبت كم للتواصل والتفاهم من أهمية يتحتّم علينا اعتبارهما عاملاً من عوامل تعلّم / تعليم اللّغة: فالمرء لا بدّ أن يندمج في مجتمعٍ ما لكي ينشأ بصورة طبيعيّة، فيعقد علاقات مع غيره من أفراد مجتمعه، ويتبادل معهم الأحاديث ليفصح عن انشغالاته ورغباته وطموحاته وميوله، ويعبِّر عن أفكاره ومشاعره ...؛ وليس في حوزة ذلك المرء أحسن وسيلة من اللغة أداءً لهذه المهمّة.
لنضرب هذا المثال لكي ندرك أهميّة اللّغة في التفاهم والتواصل: ما يُقال ليس بالضّرورة صنو ما يُفكَّر فيه، هذا قد يرجع إلى عجزٍ في اللّغة أو إلى عوامل أخرى كإرادة صرف الذهن إلى أمر ما أو لأغراضٍ أخرى؛ وفي كلا الحالين سيحتاج ذلك المرء إلى التزوّد بملكة لغوية أو مهارة لغويّة ليستمرّ في الوجود، نتفهّم كون الأحاديث الّتي تُلتقط لا تعكِس دائمًا فكرَ الإنسان بعمقه. يمكِن للفرد، لسبب يخصّه، أن يُنتِج خطابًا يقف في طرف نقيض مِمّا يُفكِّر حقيقة. إذا حرّرنا خاطِرنا للتأمّل في هذه الإمكانيّة فنجدها من حيث الظّاهِر تتنافى مع ترتيبات التواصل (وظيفة اللّغة الأساس). لكن قد يرجع ذلك إلى كون ذلك الفرد اتّخذ موقفًا لا يريد الإفصاح عنه؛ فالمواقف والتّمثيلات (التّصوّرات) نفسها ليست إلاّ نتاج مسارٍ ما. الوسط ولغة الدّراسة والمرتبة في طبقات المجتمع، كلّ ذلك يؤثِّر بشكلٍ واسِعٍ في صنع تلك المواقف. فهذه الأخيرة هي بالفعل منتوجة وهي موضوعة في محكٍّ مع المعايير (القواعد) الّتي قد يتمثّل لها المتحدِّث أو لا يتمثّل. وللّغة هي الأخرى قواعدها المتسلِّطة، كما يرى رولان بارط (1915 ـ 1980) Roland Barthes الذي يعتبر الأدب تحرّرًا منها وخلخلةً للّغة . ولدى ميشال فوكو نجد اللّغة معيار الإقصاء .
لكن علينا أن نستحضر كون « القواعد بمثابة الأداة أو الآلية الّتي تُتيح للإنسان أن يتكلّم اللّغة، والّتي تُحدّد شروط التّواصل والتّفاهم وضوابطهما بين أبناء اللّغة الواحدة » . وهذا لا ينفي ذاك خاصّةً إذا أخذنا بما تعاينه اللّغة نفسها: إذ أنّ كلمة (Ordre) كثيرًا ما تعني في اللّغة الفرنسيّة معنى « النظام »، و« الأمر » الذي يُلحّ ويُسهَر على تطبيقه، وذلك في الملفوظ الآتي: (Faire respecter l’ordre)، ويكتسب الأمرُ (Ordre) اهتمام المأمور وقبوله به من مدى انسجامه وخضوعه للواقع وعدم تنافره مع المنطق: من هنا نتأكّد من أنّ المنطقيّة والترتيب والتتابع شروطٌ ضروريّة في النظام اللّغويّ (بما فيه القياس والاستعمال)، وحاجة الفرد إلى تعلّم اللّغة (ذلك النظام) تكمِّل حاجته إلى التفكير آخذًا بالاعتبار معطيات الواقع (الاستعمال) ومسهِّلاً على نفسه التكيّف مع مظاهره الجديدة (القياس) بل حتّى طرائق تعلّم اللّغة لا تنفكّ تخضع لهذه الواقعة الطبيعيّة التي هي بمثابة القاعدة.
فمن هذه الناحية تظلّ وظيفة التبليغ أساسيّة إلاّ أنّها معتبِرة لتنوّع وظائف اللّغة. ولتقديم فكرة عن هذه الأخيرة رأى رومان ياكوبسون ضرورة السّبق بتبيان العناصر المكوّنة لكلّ إجراء لغويّ ولكلّ فعل تبليغيّ شفويّ. وهي المتمثّلة في الشّرح الآتي:
يبثّ المرسل خطابا يتلقّاه المتلقّي، ولكي يصبح ذلك الخطاب إجرائيّا حقّا لا بدّ أن يحظى بسياق يحيل إليه، ويقول عنه ر. ياكوبسون: « هو ما يطلق عليه ” المرجع “ وذلك في مصطلحيّة مبهمة شيئا ما » . و تكمن أهميّة السّياق في كونه أمرا من شأن المتلقّي أن يمسك به، وهو إمّا أن يكون شفويّا أو كفيلا بأن يُشافه عنه. ثمّ يكتسب الخطاب وضعا مشتركا في كليّته أو على الأقلّ في أجزائه بين المرسل والمتلقّي (أو بتعبير آخر، بين منمّط ومفكّك ذلك الخطاب). وأخيرا يكتسب الخطاب اتّصالا أو قناة تضمن الحضور النّفسيّ والتّجاوب بين المرسل والمتلقّي، هو ذلك الاتّصال الّذي يسمح لهم بالاحتفاظ على عمليّة التّيليغ. يمكن تمثيل هذه العناصر الّتي لا بدّ أن تتواجد في عمليّة التّبليغ في المرسومة الآتية :
----- ................ السّياق .............-----
المرسل ................ الخطاب ............ المتلقّي
-----................. الاتّصال ............-----
----- ................ الوضع .............-----
فيتولّد عن كلّ واحد من هذه العناصر السّتة وظيفة لغويّة متميّزة لا يتّسع المقام لعرضها هنا. لكن يبقى التّحكّم في قوانين الخطاب وفي أجناسه لهو من المكوِّنات الأساسيّة لملكتنا التّواصليّة، أي قدرتنا على خلق الملفوظات وتأويلها بصورة تنسجم والحالات العديدة المحيطة بوجودنا. لا تخضع هذه القدرة لتعلّم بيِّنٍ، إنّما نتلقّاها عن طريق تمثّلها، في الوقت نفسه الّذي نُلقَّن فيه أنواعًا من السّلوكات في الوسط الاجتماعيّ.
طبعًا لا يكفي التّحكّم في الملَكة التّواصليّة للمشاركة في نشاطٍ كلاميٍّ ما. لا بدّ من تعبئة « سلطاتٍ » أخرى ـ كما يقول دومنيك مانغينو (Dominique Maingueneau) ـ من أجل خلق الملفوظات وتأويلها. بالتّأكيد لا مجالَ لإزاحة الملكة اللّغويّة، أي التّحكّم في اللّغة المعنيّة. ينبغي من جهةٍ أخرى التّزوّد بمعارف معتبرة حول العالَم، أي الملكة الموسوعيّة .
غير أنّ دور المرسل غاية في الأهميّة فيما يخصّ الإيصال التداولي (لغة الحياة اليومية)، فهو يتكلّم لغته الطبيعية ويؤديّها بطريقة تلقائية، وطبقاً للقواعد المتواضع عليها من حيث الأداء، في جوانبها الصوتية والنحوية والصرفية والدلالية. فالمرسل إذن، يخضع لما يتفق عليه المجتمع ويلتزم به ليبعد عن نفسه كل سوء فهم قد يطرأ سريعاً في حال الرغبة في العدول عن هذا الأداء اليومي المباشر القائم على ثلاثية محورية هي: المرسل والرسالة والمرسل إليه في دائرة مغلقة من التواصل اليومي، وهي أقرب إلى الطبع (المعاودة والتلقائية).
2.2.2 -اللّغة مفسِّرة لغيرها من أنظمة التبليغ:
قد يذهب البعض إلى الدفاع عن فكرة تعويض اللّغة بنظام تبليغيٍّ آخر يكون متوفِّرًا حسب تصوّره أو نظرًا لاعتقاده، وهذا صحيحٌ إلى حدٍّ ما ونقصد بذلك أنّ الإنسان والعالَم كما هو الآن وما آلت إليه الحضارة الإنسانيّة زاخرٌ بالعلامات التي إذا أدمِجت في وضع (نظام) ما صارت أداة تبليغ: كلّ ما سيحتاج إليه الإنسان هو تعلّم ذلك النظام الاصطلاحيّ مثل قانون المرور وغيره من أنظمة التبليغ؛ إذا نظرنا إلى الأمور من هذه الزاوية فهذا الزعم ليس خاطئًا؛ لكن ذلك الإنسان يبقى دائمًا في حاجة إلى اللّغة ولا يستطيع الاستغناء عنها لأنّها تظلّ الوحيدة التي يسخِّرها في سبيل تفسير باقي أنظمة التبليغ، بل لا يُتصوَّر أمر تعليم تلك الأنظمة من غير التوسّل باللّغة (الطبيعيّة).
هذا ينطبق حتى على لغة الصمّ البكم (لغة الجسم والحركات) التي هي صورة أخرى للّغة الطبيعيّة، يفهمها الصمّ البكم والعاديون، فكما أنّ لحركات الجسم دلالات تكمَّل بها تلك التي تعبّر عنها اللّغة الطبيعيّة فهذه الأخيرة يألفها الصمّ البكم من خلال حركات الشفتين وكيفيّات (فتح الفمّ) تدلّ على أنّ هذه الفئة تتلقّى الكلمات كعلامات بطريقتها.
ثمّ إنّ تلك الأنظمة كاستعمال الصور على سبيل المثال تقارب الواقع بصورة تقريبيّة وهذا إن كان صحيحًا فيما يخصّ اللّغة وبدرجة ما فهو راجعٌ إلى أسبابٍ تختلف عن الأسباب التي من وراء المقاربة التقريبيّة للصور، كما أنّ الإنسان يتصرّف عن طريق اللّغة ليحلّ هذه المشكِلة، فاللّغة هي التي تمدّه بالعلاج للعلّة التي يُظنّ أنّها هي المتسبِّبة لها؛ والمقام لا يسمح للأسف بأكثر من هذه الوقفة وإلاّ بيّننا ذلك بحجج علميّة وأمثلة، نكتفي بإيراد هذا المقتبَس المطوّل لتوضيح الأمر:
« ولقد طوّر الفيلسوف دانييل دينيت (Dennett, 1991 : 27) حيلة فريدة لتفسير نقاط الضّعف الّتي ينطوي عليها التّفكير بالصّور (مع أنّ أهدافه من حيلته تختلف عن أهدافي هنا، ولكن لا بأس). يقول دينيت: تخيّل بقرة أرجوانيّة بكلّ ما يمكنك من التّفاصيل. والآن أجِب: إلى أين تتّجه البقرة ؟ هل تراها تجترّ طعامها ؟ هل ترى ضرعها ؟ ما درجة لونها الأرجواني ؟ يقول دينيت: إنّ كثيرًا من النّاس لا يملكون القدرة على التّخيّل، حتّى إنّهم يعجزون عن الإجابة عن هذه الأسئلة. [...]
من هنا نكتشف أنّ بناء صورة عن العالَم أوّلا ومن ثمّ تحويلها إلى لغة ادّعاء غير صحيح حتّى في الحالات الّتي تبدو بسيطة في ظاهرها. بل إنّ الواقع عكس ذلك تماما. فاللّغة هي الّتي تبني لنا صورة العالَم الّتي نستعملها في التّفكير والتّواصل. ونستطيع بعدئذٍ لو شئنا أن نتخيّل رؤية هذه الصّورة أيضا في هيئة انطباعات ذهنيّة » .
كما أن اللّغة تتميّز بالمرونة في تعلّمها فهي تستسلم لمريدها وتوفِّر له عدّة إمكانيات لارتقاء أبراجها والتوغّل في أعماقها ولا تعرض عنه إلاّ إذا غادرها. واللّسانيون وقفوا عند ميزة لغويّة ليشخّصوا من خلالها تلك المرونة فوجدوها في ما سمّاه الوظيفيون (التقطيع المزدوج)، وقالوا إنّ هذا الأخير يستعصي على باقي الأنظمة التبليغيّة . وعلى الرّغم مِن أنّ صورة هذا الطّابِع لم ترتسِم كما يليق لَه في مُحاضرات دي سوسير فهو موجودٌ فيها مُتناثِرًا في خاصيّة الخطية ـ مثلاً ـ الّتي تنبّأ هذا الأخير بِأهميّتها. إذ إنّ جعل اللُّغة في مُقابِل غيرها مِن الأنظِمة العلاماتيّة أبرز خاصيّة الخطيّة الرّاجِعة في الأساس إلى الطّابِع الصّوتيّ لِلدّليل اللُّغويّ الّذي يَقتضي تسلسُلاً زمنيًّا لِوحداته الصّوتيّة وذلِك في هيأتها المَنطوق، أمّا في المَكتوب فيتحوّل ذلِك التّسلسُل إلى تسلسلٍ مَكانيٍّ (لا نريد التوسّع أكثر من هذا وإلاّ فتحنا بابًا لأهميّة هذا الأخير أيضً).
فنظرًا لخاصية التقطيع المزدوج للّغة هذه فمن شأنها أن تحقّق ما أسماه الوظيفيون الاقتصاد اللّغويّ، ويُعدّ أندري مارتيني (André Martinet) أشهر مَن أفصح عن تلك الخاصية وبِشهادة جورج مونان (Georges Mounin)، الّذي يعتبِر الطّابِع ذاتَه « الصّفة الّتي يَبدو أنّها تُميِّز نوعيًّا اللُّغات البشريّة عن جميع أنظِمة الإبلاغ الأخرى » . ولتدعيم مدى نسبة هذه الملاحظة إلى أ. مارتيني نفضِّل الاستشهاد بنصٍّ تابعٍ له حصلنا عليه من كتاب البنويّة والماركسيّة حيث يزعم أنّه الأب الشرعيّ لها، فيقول: « وبعد هذا [ نموذج يلمسلف التحليلي ] يوجد النموذج الذي يمكن تسميّتُه التقطيع المزدوج، الذي تروني مضطرًّا إلى ادّعاء أبوّته، بما أنّنا نجده اليوم معتمدًا في طرفٍ آخر من قبل باحثين تبنّوه من غير التنويه كما يليق بكونهم مدينين لي، هو نموذج أقلّ تناظرًا مقارنةً بنموذج يلمسلف، وربّما يُعدّ أكثر واقعيّة منه » .
وخلاصة القول فإنّ اللّغة تعدّ النظام التبليغيّ الوحيد الذي بمقدوره أن يستغني عن باقي الأنظمة وتظلّ هذه الأخيرة دائمًا في حاجة إليه سواء في حدود تعليمها أو شرحها أو ترجمتها أو ما نشاء ممّا يدلّ على عمليّة إرفاقها بنظامٍ آخر ألقي على عاتقه مهمّة التّعبير عن المعنى ذاته الذي يكون ذلك النظام التبليغيّ الذي ألحِقت به اللّغة قد أدّاه بطريقة نمطيّة تفتقر إلى التنويع.
3.2.2 - تطوُّر حاجات التّبليغ:
إنّ مِن أدوار المدرسة هو أن تعلِّم التلميذ أنّ المعرفة متيسِّرة، لكن عليها أن تفتح شهيّته لطلب المزيد منها، وإذا نظرنا إلى هذا الشعار من زاوية لسانية نجد أنّ الحفاظ على تعليم اللّغة هو متطلَّبٌ تفرضه الحاجة المتزايدة إلى إيصال تلك المعارف إلى أذهان التلاميذ لأنه لا ينبغي أبدًا أن يفوت عقول المعلّمين أنّ « اللُّغة تَتطوّر مع تطوُّر حاجات التّبليغ داخِلَ الجماعة الّتي تَستعمِل هذه اللُّغة. وطبيعيٌّ أن يَرتبِطَ تطوُّر هذه الحاجات بِعلاقة مُباشِرة مع تَطوُّر الجماعة على صعيد الفِكر والمُجتمع والاقتِصاد. ويَبدو هذا الأمر جليًّا في تَطوُّر المُفردات اللُّغويّة، إذ أنّ ظُهورَ سِلعٍ استِهلاكيّة جديدة يُؤدِّي إلى ظُهور تَسميّاتٍ جديدة، والتّقسيم المُتنامي لِلعملِ يَجلِبُ بِدوره أيضًا تَعابيرَ جديدةً تُوازي الوظائفَ المُستجدّة والتِّقنيّات المُستحدثة » .
يُستفاد من هذا العامِل بُعدٌ مِن المؤسِف جدًّا أن يتناساه المعلمّ وهو تطوّر اللّغة، فالأولى له أن يعمد إلى طريقة في الشّرح وتقديم المعلومات يُرفِق فيها تحسيس التلاميذ بهذه الحقيقة، وأحسن طريقة لنيل ذلك تكمن في الاستدامة على المطالعة فليكنْ قدوة ونموذجًا محتمَلاً هو في حدّ ذاته.
3.2 - اللّغة تجسِّد تصوّر الفرد للعالَم:
1.3.2 -اللّغة وتمفصُل الواقع:
ليست اللّغة مجرّد تشكيل علاماتي لمقاطع صوتية، تكونت كنظامٍ اصطلاحيٍّ توصَف به الأشياءُ مِن حولنا كما يحلو لذلك النّظام فحسب، إنّ كلَّ لغة تعكس نظامًا داخليًّا لبنياتها، يتميّز بتركيب خاصّ ويُستمدّ من مصدريْن: تكوينها الذاتي بقواعدها، والواقع الذي تتعاطى معه بإفرازاته. فهي تضع صوّرًا منتظمة لهذا الواقِع بأدواتها وحجم لسانها، وتبنيه على طريقتها وفقًا لعبقريّتها؛ وهي بالتّالي تستقطب منه العناصر اللاّزمة الخاصّة بها . ثمّ إنّ الوصف الذي يقع قسطٌ منه على حركاتنا وأفعالنا وأحاسيسنا لا يقع بحياد بارد، بل أكثر من ذلك لا تمثِّل اللّغة تلك الأبجدية التي طاب للكنعانيين مثلاً أن يختزلوا بها الكتابة الهيروغليفية منذ أبعد العهود، كما أنّ كلماتها التي تتشكل منها الرموز الأبجدية التي نظنّها مجردة إلى حدٍّ ما، يستحيل أن يتمّ تفكيكها ـ مهما يكن نوعُه ـ خارج سياق منشئها ودلالتها، وإن حدث في ظروفٍ تعليميّة وترجميّة فيلاقي أصحابُه مشكلاتٍ ترتبط مباشرة بطبيعة هذا الواقِع اللّغويّ الذي نريد أن نفصح عنه.
اللّغة كما يرى علماء الدراسات الاثنولوجية اللّغوية أداة تستعير من الواقِع تصوّراتها؛ والعالَم الواقعيّ نفسه يتَمفْصل حسب تصور مستعمليها وتفاوت نظراتهم إليه، وتتكون عبر استخدامها لشبكة تعبير يقوم على تصور خاص للعالم . وتوجد تصوّرات مختلفة للعالم بقدر تواجد اللّغات وتنوّعها.
فاللّغة تختزن تجربتنا مع العالم، تصوِّر كيف أدركناه، وكيف أوقعنا الأسماء على المسميات، وكيف صنفناها وبنينا الدلالات، وكيف ربطنا بين الدلالات في شبكات، وكيف ربطنا بين الشبكات الدلالية في أنساق من المفاهيم والتصورات. ولذلك تُعد لغة الأمّ جزءا من كيان الذات، ومكونا من أهم مكونات الهوية، لا يمكن تعويضها بغيرها من اللغات.
وهذا قد تأمّل فيه جلُّ اللّسانيين، كلٌّ من الزاوية التي تعنيه، فهذا أندري مارتيني يستبصر منها ويجعلها في مستهلِّ مبادئه في اللّسانيات العامّة يورِد جورج مونان كلامًا وإن كان في مضمار مناقشته لموضوع الصعوبات التي تحول دون سهولة عمليّة الترجمة ـ كما أسلفنا ـ فلا « في الواقِع ليست اللّغات عبارة عن قائمة من الكلمات تطابق الواقِعَ نفسها دائمًا والمعطيات المسبقة [...] وتصيغ اللّسانياتُ هذه الملاحظة بقولها إنّ اللّغات ليست نُقولاً حرفيّة عالميّة لواقِعٍ عالميٍّ، ولكن كلَّ لغةٍ تطابِق مجوعةً خاصّةً لمعطيات التجربة الإنسانيّة ـ فكلُّ لغةٍ تحلِّل التجربة غير اللّغويّة بطريقتها الخاصّة، حيث تقول الإنجليزيّة to rum out فإنّ الفرنسيّة تقول sortir en courant؛ وهذا ربّما هو الشيء نفسه. ولكنّه نظرة (بصورة اعتباطيّة) لطريقة أخرى، حيث تقول الفرنسيّة prendre un bain، فإنّ الإيطالية تقول fare il bagno؛ قارِن كذلك of course ﺒ naturellement الخ » .
2.3.2 - اللّغة تعبيرٌ شخصيّ:
ثم إنّ اللغة تعبير عن مفهومنا الشخصي للعالم، للذات، وللآخر، وهي حامل معرفي يصلنا بما قبلنا، ودعامة تنسج شخوصنا وطباعنا ورؤيتنا وسلوكنا بما تحمله من تأثير إيمائي لحركة الشعور والانفعال والغايات، ومن خلال اللغة تمتص دون وعي منا آراءنا ومواقفنا من الحياة وتفاصيلها وعلاقاتها. وعلى سبيل المثال: حين نقرأ رواية أو قصة فإننا نعيش انفعالات شخوصها ونتأثر بأحداثها فنكره أو نحب، نفرح أو نحزن، نقف مع هذا ضد ذاك ونناصر تلك الشخصية ونعادي غيرها. ويحدث أيضا أن نتبنى موقفا أو سلوكا لإحدى الشخصيات ونمارسه في حياتنا الواقعية، كما لو أنه موقفنا أو سلوكنا الشخصي، وهذه الحالات التي نمر بها أثناء القراءة تتباين بين القوة والضعف، والانحياز أو الحياد، وفق روح اللغة ومفرداتها وتراكيبها، وأسلوب صياغتها الذي سبك بها الكاتب روايته. فالعلاقة بين الصياغة والموضوع علاقة وشيجة وحقيقية، لا ندركها بسهولة في علاقتنا العابرة باللغة والقراءة.
والإنسان عامة حين يستخدم اللغة كوسيلة تعبير وتفكير، لا يولي كثيرًا من الاهتمام لحركة الكلمة وإيحائها، وما يتولد عن علاقة الكلمات والأدوات ببعضها من تأثير انفعالي. اذ يسلم عادة بحكم التلقين والتداول، وثبات المصطلح والدلالة، ويتجاهل التأثير الإيمائي للفة في اهتمامه بالموضوع. ودون أن يتساءل عما إذا كانت الكلمات والأساليب تخدم غاياته وتصوراته ومبادئه، هذا ما نلاحظه في حياتنا الثقافية العامة، حين نجد شخصا يقول بأمر ويفعل غيره. أو يستخدم في كتابته صيفا وأساليب لغوية وهو لا يقصد معناها بدقة، وقد تتعارض مع مقصده أو تربكه. وفي حضارات نظرية في اغلبها وميتافيزيقية في رؤاها وموقفها من الوجود والكون والتبدّلات. تصاغ قيم هذه الحضارات وروحها، في لغة وأساليب لغوية، تحمل في صياغتها وظائفها الاجتماعية وقيمها وايديولوجيتها، التي تسعي إلى ترسيخها بواسطة النقل والتلقين والحفظ والثبات والتداول، لذا نلاحظ أن كل حركة تغيير في مجتمع ما تسعي إلى محاولة تغيير في بنية اللغة وعلاقاتها الداخلية.