الإيقاع.. والنص الأدبي
عمار الزريقي
هل العمل الأدبي هو رصُّ ألفاظ فقط؟ فالإجابة بالطبع: لا لأن العمل الأدبي ليس سجلاً اعتباطياً للمفردات، وأحجار بناء العمل تنتظم في نمط ثابت هو الوسيط الأدبي، مثله مثل السلم الموسيقي، فهو لايتكون من الأنغام ، لامتناهية العدد، بل من أنغام مرتبة بطريقة منتظمة تبعاً لمدى انخفاضها وارتفاعها، ولاوجود لها في خبرتنا اليومية، وذلك الوسيط الأدبي يجمع بين العناصر اللغوية والحسية، وبين الترتيب الشكلي تبعاً لنمط معين في مواضع فنية أو جنس أدبي تتحقق فيها قيم رمزية.
إذاً الإيقاع له حيزه الكبير في العمل الأدبي، بل هو السبيل الذي يستند إليه الشاعر في حركة المعنى، وموسيقى الشعر ليست الوزن فقط، وإنما الموسيقى الحقة هي موسيقى العواطف والخواطر، تلك التي تتواءم مع موضوع الشعر، وتتكيف معه، لأنه زمن لحركة اللحن، بحيث يتناوب خلال هذه الحركة عنصر التأكيد المتوتر وعنصر إطلاق هذا التوتر، ولذلك يحتاج التذوق للموسيقى كما يقال..
فالإيقاع هو التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها فهو أيضاً يُصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع هذا من الداخل، وهذا من الخارج.. فالإيقاع يلون كل قصيدة بلونٍ خاص، فالأقرب لطبيعة الشعر أن يكون إيقاعياً، لا وزنياً، أما العروض فلا يفرق بين الفتح أو الضم أو الكسر وهذا مانلاحظه في كثير من القصائد العربية، وهو الإيقاع المشبوب بالعاطفة الانسانية، وأبرز مثال على ذلك قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي، وإن كان هناك خروج في الوزن العروضي للقصيدة، إلا أن القصيدة تظل إيقاعاً شفافاً وخاصاً للشاعرية المشبوبة بالعاطفة والانفعال المنتظم بالتعاقب، لذا نجد من القدماء من يرى أن دراسة الأوزان الشعرية وهي مهمة العروض والموسيقى على السواء.
فالجاحظ أكد أن وزن الشعر من جنس وزن الغناء، وكتاب العروض من كتاب الموسيقى، وهو من كتاب حد النفوس، تحده الألسنة بحد مقنع، وقد يُعرف بالهاجس كما يعرف بالإحصاء والوزن..
وربما عبارات الجاحظ هذه تلمح وحدة الأساس النظري في عروض الخليل والموسيقى على السواء، كما تؤكد الصلة بين العلمين.
ولكن هناك من يزعم بأن القصيدة العمودية، إيقاعها متجلٍ في صورة التفعيلة الموسيقية، المتكررة في كل بيت، وهذا لاخلاف عليه لكن القصيدة الحداثية إيقاعها يكمن في وزن التفعيلة، وقصيدة النثر نجد إيقاعها في داخل الكلمة، وهذا مايجعلنا نراجع كثيراً من الدواوين والقصائد المتناثرة هنا وهناك تحت يافطة قصيدة النثر أو النثيرة أو الأقصودة، التي لانجد فيها إيقاعاً لافي الكلمات ولا الحروف، فالإيقاع كما رأينا هو التفاعل ، الشعور، الاحساس، تصاعد الزمن أو هبوطه، مع خلجات الشاعر، وإن بحثنا عن هذا المعنى قد لانجده حتى ولو في بطن الشاعر كما يقولون.
الشاعر الحداثي وإن كانت له بطن بالفعل تستوعب هضم الإيقاع والتعبير عنه ذلك الإيقاع الذي يجمع بين العناصر اللغوية والحسية، وبين الترتيب الشكلي تبعاً لنمط معين في مواضع فنية أو جنس أدبي تتحقق فيهما قيم رمزية, فلكي توجد أيه قصة مثلاً، لابد من وجود تصورات مشتركة بين السامع والراوي، وهي عموميات تعبيرية تفسر عناصر القصة المتنافرة، أي لابد من لغة شائعة وسياق مشترك لفهم الحبكة، ومنطق بنائي معين بمثابة الأرضية التي تمضي فوقها الأجزاء المتفرقة المتتابعة، وأرى بأن هذه الأرضية هي التي تفتقدها القصيدة النثرية، وهو مايسمى بالنسق البنائي، بالإضافة إلى وسائل تشكيلية هي تصب بنوع أو بآخر في عملية الإيقاع وتشكيل الكلمات مثل: عودة أحد العناصر بعد تطوير مسار العمل وتوسيعه في تقابل مع العناصر الأخرى، ويعطي توقع مجيء ذلك العنصر إحساساً بالترقب والإلحاح مثل السياق الجديد الذي تعود إليه صورة شعرية سابقة أو جزء البيت ومكانه في القصيدة حيثما يتكرر تكراراً بسيطاً..
ـ تغير الصورة أو أحد أجزاء البيت حينما يتكرر الورود في السياق الجديد، فاللازمة المتكررة تتغير في الأقصوصة الشعرية في سياق متغير.
ـ تنظيم مايسمى باللوحة الأدبية وذلك من خلق الإيقاع نفسه بتوزيع التأكيد في تدرج لمراتب الأهمية، باعتبار أن هناك عنصراً في مركز العمل أو باعتبار أن هناك توازناً بين العناصر يتحقق بالتضاد بين عناصر متباينة.
إذاً مادة العمل الأدبي هي الكلمات لكنها الطريقة، أي لاتهمنا ماتقدمه الكلمات من تقرير لفظي، إنما الطريقة التي يصنع بها ذلك التقرير، وتتضمن تلك الطريقة الصوت والإيقاع، وحالة تداعي الكلمات، والسياقات الطويلة، أو القصيرة للأفكار، وغنى الصور التي تحتويها، مع التوقف المفاجئ للخيال بواسطة الواقعة الخالصة، أو توقف واقعة مألوفة بواسطة خيال مباغت، وتعليق المعنى اللفظي بواسطة التباس يطول ثم يحل بواسطة كلمة- هي بمثابة مفتاح- طال انتظارها وبناء الإيقاع وهيكله الموحد الشامل«ستولنيتز».
ومن هنا نعرف بأن كل هذا هو الفاعلية التي تنتقل إلى المتلقي ذي الحساسية المرهفة الشعور بوجود حركة داخلية تمنح التتابع الحركي وحدة نغمية عميقة.
المراجع:
٭ مفهوم الشعر«دراسة في التراث النقدي» د/جابر عصفور.
٭ثقافة وفنون«الإيقاع بوصفه معطى شعرياً» قراءة في قصيدة النثر، كريم حسن اللامي.
٭ التفضيل الجمالي:«دراسة في سيكولوجية التذوق الفني»
دكتور شاكر عبدالحميد.