ثانوية محمد الخامس التأهيلي
كلميمة د. يوسف تغزاوي
تفسير نظرية النحو الوظيفي لأنماط التواصل اللغوي
1- مفهوم التواصل اللغوي عند سيمون ديك :
إن التواصل اللغوي عند سيمون ديك (1989، ص: 8-9)، هو التفاعل اللغوي الذي يقوم بين المتكلم والمخاطب. ويتم بتغيير المعلومات التداولية قصد تحقيق مقاصد معينة. إذ كلما تغيرت المعلومات التداولية عند أخذ الكلمة من أحد الطرفين إلا واكتسبت دورة الكلام التفاعل اللغوي. وقد قسم ديك في أحد مقالاته المعلومات التداولية إلى ثلاثة أصناف وهي :
المعلومات العامة، والمعلومات المقامية (الحالية)، والمعلومات السياقية.
ولكي يتم التواصل اللغوي الناجح بين المتكلم والمخاطب. يتطلب الأمر إحداث تغيير في المعلومات التداولية بينهما وضرورة المعرفة المشتركة بين المتكلم والمخاطب لأنها القاسم المشترك إحداث التواصل اللغوي. وينقسم عموماً إلى قسمين هما :
* التواصل اللفظي أي التفاعل اللغوي الذي يتم بين المتكلم والمخاطب بواسطة اللغة. وقد يكون خطاباً منطوقاً أو مكتوباً حواراً أو محاضرة.
* التواصل غير اللفظي أي التفاعل الحاصل بين المتكلم والمخاطب بواسطة عوامل غير لفظية وتكتسي جانباً مهما في التواصل اللغوي المتمثلة في حركات الجسد والتعبيرات الوجهية والمظاهر الخارجية والإشارات الجسدية المصاحبة للكلام أثناء التواصل اللغوي. وتتمثل الأشكال التواصلية غير اللفظية التي تفسرها نظرية النحو الوظيفي فيما يلي :
+ الإشارات الجسدية المصاحبة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
+ المسافة الفاصلة بين المتكلم والمخاطب.
+ الإيقاعات الصوتية المصاحبة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
ويمكن أن نمثل لأنماط الواصل اللغوي وغير اللغوي على النحو الآتي :
* التواصل : التواصل اللغوي : يشتمل التواصل اللفظي : (باللغة)؛ منطوقة أو مكتوبة.
* والتواصل غير اللفظي : حركات الجسد (Kinésies) : الإشارات الجسدية – الإيقاعات الصوتية – المسافة الفاصلة بين المتكلم والمخاطب.
* التواصل غير اللغوي : التواصل الإشاري – التواصل بالصور – التواصل بالموسيقى – التواصل بالرقص.
وانطلاقاً مما سبق؛ يتضح أن التواصل اللفظي وغير اللفظي متلازمان في التواصل اللغوي. وتنقسم الإشارات الجسدية التي يستعملها المتكلم أثناء التواصل اللغوي مع غيره إلى الأصناف التالية :
* الإشارات الجسدية الموضحة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
* الإشارات الجسدية المؤكدة للكلام أثناء إقامة التواصل اللغوي.
* الإشارات الجسدية المفسرة للكلام أثناء التواصل اللغوي.
2- مكونـــات القــــدرة التواصليــــــة :
لقد افترض سيمون ديك (1989، ص : 3 – 4)، عدداً من الطاقات المكونة للقدرة في إطار مشروع علمي محدد يستهدف إقامة نموذج تمثيلي لمستعمل اللغة الطبيعية. وتتمثل الطاقات المفترضة في خمس طاقات على الأقل وهي :
1- الطاقة اللغوية المسؤولة عن إنتاج وتأويل العبارات اللغوية.
2- الطاقة المعرفية المسؤولة عن تخزين المعلومات وتنظيمها.
3- الطاقة المنطقية المسؤولة عن استخلاص معلومات جديدة من معلومات معطاة.
4- الطاقة الإدراكية المسؤولة عن إدراك المحيط واكتساب المدركات واستعمالها.
5- الطاقة الاجتماعية المسؤولة عن مراعاة الأوضاع الاجتماعية لكل من المتكلم والمخاطب أثناء التواصل اللغوي بينهما.
3- الطاقات المفترضة في نموذج مستعملي اللغة الطبيعية :
لا يتوقف التواصل اللغوي بين المخلوقات البشرية على المعرفة اللغوية فحسب؛ بل يتطلب على الأقل خمس طاقات. وقد حددها ديك (1989، ص : 3- 4) ثم أحمد المتوكل (1995، ص : 26) و(2001، ص : 23) و(2003، ص : 22) علاوة على البوشيخي (1998، ص : 102) حيث سعى كل واحد من هؤلاء إلى إثبات وإقرار الطاقات الست التالية : الطاقة اللغوية والطاقة المعرفية والطاقة المنطقية والطاقة الإدراكية والطاقة الاجتماعية والطاقة التخيلية. فما المقصود بهذه الطاقات؟
1- الطاقة اللغوية : تمكن مستعملي اللغة الطبيعية من إنتاج وتأويل العبارات اللغوية إنتاجاً وتأويلاً سليمين. مهما اتسمت به هذه العبارات من تعقيد بنيوي وأيا كانت الأوضاع التواصلية التي يتم فيها إنتاجها. واستجابة لهذا المطلب يتألف النحو الوظيفي من نموذجين هما :
* نموذج الإنتاج : ويتمثل في الطريقة التي يتبعها المتكلم لإنتاج الكلام انطلاقاً من المعاني المراد إبلاغها (بنية تحتية) حتى تحققها الصوتي (بنية سطحية).
* نموذج التأويل : ويتمثل في الطريقة التي يتبعها المستمع في تأويل الكلام انطلاقاً من الأصوات التي يستقبلها إلى غاية الحصول على المعاني المراد إبلاغها.
2- الطاقة المعرفية : تمكن مستعملي اللغة من بناء قاعدة معرفية منظمة واستعمالها عن طريق صياغة معارفه في صور لغوية مناسبة وإغنائها عن طريق استخلاص المعلومات من العبارات اللغوية التي يستقبلها. ولتبيان مكونات هذه القاعدة المعرفية قسم ديك المعارف (1986) إلى قسمين هما :
* معارف واسعة : تشمل المعرفة اللغوية وتتمثل في المعارف المعجمية والنحوية والتداولية؛ ثم المعرفة غير اللغوية وتتحكم في معرفة العالم الخارجي والعوالم الممكنة وتتمثل في معارف غير إحالية وعرضية وعامة.
* معارف ضيقة : تنقسم إلى معارف ضيقة حالية والمعرفة النصية وتتكون من معرفة المخاطب بالذوات التي تحيل عليها الوحدات اللغوية في النص وفي معرفته بالوقائع، والقواعد المشار إليها في النص ذاته. وتعد الطاقة المعرفية من أهم الطاقات إذ بتدميرها سيبقى الإنسان عاجزاً عن التواصل اللغوي مع غيره بصورة طبيعية، لأنه سيكون في حاجة ماسة إلى المعلومات اللغوية وغير اللغوية، كما أن هذه الطاقة لا تقتصر على تخزين المعلومات فقط، ولكنها تغتني أيضاً بالمعلومات الجديدة المستخلصة من المعلومات القديمة.
3- الطاقة المنطقية : الطاقة المسؤولة عن استخلاص معلومات جديدة من معلومات قديمة عن طريق إجراء قواعد تحكمها مبادئ المنطق الاستنباطي والمنطق الاحتمالي.
4- الطاقة الإدراكية : تمكن مستعملي اللغة الطبيعية من إدراك العالم الخارجي بوسائل الإدراك البشرية من سمع وبصر ولمس وشم وذوق. وأن يكتسب بفعل إدراكه ذلك معارف يستعملها في إنتاج العبارات اللغوية وتأويلها. وبفضل هذه الطاقة أيضاً تصبح حركات الجسد مصدراً غنياً بالمعلومات. وتسند إليها دلالتها المناسبة تبعاً لسياق ورودها. كما تعمل المعلومات الإدراكية على تعويض العبارة اللغوية كلياً، أو إتمامها جزئياً أو إضفاء معنى جديد قد يخالف معناها الحرفي.
ولكي تتضح الطاقة الإدراكية ومدى مسؤولياتها في إنتاج وتأويل الإشارات الجسدية المصاحبة للكلام أثناء التواصل اللغوي، لنتأمل الأمثلة التالية :
قد يستفسر أستاذ اللغة العربية أستاذ اللغة الفرنسية عن نتائج السنة الدراسية قائلاً :
1- كيف كانت نتائج هذه السنة الدراسية على العموم؟
وقد يعمد الأستاذ إلى إجابة السائل، منهمكاً في قراءة الجريدة إلى :
(أ)- رفع اليد اليمنى نحو الصدر وإدارة عظم الساعد في اتجاهين معاكسين على شكل أنصاف دوائر.
(ب)- رفع إبهام اليد اليمنى مشيراً به وثني الأصابع الأخرى.
(ج)- رفع الحاجبين مع إدارة الرأس عدة مرات.
وبفضل الطاقة الإدراكية يتمكن المخاطب من فهم وتأويل إشارات المتكلم تأويلاً صحيحاً، فيفهم من (2) (أ) و(ب) و(ج) :
(أ)- كانت نتائج هذه السنة الدراسية على العموم متوسطة.
(ب)- كانت نتائج هذه السنة الدراسية على العموم جيدة.
(ج)- كانت نتائج هذه السنة الدراسية على العموم كارثية.
وقد يتوخى الأستاذ التوضيح في الأسلاك التعليمية، ويضطر إلى استعمال بعض الإشارات الجسدية لإقامة التواصل اللغوي، ولعل الحوار التالي يوضح المراد :
- الأستاذ : كم عدد فصول السنة؟
- التلميذ : عدد فصول السنة أربعة (رافعاً أربعة أصابع إلى الأعلى).
وقد يعمد التلميذ إلى قول :
(أ)- عدد فصول السنة أربعة.
(ب)- مشيراً (رافعاً السبابة في الشتاء والخنصر في الخريف والبنصر في الربيع والإصبع في الصيف).
وبفضل الطاقة الإدراكية يتمكن المخاطب من تأويل إشارات المتكلم تأويلاً صحيحاً فيفهم أن (أ) موضحة (ب)، إذ كلما رفع إصبعاً من الأصابع الأربعة وضح فصلاً معيناً من فصول السنة وهكذا دواليك.
وفي ما يخص المسافة الفاصلة بين المتكلم والمخاطب، فلنتأمل المشهد المسرحي الآتي : لعبد الكريم برشيد (1999، ص : 140) امرؤ القيس في باريس.
(أ)- مريم : لم أكن أعرف أن الأمر بهاته الخطورة.
- الحارس ، ولكنك تظهرين فتاة ذكية؟ يهمس في أذنيها.
يمكن أن نتفاهم...
- مريم : ماذا تريد أن تقول؟
- الحارس : يجذبها قليلاً تعالي أشرح لك (يهمس في أذنيها).
طبقاً للقالب الإدراكي يتضح من هذا المشهد أنه تم إنتاج إشارة تصاحب قول مريم (بهاته الخطورة) فهو دائماً يكون مصحوباً بإشارة تحيل على الخطورة نفسها، وبفضل القالب الإدراكي تم تأويل الإشارة بما تحيل عليه، ثم تم إنتاج إشارة أخرى تتعلق بالمسافة الفاصلة بين مريم والحارس عندما يقترب إليها قصد الهمس في أذنيها وهي إشارة أنتجت بفضل القالب الإدراكي وتم تأويلها طبقاً لنوعية الموضوع الذي يجمع بينهما، وهذا الموضوع جعل المسافة بينهما تتقلص إلى درجة الهمس. وفي هذه الحالة يتفاعل القالب الإدراكي مع القالب المعرفي والقالب النحوي، بالإضافة إلى ذلك، نجد الحارس ينتج إشارة تتعلق بالتواصل بالمسافة بفضل القالب الإدراكي في قوله (يجذبها قليلاً) وتستوجب دائماً نوعية العلاقة وطبيعة الموضوع وقد صاحبها عبارة (تعالي أشرح لك) التي أنتجت بتفاعل القالب المعرفي والقالب النحوي الذي استثمر هذه المعلومات قصد تأكيد فعل الإقبال والمجيء الدال على طلب فعل أمر بسرعة.
5- الطاقة الاجتماعية : تمكن مستعملي اللغة الطبيعية من إنتاج عبارات لغوية تبلغه أهدافه التواصلية أياً كان مخاطبه وأياً كان الوضع الذي يتم فيه التواصل الاجتماعي بواسطة اللغة. وبفضل هذه الطاقة يتجاوز المتكلم معرفة مضمون ما يقوله إلى معرفة الكيفية اللائقة التي يجب عليه أن ينتج قوله بها طبقاً لمقتضيات وضع مخاطبه وزمان القول ومكانه. وكلما تعطلت هذه الطاقة الاجتماعية عن العمل تعطل التواصل اللغوي، وقد افترض المتوكل (1995، ص : 23) ثلاثة قوالب فرعية تؤلف القالب الاجتماعي وهي :
* قالب العناصر الاجتماعية الثقافية الكلية.
* قالب العناصر الاجتماعية الثقافية العامة.
* قالب العناصر الاجتماعية الثقافية الخاصة.
6- الطاقة التخيلية : تمكن مستعملي اللغة الطبيعية من اختلاق صور افتراضية تنتمي إلى أحد العوالم الممكنة ومن بناء وقائع تنتمي إلى أحد العوالم الخيالية لتحقيق أهداف تواصلية محددة.
وتتفاعل كل هذه القوالب الست داخل جهاز واصف يتكون من ستة قوالب يضطلع كل قالب برصد الطاقة من الطاقات السالفة، يطلق عليه ديك (نموذج مستعملي اللغة الطبيعية) ويتألف من القالب النحوي والقالب المعرفي والقالب المنطقي والقالب الإدراكي والقالب الاجتماعي والقالب التخيلي.
4- تفاعل القالب الإدراكي مع القالب المعرفي النحوي والقالب المنطقي الاجتماعي :
أثناء إقامة التواصل اللغوي بين المتكلم والمخاطب، يوظف كل واحد منهما عند أخذ الكلمة عدة إشارات جسدية تصاحب الكلام قصد تدعيم الموقف التواصلي أو توضيحه أو تفسيره أو تأكيده. ولفهم هذه الإشارات الجسدية تستوجب نظرية النحو الوظيفي تفاعل القالب الإدراكي المسؤول عن إنتاج وتأويل التواصل غير اللفظي مع قوالب أخرى داخل نموذج مستعملي اللغة الطبيعية.
لنتأمل المشهد المسرحي الآتي : (محمد مسكين – امرأة... زغاريد، مسرحيات، ص : 152).
(أ)- الإمبراطور : هيا أيها الحاجب دع التزيين، وأقبل فالمدينة نهضت وحضر الناس (مشيراً إلى الجمهور) ويجب أن تقدمني إلى هؤلاء.
- الحاجب : (راكعاً عند قدمي الإمبراطور) المغفرة يا مولاي... المغفرة.
انطلاقاً من هذا المشهد، فإن القالب الإدراكي أنتج الإشارة المناسبة إلى الجمهور قصد تقديمه إليهم ثم إشارة مصاحبة لهذا الكلام بواسطة اليد (هؤلاء) التي تؤو لهم لما يحيل عليه هذا الضمير، وبتفاعل القالب المعرفي بمعلومات العامة من بينها خضوع الإمبراطور لسياسة القصر وخضوع الحاجب للإمبراطور احتراماً للبلاط ثم تم إنتاج إشارة الركوع التي تستوجب خضوع الحاجب للإمبراطور إجلالاً له. وبفضل تفاعل القالب الإدراكي والقالب الاجتماعي نستنتج أن هذه الإشارة تدل على الاحترام والتحية، حسب العادات والتقاليد، وبفضل القالب المنطقي تم استخلاص هذه المعلومات الجديدة لإنتاج العبارة المصاحبة للإشارة، وقد استثمر القالب النحوي هذه المعلومات لإنتاج عبارة (المغفرة يا مولاي).
خـــــــاتـــــمـــــة :
ونستخلص مما سبق، أن نظرية النحو الوظيفي تصف الملكة اللسانية لدى بني البشر ثم تفسر ظاهرة أنماط الواصل اللغوي اللفظي وغير اللفظي بواسطة نموذج خاص يتمثل في نموذج مستعملي اللغة الطبيعية، كما أن الطاقة اللغوية مسؤولة عن إنتاج وتأويل الواصل اللفظي بينما الطاقة الإدراكية مسؤولة عن إنتاج وتأويل أشكال الواصل غير اللفظي تبعاً لسياق ورودها، ومواضعة المجتمعات والثقافات.
المراجــــــــع المعتمــــدة.
- أحمد المتوكل (1995) : قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية (البنية التحتية أو التمثيل الدلالي التداولي).
- أحمد المتوكل (2001) : قضايا اللغة العربية في اللسانيات الوظيفية (بنية الخطاب من الجملة إلى النص).
- أحمد المتوكل (2003) : الوظيفية بين الكلية والنمطية.
- عز الدين البوشيخي (1998) : قدرة المتكلم التواصلية وإشكال بناء الأنحاء.
- Simon Dik (1989) : The Theory of Functional Grammar.
[u]