تعريفُ نحوِ النصِّ ، ونشأتُه
د. أنس بن محمود فجّال
هو فرع من فروع علم اللسانيات العامّة ، يدرس النص باعتباره الوحدة اللغوية الكبرى ، ويبيّن جوانب عديدة فيه ، منها : التماسك والترابط وأنواعه وأدواته ، والإحالة وأنواعها ، والسياق النصي ودور المشاركين في النص عند إنتاجه وتلقّيه ، سواء كان منطوقًا أو مكتوبًا([1]).
ونحو النصّ هو « نمطٌ من التحليل ذو وسائل بحثية مركّبة ، تمتدّ قدرتها التشخيصية إلى مستوى ما وراء الجملة ، بالإضافة إلى فحصها لعلاقة المكوّنات التركيبية داخل الجملة ( intra sentential constituents ) ، وتشمل علاقات ما وراء الجملة مستويات ذات طابع تدرّجي ، يبدأ من علاقات ما بين الجمل ( intersentential relations )، ثمّ الفقرة ( paragraph ) ، ثمّ النص ( text ) (أو الخطاب discourse )بتمامه» ([2]).
ويوصف بعلم لغة النص « العلمُ الذي يهدفُ إلى وصفِ شروطِ الاتصالِ الإنساني وقيوده ، ووصف تنظيمِها أيضًا »([3]) .
ويذهب أغلب المؤرخين لنحو النص إلى صعوبة نسبة هذا العلم إلى عالم معيّن أو حصره ببلد أو بمدرسة أو باتجاه محدّد ، كما يصعب التأريخ له بسنة معيّنة ، ولكنّهم يرون أنّ ملامحه المميّزة ظهرت في العقد الثامن من القرن العشرين ([4]) ؛ إذ شهدت الدراسات اللسانية في تلك المدة توجّهًا نحو الاهتمام بقضايا النصّ واتخاذه موضوعًا للدراسة([5]) .
وبما أنّ الدراسات اللسانية التقليدية تتخذ الجملة وحدةً لغوية كبرى للتحليل ، فإنّ من أغرقوا في البحث في بدايات الاهتمام بالنصّ أخذوا يلتمسون إشارات – أوردها بعض الباحثين تفتح المجال لتجاوز الجملة ولا تشترط الوقوف عندها – ليعدّوها بدايات أوّلية لنحو النص .
ولذلك فقد أشير سنة 1887 م إلى عمل مبكّر لفايل ( H. Weil ) ، علّق فيه تتابع اللفظ على تتابع الأفكار ، وفصل هذا التتابع عن النحو ، وقدّم من خلال ذلك المعايير الوظيفية للجملة ، كما أشير إلى فصل من أطروحة باحثة أمريكية اسمها ( I. Nye ) تناولت فيه الربط بين الجمل وعلاقتها الداخلية على أسس نصيّة ، وكان ذلك سنة 1912م ([6])، وعُدّت إشارة هيلمسليف ( Hjelmslev ) إلى ظاهرة التناسق والترابط وشبه الاعتراف بوجود النص كيانًا لغويًّا محطةً أخرى من محطات نحو النص ([7]).
ولكنّ محاولات زيليج هاريس ( Zellig Harris ) لنقل المناهج البنيوية التوزيعية في التحليل وإقامة الأقسام إلى مستوى النصّ وربط النص بسياقه الاجتماعي تعدّ في نظر أغلب الباحثين البدايات الفعلية في نحو النص ، وكان ذلك في بحث نشره سنة 1952 م بعنوان ( تحليل الخطاب ) ( Discourse Analysis )([8]) .
ويجدر بنا أن ننبّه إلى أنّ أحد البلاغيين العرب المحدثين قد فطن إلى هذه الأسباب سنة 1931 م ، ودعا إلى تجاوز مستوى الجملة إلى ما وراء الجملة في الفقرة والنص([9]) ، يقول أمين الخولي : « أمّا وراء بحث الجملة فلا تجد شيئًا ، بل تجد أنّ الأبحاث التي كان المرجو لها أن تتجاوز الجملة قد وردت إليها ، وأُلزمت حدودها فقط ، فالبحث في الإيجاز والإطناب والمساواة مثلًا كان يصحّ فيه النظر إلى غرض الأديب كلّه ، وكيف تناوله ، وهل أسهب في ذلك أم أوجز.. ، لكنّهم لم ينظروا من ذلك إلّا إلى الجملة أو ما هو كالجملة ، وراحوا يفاضلون بين جملة « القتل أنفى للقتل » ، وجملة « في القصاص حياة » (كذا) بعدد حروفهما ، فهذا التضييق في دائرة البلاغة أَثَرُ تسويتها بالاستدلال ، ورجعها إلى المنطق وأخذها بنظامه بعدما اشتدّت الصلة بينهما وزاد عليها ضغطه ... ، إنّنا اليوم نمدُّ البحث بعد الجملة إلى الفقرة الأدبيّة ، ثمّ إلى القطعة الكاملة من الشعر أو النثر ، ننظر إليها نظرتنا إلى كلّ متماسك ، وهيكل متواصل الأجزاء ، نقدّر تناسقه وجمال أجزائه ، وحسن ائتلافه...»([10]).
فهذه دعوة قيمة ومبكرة جدًا ، وقد كانت حَرِيَّةً – لو وجدت من يتابعها – أن تُحدِث ثورةً في الدرس اللساني والبلاغي في العربية ، تنتقل به من نحو الجملة إلى نحو النص([11]) ، وتبدو هذه الرؤية ناضجة ، وصاحبها يُشخّص أسباب ضيق مجال الدراسة اللغوية وعدم إتيانها بشيء ذي بال قياسًا على ما يتوقع من توسيع دائرة البحث ، ولكنها ذهبت أدراج الرياح ([12]).
وما تشترك فيه هذه الدعوات والمحاولات – بغض النظر عن أصحابها – هو أنّ نحو النص كان إفرازًا حتميًّا لمجموعة من التحوّلات المعرفية والمنهجية التي جدّت في نظرية اللغة وأصولها ومستوياتها ووظائفها ، والفلسفة العلمية الكامنة وراءها ، وقد بدأ هذا الإفراز يتشكّل منهجيًّا مع الدراسات التي توغّلت في التنظيم الداخلي للنصوص ، ولا سيّما محاولات هارفج ( Harweg ) وإيزنبرغ ( Isenperg ) ورقية حسن التي ظهرت سنة 1968 م .
إذ حاول الأوّل وصف التنظيم الداخلي للنص من خلال الحديث عن بعض العلاقات فيه ، مثل : علاقة الإحالة والاستبدال والتكرار والترادف والعطف والترتيب .
واعتنى الثاني بالبحث في العوامل المتحكّمة في اختيار صاحب النص ، وعلاقة المجاورة بين الجمل . وجعلت الثالثة بحثها الموسوم بـ( علاقات التماسك النحوية في الإنجليزية المكتوبة والمنطوقة ) منصبًّا على كشف علاقات الاتساق في داخل النصوص ، ومعرفة القواعد النحوية التي تنظم النص([13]) .
وبعد ذلك تسارعت الأبحاث في هذا الإطار ، ونشر هاليداي ( Halliday ) بحثًا عدّ فيه النصّ والسياق وجهين لعملة واحدة ، وأنّ فهم اللغة يستوجب فهم الكيفية التي تعمل بها النصوص ، وبيّن أثر سياق الموقف في بناء النصّ([14]) ، كما نشر فان دايك ( Van Dijk ) كتابَا بعنوان : بعض مظاهر نحو النص (Some Aspects of Text Grammar ) سنة 1972 م ، اعترض فيه على النحو التقليدي ، ودعا إلى اتباع طرق جديدة في تحليل النصّ والتعامل مع النص على أنّه بنية كبرى ، ومحاولة تحديد القواعد التي تحكم بنية المعنى الكلي للنص([15]) .
وظهر في سنة 1976م كتابٌ مشترك لهاليداي ورقية حسن شكّل أوّل دراسة نصيّة متكاملة ، بعنوان : الاتساق في الإنجليزية ( Cohesion in English ) عالج فيه مؤلِّفاهُ مفاهيمَ مثل : النص ، والنصيّة ، والاتساق ، وبحثا مظاهر الاتساق مثل : الإحالة والاستبدال والحذف والوصل والاتساق المعجمي ([16])، واعتبرا الاتساق جزءًا من مفهوم اللغة ، ومفهومًا دلاليًّا قوامه العلاقات المعنوية الموجودة في النصّ ، وهو في الآن نفسه ما يكون به النصّ نصًّا .
وبعد ذلك بعام ، أعاد فان دايك صياغة ما تجمّع له من آراء العلماء المتفرّقة ، ونشرَ كتابًا بعنوان : النصّ والسّياق ( Text and Context ) ، ركّز فيه على الظواهر الدلالية والتداولية ، وبحث في مفاهيم الترابط والاتساق ومحلل الخطاب ، والعلاقات بين دلالية الخطاب وتداوليته ([17]). وقد عدّه بعضُهم موسِّسَ علم اللغة النصي الذي انبثق منه نحوُ النصّ([18]).
ثمّ جاء كتاب ( النصّ والخطاب والإجراء ) لدي بوجراند سنة 1980 م ، يمثِّلُ مرحلةً متقدّمة ، ويوضّح القضايا الأساسية التي عولجت بشكل أعمق وأشمل ، وأهمّ ما امتاز به هذا الكتاب أنّه بيّن أنّ الصفةَ المميزة للنص هي استعماله في الاتصال ، وأنّ الخطاب مجموعة من النصوص ذات العلاقة المشتركة ، وبيّن معايير النصية لأيّ نصٍّ ([19])، بعد أن أقام مقارنة بين النصّ والجملة([20]) .
ومن أهمّ الدراسات التي عدّها بعض الدارسين نقلة نوعيّة في نحو النصّ وتحليل الخطاب ما قدّمه براون ويول ( G. Brown & G. Yule ) بعنوان : تحليل الخطاب (Discourse Analysis ) ، ويتمثّل الفرق بين دراستهما وسائر المقاربات التي تناولت النصّ أو الخطاب في أنّهما عدّا الخطاب مادّة وموضوعًا وغاية ، وقد اختزلا وظائف اللغة في وظيفتين هما نقل المعلومات والتفاعلية ([21])، كما ركّزا اهتمامهما على المتلقّي للنص أكثر من مُنشئه ، وجعلا تأويل المتلقي للنصّ من أهمّ عوامل انسجامه ([22]).
وهذه المحاولات والدراسات – التي بحثت عن وسائل تحليل تجاوزت فيها إطار الجملة – جاءت بمفاهيم وتصوّرات جديدة ، ولكن ما يجمع بينها أنّها استندت – في القليل النصّي – بصورة متفاوتة إلى أربع مقولات جوهريّة ، هي : الاستعمال ، والتأثير ، والتفاعل ، والاتصال ([23]).
المرجع :
الإحالة وأثرها في تماسك النص في القصص القرآني ، د. أنس بن محمود فجال ، ص 45 ، رسالة دكتوراه ، جامعة صنعاء ، 2009 م .
( منقول من منتدى الإيوان اللغوي )