وهناك مثال آخر شهير عند فرويد وهو مثال الرقابة الحلمية . لقد عرضت سيدة مسنة حلمها على فرويد. وهو يتعلق بسيدة تعرض خدماتها على مستشفى عسكري. وفي الحلم مشاهد لا نريد الإفاضة هنا في وصفها، إنما نكتفي بتلك الاستعارة التي يستعين بها فرويد لكي يشير إلى القوى التي تتدخل لتحوير الحلم ويخرج في صيغة مقبولة أخلاقيا. يقول فرويد:
« فلنتمسك بهذا التشبيه. قلنا إن المقاطع المغفلة أو المموهة باللغط من خطاب السيدة صاحبة الحلم كانت هي أيضا ضحية نوع من الرقابة ونحن نتحدث مباشرة عن رقابة الحلم ونعزو إليها دورا ما في تحريف الأحلام.وكلما بدت في الحلم الظاهر فجوات، تعين إلقاء التبعة في ذلك على تدخل رقابة الحلم. بل يسعنا أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول، إنه كلما التقينا في الحلم بعنصر واهن من الضعف، ملتبس، يكتنفه الشك بينما الذكريات التي يتركها غيره من العناصر واضحة جلية متمايزة، تعين علينا أن نسلم بأن هذا العنصر قد تعرض لتأثير الرقابة لكن يندر أن تتظاهر الرقابة على ذلك النحو السافر بل الساذج- إذا جاز القول- الذي تظاهرت به في الحلم تلك السيدة. فالأغلب أن تمارس دورها بالكيفية الثانية، بأن تفرض على الفكرة الحقيقية تخفيفا وتحويرا وتلميحا»[34]
هذه مجرد أمثلة من كتاب فرويد نظرية الأحلام ولو تابعنا هذا التقصي لوجدنا هناك مقارنات أو تشبيهات واستعارات جديرة بالشعراء الكبار.فلنتذكر الحارس الليلي الذي يشبه به الرقابة النفسية وحراسة المكبوت.بل لنتذكر العالم النفسي وكيف صاغه فرويد صياغة مكانية بل معمارية .إن الأنا الأعلى يحتل الموقع الأعلى والهو المكان الوسيط بين الأنا الأعلى واللاشعور. ولنتذكر أيضا تصوره للحلم ومقارنته باللغة المكتوبة وميز فيه على غرارها بين اللفظ والمعنى والصياغة والتأويل والمعنى الظاهر والمعنى الخفي والمعنى المفرد والمعنى النصي والمعنى الحرفي والمعنى المجازي، بل ميز في الحلم بين التأكيد والاستفهام والنفي والشك الخ الخ. وعلى هذا الأساس فإن مؤول الأحلام يناظر مؤول النصوص القديمة والنصوص الدينية. بل يناظر عمل الفيلولوجيين المهتمين بتفكيك شفرات اللغة العريقة في القدم. أليست هذه المقارنة بمثابة استعارة موسعة ومعقدة. ألا يتعلق الأمر بنموذج؟ ألا يسعف هذا النموذج على فهم الكثير من مجاهل الحلم؟ وإذا كان ذلك حقا أليست الاستعارة صاحبة الفضل في هذا الفهم؟ وهل هناك طريقة أخرى لفهم هذه المجاهل. ماذا ستقدم التجريبية أو العقلانية لفهم هذه الأمور. وفي هذا الإطار نفهم عبارة ماكس مولير:
"يتعذر على اللغات الإنسانية التعبير عن أفكار مجردة بغير الاستعارة وليس كثيرا القول إن معجم الديانات القديمة يقوم كله على استعارات "[35] كما قارن أيضا بين أحلام الإنسان النمطية ولغة الأساطير، وبين الوسائل المستخدمة في الحلم. وتلك المستخدمة في" القصص والخرافات والأساطير وفي روح الهزل والفولكلور". ولاحظوا أيضا كيف كان يقارن بين النمو الذهني للفرد والنمو الذهني للإنسانية جمعاء. فيؤكد أن طفولة الإنسان تناظر طفولة الإنسانية. والواقع أنه لم يكن أمام فرويد خيار آخر وهو يتحدث عن مجال لا سبيل إلى الخوض فيه غير هذه المقارنات والاستعارات. إلا أن مثل هذه المقارنات والاستعارات يمكن أن تتخطى مجال الإنسانيات لكي تمتاد إلى مجال العلوم التجريبية. ولنشر إلى مجرد مثال واحد وهو« الذرة وكيف أنها تتكون من عناصر بروتونات النواة المشحونة إيجابا، تجذب نحوها جذبا كهربائيا كل الإليكترونات الموجودة في محيطها وتحت تاثير هذه الجاذبية فإن هذه الأخيرة تجد نفسها وهي ممسوكة بالنواة تنجذب نحوها تماما كما أن الكواكب الخاضعة للسحب الجاذبي تدور حول الشمس» [36] ومثل هذه الاستعارة مستخدمة في مجال الفيزياء وهو المجال الذي يتوهم أنه بعيد كل البعد عن مجال البلاغة. والحق ان العلوم التجريبية تضطر في كل حين إلى التزود بهذه الاستعارات لمجرد وضع اليد على الظواهر التي لا تقع تحت الحواس ولذلك فهي تفزع إلى الاستعارة لإنقاذها من المأزق، وهي تتستر بها أحيانا تحت التسمية المحترمة جدا في مجال العلوم ويتعلق الأمر بالنماذج. ويسجل بيرلمان نفسه هذه الظاهرة في مجال الفيزياء أيضا بقوله:
"يشكل التناسب بوصفه حلقة في الاستدلال الاستقرائي مرحلة في العلم حيث يستعمل كأداة للابتكار أكثر مما هو مستعمل كوسيلة برهان: فإذا كان التناسب مثمرا فإن الموضوع والتشبيه يتحولان إلى شاهدين أو مثالين لقانون أعم، بالعلاقة معه يصبح الموضوع والتشبيه متحدين. هذا التوحيد للمجالات يسوق على الإدماج في نفس الصنف العناصر التي توحد طرفي الشبيه والموضوع وتلك التي توحد أطراف الموضوع، تلك التي تصبح بالعلاقة مع هذا الصنف متبادلة ويصبح كل التباين بين الموضوع والشبيه مختفيين"[37]
إننا مع التناسب كما في الاستعارة نعدم القانون، أي الفكرة العامة الرابطة لكل من الموضوع والشبيه، ولهذا فحين تقوم القاعدة تنتفي الحاجة إلى التناسب كما تنتفي الحاجة إلى الاستعارة .وكأن العلم لا يقوم إلا بالقانون ولكن هناك مجالات إما أنها تند عن القانون أو أن الوقت لم يحن بعد لصياغة قانون .هنا يكون النموذج والتناسب والاستعارة ضرورية. ولكن رغم هذا كله فإن "الجمع بين المتنافرات في ربقة واحدة " كثيرا، حتى لا نقول دائما، ما اعتبر عن مقومات الشعر. بل إن هذا التناسب والنماذج والاستعارة هي مقومات شعرية في العلم. ولهذا نفهم العنوان الذي وضعه ريتشار بروان مفاتيح لأجل شعرية للسيسيولوجيا .ولكننا نفهم أيضا عبارة كوبْلو وهو يتحدث عن التناسب :
"إن خاصية الاستدلال الاستقرائي هي قيامها على طريقة تفكير اعتباطية: "إنها قفزة في المجهول ؛ وجسارتها هي صانعة خصبها " "هناك في كل استقراء ما يشبه التكهن بالحقيقة؛ إننا نتخيلها، نبتكرها قبل البرهنة عليها .هذه الطرق الجسورة لا تنتج إلا الافتراضات ...الافتراض هو استشراف للقانون .إن القانون نفسه صنعه الذهن بشكل اعتباطي"[38].
ومع هذا فإن كوبلو يعود لكي يؤكد :"إن التناسب هو في الأصل استدلال رياضي دقيق .إلا أنه يفقد هذه الخاصية حينما نطبقه على أشياء أخرى غير الأعداد "[39].
إننا لا نريد أن نفصل القول في التناسب والنماذج الآن .ولكننا ننبه فقط على أن محاولات إقصاء البلاغة وضمنها الاستعارة قد باءت بالفشل .ليس في مجال الحياة الإنسانية وحسب بل في مجالات العلوم التجريبية. ولهذا فإننا نلاحظ تسلل مقومات بلاغية إلى مجالات، يعتقد أنها علمية صرف.
ولأمر ما كان ماكس بلاك يقول إن كل العلوم تبدأ من الاستعارة لكي تنتهي إلى الجبر. الواقع أن هذا إذا صح بالنسبةإلى العلوم التجريبية فإن العلوم الإنسانية ستظل دوما واقفة عند حدود الاستعارة ولن تبلغ الجبر أبدا. وقبل بلاك ردد الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر شعارا مناظرا لهذا حينما قال :
"تكاد تكون كل علوم الطبيعة تجتاز مرحلة أسطورية .ففي تاريخ الفكر العلمي تتقدم الخيمياء الكيمياء، ويتقدم تنجيم الفلك"[40]
لا تكاد عبارة كاسيرر تختلف هن عبارة بلاك إلا في اعتبار البداية عند الأول هي الاستعارة، واعتبار البداية عند الثاني هي الأسطورة. ومع هذا فإن الخلاف لفظي، إذ الاستعارة ذات أرومة أسطورية .تماما كما أن الأسطورة كثيرا ما نظر إليها باعتبارها استعارة موسعة .
إن النماذج استعارا ت تنقح وتصنع لغرض التمكن من الظاهرة .يقول ريتشار براون : "إن جزءا كبيرا من العلم يعتمد على النماذج التي هي مجرد استعارات مصنوعة ومحددة [...] فالعبارات الاستعارية سواء كانت تناسبية أم كانت إيقونية يمكن تنقيحها وتحويلها إلى نماذج عندما يوضع السؤال "بأي معنى" ؟ .على سبيل المثال في العبارة الأيقونية "أمريكا ذات شرائح" نجد اللفظ المفتاح مقترضا من الجيولوجيا أو الأركيلوجيا .ومع ذلك فإن الأمر لا يتعلق بطبقات الأرض كما نجد في العبارة " طبقات طروادة ".فبوضع السؤال بأي معنى نوسع الصورة البدئية ونخصصها .ففي حالتنا توحي العبارة " أمريكا ذات شرائح " دوام التقسيمات الهرمية القائمة على الولادة والتربية والاحتلال والمدخول والامتيازات والواجبات.بأي معنى؟ فيما يتعلق بالتربية هذه التقسيمات تشبه ...الخ .
إن منطلقا شبيها بهذا يسم الاستعارات الأنالوجية من قبيل "الكنيسة هي الجنرال موتورس الدين". فإذا تسائلنا بأي معنى ، سنتلقى الجواب بمعنى أن هذه وتلك هما نتظيمان عقلانيان. وبدفع التحليل إلى الأمام سنتأكد أن هذه وتلك تقومان على قواعد إدارية وثابتة، ونظام هرمي مرسوم بوضوح، وأرشيفات وقيادات عليا الخ. ولأجل التنقيب أكثر والتنقيح سنعيد السؤال بأي معنى. وهكذا يمكن القول بأن في هذه الحالة وتلك التسويات الإدارية تقضي بأن بعض الوظائف ينبغي أن ينفذها بعض الأشخاص تبعا لقواعد محددة بدقة؛ وأن الأشخاص المهيئين لنتفيذ هذه الوظائف قد تم تعيينهم في مناصبهم تبعا لإجراءات مسطرة مسبقا، الخ ونحصل بهذا على صياغة أرقى للسابقة. لقد صغنا بهذا البعد التنظيمي الصوري. هذه الصياغة يمكن أيضا انطلاقا من مفاهيم الحجم أو نسبة الوزن الاقتصادي الذي تمثله الكنيسة والجنيرال موتورس من الجهة الأخرى وفي لحظة ما فإن تعقيد وغنى الاستعارة ستصل إلى مرتبة النموذج" [41].
هذا النزوع الاستعاري في المجالات العلمية شبيه بعمل الشعراء الذين يصوغون استعارات مبتكرة. إن فرويد مبدع شأنه شأن شيكسبير في إبداعاته الاستعارية .
[1] - نحتفظ هنا بهذا التقسيم الذي وقر في أذهان مؤرخي البلاغة الذين يعتبرون الكتاب الثالث من الخطابة هو مبحث في المحسنات وهذا الموقف ليس موضع إجماع كل المؤرخين للبلاغة.
[2] - وهو ما دعاه أرسطو -paradigma وسماه اللاتين exemplum
[3] - أرسطو، الخطابة، ص: 205
[4] - نفسه ، ص:155-156
[5] - L'empire rhétorique. P:53
[6] - traité de l'argumentation.p.p:534 - 535
[7] - traité de l'argumentation.p535
[8] - في الشعر، ترجمة الدكتور شكري عياد، ص:116
[9] - Rhétoriques p:398
[10] - نفسه، الصفحة نفسها
[11] - L'empire rhétorique. P: - 134-133
- [12] traité de l'argumentation.p:537-538
[13] - in ; Francois Chatelet,une histoire de la raison.p:83
[14] - رومان ياكوبسون ، قضايا الشعرية، ص .ص:10-11
[15]- traité de l'argumentation.p:539
[16]- Marcelo Bonati,Estructurz Literaria y metodo criticed. Catedra. Madrid p:256
[17]- Irene Tamba Mecz; Le sens Figuré. Ed. p.U.F. 1981 / J. Molino, J Tamine,F. Soublin Problemes de la métaphore. In Langages. N .54,p:26
[18]-traité de l'argumentation.p:539
[19]- الخطابة، ص.ص. 224-225
[20]- Login; Traité du Sublime. Ed. Librarie générale francaise. Paris,1995, p:85
[21]- in Jean Louis Joubert, La poésie p:85
[22]- mpire rhétorique p:52 L'e
[23]- J.Cohen, Le Haut Langage.p.p:147-148
[24]- Le haut langage p:210
[25]- traité de l'argumentation.p:542
[26]-Edmond Goblot, in , Philiberrt Secrretan, l'analogie. P.p:92
[27]-Edmod Globot, in, Philiberrt, Métaphores, modèles et analogie dans les sciences.p:85
[28]- traité de l'argumentation.p:541
[29]- mpire rhétorique pp:135-136 L'e
[30]- traité de l'argumentation.p:546
[31]- traité de l'argumentation.p: 546
[32]- سيجموند فرويد، نظرية الأحلام، دار الطليعة، بيروت، 1980. ص: 187
[33]- نفسه. ص :191
[34]- نظرية الأحلام. ص.ص :78-79
[35]- in , Ernest Cassirerr, Essai sur l'hmme, ed . minuit; paris , p:160
[36]- Jean Molino , Métaphores, modèles et analogie dans les sciences , p:86
[37]- traité de l'argumentation.p: 531-532
[38]- in, Philibert Secretan, L'analogie. P:94
[39]- Ibidem
-[40]ernest Cassirer, Essai sur l'hmme. Ed . Minuit , Minuit, Paris, 1975, p:229
[41]- Richard Brown, clefs pour une poétique de la sociologie.p:164-165
من موقع منبر الجابري