النظام اللغوي للقرآن الكريم على (المشابهة) وتعلق بعضه برقاب بعض في المستويات كافة: الدلالية والنحوية والصرفية والصوتية والبلاغية، من غير اختلاف.
قال تعالى:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراًْْ} (سورةالنساء 82).
وقال: { كتاب فصلت آياته ثم أحكمت من لدن خبير عليم} (سورةهود1).
وهذا النظام يجعل النّص القرآني نصاً مفتوحاً يحمل معنى متحركاً يوافق حركة التاريخ وتحولات الفكر الإنساني في مختلف العصور، يناسب المتغيرات الزمانية والمكانية، على الباحث تدبره والانطلاق منه في دراسة لغة القرآن الكريم (العربية) وظواهرها المختلفة، لا من مناهج معيارية ومنطقية وغربية وغيرها.
قال باحث معاصر: "إن في القرآن نظاماً محكماً شديد الصرامة، منتشراً في جميع أجزائه، بحيث ان اللفظ – مفردة كان أو حرفاً- والترتيب والتسلسل المعيَّن للألفاظ في كل تركيب هو جزء من هذا النظام، والخطأ في تصوّر شيء منه في أي موضع يؤدي إلى الخطأ في تصور فروع كثيرة متصلة بذلك الموضع"([1]). وألزم الدراسين والمفسرين بالخضوع لهذا النظام ويقصد بالخضوع "السير على ذلك النظام والتحرك على وفقه واكتشاف مسائله وطرقه"([2])، في دراساتهم القرآنية.
عني بعض الدارسين – قدامى ومعاصرين – بدراسة نظام لغة القرآن الكريم، إلا ان دراساتهم جاءت جزئية لم تتناوله تناولاً شاملاً فضلاً عن تناوله في أكثر من علم من علوم القرآن وعلوم اللغة العربية: الأصوات والصرف والنحو والبلاغة والمعجم وعلم المناسبة والتفصيل وإعجاز القرآن وعلم التفسير ولاسيما في منهج تفسير القرآن بالقرآن ذلك ان القرآن يفسّر بعضه بعضاً([3]).
و خلص علماء إعجاز القرآن إلى أن وجه الإعجاز هو في نظم القرآن واسلوبه "وطرائق نظمه، ووجوه تراكيبه، ونسق حروفه في كلماته في جمله، ونسق هذه الجمل... هو وجه الكمال اللغوي"([4]).
وقد شكلت مباحثهم في ذلك ما أطلق عليه المعاصرون بـ (الأسلوبية العربية الإسلامية) فقد تناولوا: الحروف وتآلفها، والمفردة القرآنية، ودقة اختيارها واستقرارها في موضعها من النظم القرآني، والفاصلة، والمقابلة، والتكرار، والقصة، والمثل في الأسلوب القرآني، والمباحث التي شكلت فيما بعد علم البلاغة، كالمعاني النحوية والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها.
وبحثوا: "اتساق القرآن وائتلاف حركاته وسكناته، مدّاته وغنّاته... (ما) يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم او منثور"([5])، فكان ذلك كالسور المنيع لحفظ القرآن الكريم "بحيث لو داخله شيء من كلام الناس لاعتلّ مذاقه، واختلَّ نظامه"([6]).فالقرآن الكريم كله وحدة مترابطة " من حيث قوة الموسيقى في حروفه وتآخيها في كلماته، وتلاقي الكلمات في عباراته ونظمه المحكم في رنينه... وكأنَّ المعاني مؤامنة للألفاظ، وكأنَّ الألفاظ قطِعتْ لها وسويت حسبها"([7]). ففي الحروف وطريقة نظمها وصفاتها ومخارجها أسرار ولطائفٌ ودلالاتٌ أودعها الله تعالى فيها([8]) والمفردة القرآنية "تمتاز بجمال وقعها في السمع واتساقها الكامل مع المعنى واتساع دلالتها لما تتّسع له عادة دلالات الكمال الأخرى..."([9]) و "إن كل كلمة في جملة من الكلام تدل بمفردها على معان تتساوق مع المعنى الجلي للكلام وان كل كلمة تكون بمفردها صورة بيانية تكون جزءاً من الصورة"([10]). و"كان القرآن الكريم دقيقاً في اختيار ألفاظه وانتقاء كلماته، فإذا اختار اللفظة معرفة، كان ذلك لسبب، وإذا انتقاها نكرة كان ذلك لغرض. كذلك إذا كان اللفظ مفرداً كان ذلك لمقتضى يطلبه، وإذا كان مجموعاً كان الحال يناسبه، وقد يختار الكلمة ويهمل مرادفها الذي يشترك معها في بعض الدلالة... وكل ذلك لغرض يرمي إليه في التعبير وهكذا دائماً لكل مقام مقال في التعبير القرآني"([11]).
قال الرافعي: "ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تُعبِّر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوّغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، او ما يقال فيه انه تغوّث واستراحة كما تجد من ذلك في أساليب البلغاء. بل نزّلت كلماته منازلها على ما استقرَّت عليه طبيعة البلاغة... بحيث لو نزعت كلمة منه او أزيلت عن وجهها ثم أُديرَ لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها لم يتهيأ ذلك ولا اتّسعت له اللغة بكلمة واحدة"([12]).
وتحدثوا في جماليات التناسق القرآني بين المفردات والآيات والسور القرآنية، والتناسب اللفظي والمعنوي في التركيب القرآني، وفواصله حتى يجعل منه نسيجاً واحداً أو بناء متسق الأركان والأبعاد والجماليات([13]). وتناسق الموضوعات، والنبرة اللفظية، وجرسه الفريد، وتأثيره في النفوس، والمشاهد الراقية... وغير ذلك([14]). مما تنالوه في أسلوب القرآن الذي يدل على نظام لغة القرآن وهي دراسات جلها متابعة لاقوال عبد القاهر وأصحاب كتب الإعجاز القرآني الذين كانوا يُردّون بهذه المباحث على المطاعن التي وجهت إلى أسلوب القرآن،نحو قولهم أن القرآن الكريم مختلف في مواضع كثيرة، فكرياً ودلالياً، وأن في تراكيبه خروج عن القياس المنطقي. وادعى بعضهم معارضته، وقال: ان فيه "اختلافات من حيث تناسب النظم ودرجة الفصاحة وشموله على الغث والسمين وتناقض المعنى..."([15]).
فكان تناول علماء الاعجاز المتقدمين ردَّ فعل ٍ على المطاعن والتناقض المزعومين. وليس دراسة أسلوب القرآن لذاته، لذلك جاء تناولهم جزئياً وليس شاملاً ولم يشيروا إلى كثير من العدول عن المعاييراللغوية والنحوية ( المنطقية) والظواهر النحوية والأسلوبية التي اختصّ بها النصّ القرآني بوصفه خطاباً عامّاً يحمل معنى متحركاً، يستعمل هذه العدولات على وفق نظام متماسك. فيختاروا شواهد من هنا وهناك من غير ربطها بأنظمة لغة القرآن الكريم المترابطة في داخله.
علم المناسبة:
ومن علوم القرآن التي لها صله بنظامه وأسلوبه الذي عني به بعض القدماء والمعاصرين علم المناسبات وهو "علم تعرف منه علل الترتيب، وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب مناسبته من حيث الترتيب، وثمرته الإطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ماله بما ورائه وما أمامه من الارتباط والتعلق "([16]).
والمناسبة لغة: "المقاربة والمشاكلة "ومرجعها في الآيات إلى معنى رابط بينهما عام او خاص عقلي او حسي او خيالي وغير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهني كالسَّبب والمسبب والعلة والمعلول والنظيرين والضدين ونحوها، وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء"([17]).
وعد السيوطي المناسبة الوجه الرابع من وجوه إعجاز القرآن وهو "مناسبة آياته وارتباطه بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني"، "وأكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"([18]).
قال الزركشي: "وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السور قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى كافتتاح سورة الأنعام بالحمد فانه مناسب لختام سورة المائدة في فصل القضاء كما قال سبحانه: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} (سورةالزمر 75). وكافتتاح سورة فاطر بـ (الحمد) أيضاً، فانه مناسب لختام ما قبلها من قوله تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِلَ باشياعهم من قبل} (سورةسبأ 54) وكما قال تعالى: {فقطِعَ دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (سورةالأنعام 45). وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح فانه مناسب لختام سورة الواقعة من الأمر به، وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: {آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه} (سورةالبقرة 1، 2) إشارة إلى الصراط في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم} (فاتحة الكتاب 5) كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: "ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب..." ثم قال: "وإذا ثبت هذا بالنسبة للسور فما ظنَّك بالآيات وتعلق بعضها ببعض، بل عند التأمل يظهر أنّ القرآن كله كالكلمة الواحدة"([19]).
لكن ذلك لا يطرّد للدارس لذلك قالوا يحتاج إلى تدبّر ومعرفة واسعة باسلوب القرآن الكريم، لذا قلّت العناية بهذا العلم وأعْرضَ المفسرون عنه([20]). ومنهم من ردّ هذا العلم،لان المناسبة على حَسْبِ الوقائع المتفرقة "تنزيلاً في نيّف وعشرين سنة، لذلك نجد تكلف بعضهم بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك"([21]).
وقد استشكل السيوطي ارتباط بعض الآيات مع قبلها أومع بعدها و مناسبتها لهما، وعدّ الوقوف علي ذلك عسيراً مشكلاً كما في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} (سورةالقيامة 16) ومناسبتها لأول السورة وآخرها. وقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البرّ أن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرّ منْ اتقى} (سورةالبقرة189) أي رابط بينها وبين إتيان البيوت من أبوابها، ورأى ذلك من باب الاستطراد([22]).
قال الزركشي: "ذكر الآية بعد الأخرى أما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلّق الكلام بعضه ببعض... وأمّا ألاّ يظهر الارتباط، بل يظهر انّ كلَّ جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به..." وحاول ليجد ارتباطاً لذلك بالتأويل وغيره([23]).
واشهر مَنْ ألّفَ بهذا العلم الإمام أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي (708هـ) في كتابه "البرهان في تناسب سور القرآن"([24])، لكنه مختصر.
والذي توسّع في تطبيق هذا العلم على النص القرآني كله الإمام البقاعي([25]) في تفسيره: "نظم الدّرر في تناسب الآيات والسور" وقد طبع جزء منه مؤخراً حاول فيه أن "يبيّن مناسبة كل لفظ لموضعه، وكل آية لموقعها، وكل سورة لما قبلها وما بعدها، ثم ارتباط القرآن كله من أول لفظ إلى آخر لفظ كأنه اللفظ الواحد([26]).
وقد عني بهذا العلم ايضاً الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وأبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) وغيرهما.
وفي هذا العلم نجد تحليلات أسلوبية دقيقة على طريقة الأسلوبية المعاصرة من حيث إيجاد لمحات دلالية في المناسبة بين الآيات والسور، اذ يكشف التحليل الأسلوبي لمحات دلالية من مجموع النصّ وشكله وحروفه وأصواته وتركيباته وترتيبه وعدد حروفه وكلماته.
فالبقاعي مثلا يلمح دلالات دقيقة بين عدد كلمات السورة ومعاني أحداث مناسبة نزولها أو حروب نُصرة الإسلام أو تاريخ الهجرة او فتح مكة، أو استحكام أمر عمر (رض) ويرى في ذلك أسراراً، وربط كلمات سورة الناس وحروفها بسورة الفاتحة من حيث أنواع الحروف. واستنتج من ذلك قائلا: "إشارة إلى انه تكامل نزول القرآن من أوله إلى أخره في عدد اشتمل عليها كل من سورتي أوله وأخره من السنين وذلك اثنتان وعشرون والثالثة سنة القدوم على منزله الحي القيوم سبحانه"([27]).
"ومن سورة الإيلاف (108) شرع البقاعي في بيان وجوه التقاء طرفي القرآن الكريم، فكل سورة من السور التسع الأواخر تقابلها سورة من التسع الأوائل، والعدُّ بناء على ذلك يكون تصاعدياً من سورة الإيلاف إلى سورة الناس، وتنازلياً من سورة التوبة إلى سورة الفاتحة وهكذا..."([28])
وفسروا في ضوء نظام القرآن بعض العدول عن المعايير اللغوية والنحوية على أنه موافق لنظام العربية والقرآن نحو حذف الباء في قوله تعالى: {إنّ ربك هو اعلم من يضلّ عن سبيله} (سورةالأنعام 117) وبزيادتها بسورتي (النجم 30) {ان ربّك هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله} و (القلم 7) {بمن ضلّ عن سبيله}. علل ابن الزبير الثقفي ذلك بنظم القرآن وسياقه والمناسبة بين الآيات ومحتواها. قال: "إن آية الأنعام قد اكتنفها من غير الماضي من الأفعال والإعلام بما يكون قطعياً او يتوقع في المآل ما يقتضي المناسبة في النظم، ولو ورد غير الماضي هنا لما ناسب ولا لائم. أما آية النجم فمبنيّة على مصطلح السورة في قوله تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى} (النجم 2) فقال تعالى مشيراً إلى حالهم {ان ربك هو اعلم بمن ضلّ عن سبيله} ( 30) فبرأ نبيه صلى الله عليه وسلم مما نسبوا إليه وأثبت ذلك لهم بكناية وتعريض أوقع في نفوسهم من الإفصاح بتعيينهم.
وأما آية سورة القلم فانه لما تقدم فيها قوله تعالى: { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (القلم:2)
وقوله تعالى: {وفستبصر ويبصرون بأييكم المفتون} (القلم 6) تهديداً لهم وتعريضاً بكذبهم في قولهم حين نسبوه إلى الجنون، أعقب ذلك بقوله تعالى: {أن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله} (القلم 7) فسجلت هذه الكناية بضلالهم وكذبهم وتناسب هذا كله أوضح تناسب"([29]).
ومن ذلك في قوله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء}(الرعد 33). قال الزركشي: الارتباط بينهما "ان المبتدأ وهو (مَنْ) خبره محذوف، أي أفمن هو قائم على كل نفس تترك عبادته" ومعادل الهمزة تقدير: أفمن هو قائم على كل نفس كما ليس بقائم. ووجه العطف على التقديرين واضح. أما الأول فالمعنى: أتترك عبادة من هو قائم على كل نفس، ولم يكفِ الترك حتى جعلوا له شركاء. أما على الثاني فالمعنى: إذا انتفت المساواة بينها فكيف تعلون لغير المساوي حكم المساوي"([30]).
ومنه ما سموه بـ (ما يوهم فساداً وليس بفساد) " وهو أن يقرن الناظم او الناثر كلاماً بما ليس يناسبه..."([31])، ومما ورد منه في أسلوب القرآن قوله تعالى: {ان الذين اتقوا اذا مسّهم طائف من الشيطان تذّكروا فإذا هم مبصرون واخوانهم يمدونهم في الغي}(سورةالأعراف201و202) وهذا يرجع إلى كفّار مكة يمدونهم في الغي.
ومنه ما سموّه بالمدرج، وهو "أن تجيء الكلمة إلى جنب أخرى كأنها في الظاهر معها. وهي في الحقيقة غير متعلقة بها"([32]). وقال ابن الجوزي: "وقد تأتي العرب بكلمة إلى جانب كلمة أخرى كأنها معها وهي غير متصلة بها. و في القرآن: {أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين} (يوسف 51) انتهى قولها، فقال يوسف (ع): {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} (يوسف 52)([33]).
وهذا التعليل من أشد التعليلات بعداً عن فهم النصّ القرآني واللغة العربية وعجزاً عن ردّ مطاعن أعداء الإسلام في القرآن الكريم،أقصد ما سموّه بسنن العرب في كلامها وطرائقها ومجازاتها وعاداتها في الكلام وغير ذلك. وهو هروب عن التعليل العلمي المبني على نظام النص القرآني واسلوب بلاغته العالية وأسرارها الفنية والجمالية. ناهيك عن المساس بإعجاز القرآن ونسبه إلى لغة الإعراب الذين لم يصل إلينا منهم نص مكتوب إلا بعد نزول القرآن، وما وصل الينا منهم دوّنَ بعد قرنين من النزول([34]). والدليل على ذلك أنّ هذا التعليل قلّ من يعلل به بعد اكتشاف أسرار العربية والنص القرآني فقد اتجهوا الى التعليلات البلاغية والنحوية والاسلوبية وغيرها.
ومنه ما سموه بـ (الموصول لفظاً المفصول معنى)، وهو تعليل آخر لما يبدو مشكلاً من حيث ربط الكلام بعضه ببعض وجعلوا له صلة بالوقف نحو قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا كلٌّ من عند الله} (سورةآل عمران 5) عن ابي الشعثاء قال "إنكم تصلون هذه الآية وهي مقطوعة، ويؤيد ذلك كون الآية دلت على ذم متبعي المتشابه ووصفهم بالزيغ"([35]).
ومن التعليلات المقبولة قول ابن عطية: "ان الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً وأحاط بالكلام كله علماً. فإذا ترتبت اللفظة من القرآن، علم بإحاطته أي لفظة تصلح ان تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى أخره والبشر فيهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم بالضرورة أن بشراً لم يكن قط محيطاً بذلك فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة"([36])
ومن المعاصرين الذين تناولوا علم الارتباط أو (علم الأحكام والتفصيل) الأستاذ محمد العفيفي في كتابيه: (القرآن القول الفصل بين كلام الله وكل البشر) و (القرآن دعوة الحق، مقدمة في علم التفصيل القرآني) الذي كرر أكثرأ طروحاته فيه.
عرّف علم التفصيل "بأنه العلم الدال على وجود الله تعالى ووحدانيته دلالة ظاهرة" رابطاً ذلك بنظام القرآن والكون. فالأحكام عنده (هو الشمول الذي يدلّ على تقدير الله تعالى لجملة الكلام (القرآن). والتفصيل هو: التخصيص الذي يربط كل إنسان من كل زمان ومكان بأي موضع نجده به في القرآن كله"([37]).
ويرى اللفظة الواحدة والجملة وحروف المعاني في القرآن الكريم ترد بدلالات مختلفة (مرتبطة بجديد من المقاصد مع كل موضع جديد من المواضع) وتؤدي علماً جديداً من خلال ارتباطها بالقرآن في المواضع التي ترد فيها، فلفظ الجلالة (الله) يعطي دلالات جديدة في كل موضع يرد بالقرآن الكريم، وآية (الحمد لله ربّ العالمين) كذلك، متتبعاً إياها في النصّ القرآني كله وهكذا. وقال: المقصود بالأحكام والتفصيل، (الوحدة والتنوّع). "الوحدة التي تجمع مفردات القرآن جميعاً من الحروف ولكلمات والجمل، فان هذه المفردات مرتبطة بالقرآن كله ارتباطاً لا ينبغي ان يختلط كلام البشر بكلام الله. والتنوع الذي يختص كل موضع نجد به أي حرف او كلمة او جملة من القرآن كله بوجه متفرّد من وجوه العلم"([38]). فلا يمكن تبديل لفظة او حرف او جملة، فكلها ثابتة في نصّه وإنما لكل مفردة منه عمل جديد بكل موضع جديد وهذا من أعظم الحدود الفاصلة بين كلام الله (تعالى) وكلام البشر المبني على العجز والتفاوت والتناقض في أي فعل بشري"([39]).
وعلى الرغم من كثرة الأمثلة وتكرارها والتطبيق الكثيرالذي عمله، تبقى فكرته غير واضحة كل الوضوح يعتريها غموض كثير. فضلاً عن العناية بالشكل أكثر من المضمون وعدم الترابطعلى الرغم من ان الدراسة في علم الترابط، والتواصل مع الكتابين مُتْعِبٌ. ناهيك عن عدم تخصص المؤلف بعلوم اللغة.
على الخلاف من باحث آخر تناول النظام القرآني على وفق منهج جديد سماه (المنهج اللفظي) اذ يرى انه لا يجوز تفسير أو شرح مفردة او اللفظ بمفرده او لفظ آخر، بحجة التقارب في المعنى... فلا يمكن أن يؤدي المعنى المحدود المقصود للقائل إلا لفظ واحد أو ترتيب واحد([40]) فلا يجوز في المنهج اللفظي شرح مفردة بأخرى بحجة التقارب في المعنى بين المفردتين، فذلك يغير المعنى ويؤثر فى التركيب المقصود الأساس وفى جميع مفردات النص، ولهذا أبطل المترادفات والتناوب بين الحروف والتضمين بين معاني الأفعال وغير ذلك مما يتقاطع مع النظام القرآني ونظام العربية الذي يقوم على المشابهة وتعلق بعضه ببعض، إلا انه يمكن عدِّ منهجه اللفظي وتطبيقاته تحليلاً أسلوبياً ذا نظرة شاملة للنص القرآني، او تفسيرا لغويا أسلوبيا يقترب من مناهج لغوية حديثة كالتحليل النّصي الذي سنمر به.
فاللفظ في القرآن يحوي دلالة واحدة في أي موضع ورد، وبهذا أبطل أيضاً ما سموّه بـ (الأشباه و النظائر) التي صنفوا بها عشرات المصنفات، و بُني عليه علم التفسير. وأبطل تعدد المعاني للفظ الواحد، والتأويل والتقديرات العشوائية للترتيب العام للجملة، و المجاز والإيجاز والإطناب وغير ذلك([41]).
ويرى أنّ المنهج اللفظي يعتمد على إلغاء نظرية الترادف في اللغة وما يتبعه من اعتباط لغوي الذي قال به سوسير، وينظر إلى القرآن على انه نظام لغوي محكم مستقل بذاته.
أما مباديء هذا المنهج فهي مبدأ عدم الاختلاف في القرآن، ومبدأ قصور المتلقي، ومبدأ التغاير عن كلام المخلوقين، ومبدأ خضوع المتلقي للنظام القرآني، ومبدأ التبيين القرآني، وأخيراً مبدأ الإقناع، أي ان القرآن يبين نفسه ويقنع متلقيه.
هذه أسس المنهج اللفظي ومبادئه التي درس عالم سبيط النص القرآني في ضوئها، ورأى انه ضرورة لا محيص عنها لانه "المنهج الوحيد الذي يلائم نظام القرآن من حيث كونه كتاباً معجزاً، فالكشف عن النظام هو الطريق الوحيد لمعرفة القرآن وأسراره "([42]) وأخذ على اللغويين أنّهم "قد حكموا على القرآن بقواعدهم النحوية والبلاغية واللغوية العامة"([43]).
ومن تطبيقاته على النصّ القرآني هذا المنهج اللفظي الذي يشبه التحليل الأسلوبي، ذكر الواو و حذفها في الآيتين الكريمتين من سورة الزمر {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} (73) و{حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها} (71) بالواو في الآية الأولى وبغير الواو في الآية الثانية.
قال: "إن هذا التعاطف بين مجيئهم وفتح الأبواب بهذا الحرف يجعل من فتح الأبواب أمراً متصلاً بالمجيء، وكأن مجيئهم كان منتظراً في حين أدى غياب الحرف في التركيب الثاني إلى انفصال بين المجيء وفتح الأبواب كما لو كان يتوجب عليهم ألاّ يجيء احد منهم، وأصبح فتح الأبواب اضطرارياً حتّمه مجيئهم، ومن غير الحاجة للرجوع لمواضع التركيبين تمكن هذه الواو السامع التيقظ إنّ التركيب الأول لابدّ أن يكون لأهل الجنة، وان الثاني لابدّ أن يكون لأهل النار، لأن هذا الحرف هو الفارق الوحيد بين ألفاظ وترتيب العبارتين، مما يفهم منه محبّة مجيء المجموعة الأولى، وكراهية مجيء الثانية"([44]).
وشواهد أخرى طبقها في ضوء منهجه اللفظي ليثبت "أن اللفظ قائم بنفسه لا يتميز بالمعنى وإنما يتغيّر المعنى التام للعبارة عند تغير مواقع الألفاظ مع بعضها وترتيبها "([45]).
وهذا يدل على حركية المعنى القرآني إذ يتحرك مع المناهج المختلفة التي تتناوله والثقافات والعقول في العصور المختلفة.فالمنهج النحوي يرى أن الواو حذفت للعلم بها - كما ذهب الخليل - وللاستغناء عن المحذوف([46]).
وقد اختلف البصريون والكوفيون في ذلك اختلافاً تناول الشكل بحسب الصنعة النحوية لا المضمون، واتجهوا إلى التأويل والتقدير نحو تأويلهم (ما) بـ (مَنْ) و (ما طاب) بـ (ما حلّ) في قوله تعالى: {وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم}(سورة النساء 3) ذلك ان القاعدة النحوية: ان (ما) لا يستعمل للعقلاء([47]).
من الملحوظات على المنهج اللفظي، أنه لم يذكر الشواهد القرآنية التي تبدو متقاطعة مع النظام القرآني كالشواهد السابقة التي ذكرناها، ونحو قوله تعالى: {إنّ المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً} (سورة الحديد 18) وقوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً...} (سورةالرعد31).
علم النص:
ومن المناهج اللغوية الغربية الحديثة التي عنيت بتحليل النصّ وتناوله وحدة كلية، (علم اللغة النصي) او ( علم النصّ). وكانت عنايته بالجوانب المشتركة بين اللغات المختلفة، لكن بعض المعاصرين العرب طبّقوه على النصّ القرآني بوصفه وحدة نصية متماسكة.
وعلم النصّ: فرع من فروع علم اللغة (الحديث) يعنى بدراسة النصّ بوصفه الوحدة اللغوية الكبرى وذلك بدراسة جوانب عديدة تتصل بالنص أهمها الترابط او التماسك ووسائله وأنواعه والاصالة او المرجعية Reference وأنواعها والسياق النصي Textual Context. ودور المشاركين في النصّ (المرسل والمستقبل)، وتشمل دراساته النص المنطوق والنص المكتوب على حدّ سواء([48]).
وما نعني به من هذا العلم هو كونه منهجاً اسلوبياً في تحليل النصّ يبحث في تماسك النصّ والنظر إليه نظرة شاملة كلية. وبشروط هذا التماسك وأدواته، ثم الصلة بين التماسك النصي والسياق.
ان تطبيق أطروحات هذا العلم الوافد على النص القرآني كما هي من غير مراعاة خصوصية أسلوب القرآن الكريم تصل بالدارس الى نتائج غير مجدية بل منحرفة عن المنهج العلمي الرصين، ذلك ان النص القرآني ينأى كثيراً عن النصوص التي اتخذها أصحاب هذا العلم ميداناً تطبيقياً لأطروحاتهم. أمثال هارتمان مؤسس العلم([49]) وان كان هذا العلم قد ولد من رحم البنيوية الوصفية القائمة على أجرومية الجملة في أمريكا. وكان مقال ( زيليخ هاريس) تلميذ بلومفيلد واستاذ تشومسكي ثم مريديه فيما بعد عن (تحليل الخطاب) من معالم الطريق في هذا الاتجاه نفسه([50]).
وكذلك سعة أنماط النصوص التي يتناولها هذا العلم ومناهجه تنأى كثيرا عن طبيعة النص القرآني، وخلطه بين النصوص الايصالية والابداعية واللغة المحكية واللغة الفصحى المكتوبة وغيرها.
ان أنماط النصّ الرئيسة كما حددوها هي: نصوص ربط نحو: (وعد، عقد، قانون، أمر)...) ونصوص إرشاد نحو: (إرشاد وخطاب ودفاع ودعاية، وإعلان، وخطاب سياسي...) ونصوص اختزان نحو: (ملاحظات، فهرس، دليل، تلفون، يوميات، مسودة...) فضلاً عن (الدراسة والرواية والقصة والمسرحية والشعر). ومنها الإعلانات وبطاقات التهنئة والحديث اليومي والأدب الشعبي وغير ذلك مما تناوله كلاوس بينكر في تطبيقه عليها مبادئ التحليل النصي، الذي يرى مهمة لغة النص هي "وصف الشروط والقواعد العامة لتكوين النص التي تعد أساس النصوص الفعلية، وصفاً منظماً وان يوضح أهميتها لتلقي النص"([51]).
ويؤكد المعنيون بهذا العلم صعوبة البحث النصي للتداخل المعرفي الذي يتطلب دراسة واسعة في فروع مختلفة، فهو مزيج من النحو والبلاغة والصرف وعلم الأصوات والمعجم والتفسير، واللسانيات و الأسلوبية وعلم الدلالة ونظرية الاتصال والبراجماتية وعلم المنطق والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة ومناهج لغوية مختلفة كالوظيفية والسياق والتوزيع والشكلية والتوليدية والوصفية والسيميائية فضلاً عن عدم استقرارمناهجه ذلك انه علم بكر([52]).
قال أحد المختصين بهذا العلم: " لقد تشعبت المنابع التي استقى منها مفاهيمه و متصوراته ومناهجه واتسم هو نفسه بقدرة فائقة على استيعاب كل ذلك الخليط المتباين، بل تشكل بنية منسجمة قادرة على الحفاظ على ذلك التداخل... وشكلت الخواص التركيبية والدلالية والايصالية للنصوص صلب البحث النصّي، بمعنى ان البحث يتحقق على مستويات ثلاثة أساسية هي: المستوى النحوي والمستوى الدلالي والمستوى التداولي بالمفهوم الواسع له ولا يجيز الفصل بين هذه المستويات"([53]).
وثمة محاولات عربية في تطبيق هذا العلم على النصّ القرآني، أكرهته "على قبول تلك القواعد التي اشتقت من نصوص لغات مختلفة"([54])، منها عمل الدكتور صبحي الفقي ( دراسة تطبيقية لعلم اللغة النصي على السور المكية)، وتتبعه بالموروث: البلاغي والنحوي وعلوم القرآن كالتفسير وعلم المناسبة الذي يُعدّ جذوراً لهذا العلم في موروثنا القرآني([55]).
وقد شملت تطبيقاته أبواب النحو والبلاغة، وأهم أدوات التماسك التي تناولها في تطبيقه: الضمائر، التوابع، العطف، الإبدال، التكرار، الحذف،علاقات الإسناد كلها، التماسك المعجمي، الأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة وغيرها([56]).
إلا أن تطبيقاته لم تكن دقيقة بل هي أقرب إلى المشابهة الشكلية بسبب المنهج التقليدي الذي أتبعه من غير الأخذ بما يفيدنا ويناسب النص العربي القرآني، في ضوء الثقافة الإسلامية ونظام العربية لكونه علماً يعنى بأنظمة اللغة وتماسك النص. ناهيك عن أنها علوم غير مستقرة غالباً ما ينقضها أصحابها الغربيون أنفسهم ويأتون بالجديد.
وأخذ على الموروثين: النحوي والبلاغي ولاسيما جهود الامام عبد القاهر في نظرية النظم، عنايتهم بالجملة، اذ عدّوها الوحدة اللغوية الكبرى، وعلم النص يعني بالنص كله، قائلاً "لأن تحليل الجملة يعد قصوراً في الدراسة اللغوية إذ لا يمكن دراستها منفصلة عن سياقها اللغوي المتمثل في البنية اللغوية الكبرى للنص"([57]).
وهو قول إن صحّ على نظرية النظم فلا يصح على الموروث التفسيري والاعجازي وبعض علوم القرآن كعلم المناسبة الذي يرى النص القرآني وحدة كاملة متماسكة كالجملة الواحدة بل كالكلمة الواحدة. وانه يفسّر بعضه بعضاً لتعلق بعضه برقاب بعض، وقد نوّه نولد نولدكة بذلك إذ رأى أنّ القرآن وحدة مترابطة ترجع كلها إلى معنى (التوحيد)([58]).
ثم انه طبق مبادئ هذا العلم على جزء من النص القرآني: (السور المكية) وان كانت نصوصاً كثيرة إلا أنها جزء من نص متماسك هو النصّ القرآني ينبغي ربطها به.
ومن أهم مّنْ طبّق المناهج الغربية الحديثة ومنها علم النص الدكتور تمام حسان إذ مزج بينها وبين الموروث البلاغي والنحوي، وكان الدكتور تمام إلى الموروث أقرب من المناهج الغربية التي خبرها أسلوباً وعرضاً. ففي كتابه (البيان في روائع القرآن، دراسة لغوية وأسلوبية للنص القرآني)([59]) طبق آراءه اللغوية ونظرياته التي ذكرها في كتبه السابقة ومنها: نظرية تضافر القرائن التي فسّر في ضوئها الرخصة والعدول الأسلوبي بعد نضوجها. واتسم بكثرة الشواهد القرآنية لكل ظاهرة أسلوبية او لغوية.
ويهمنا في هذا المبحث القرائن الآتية: التضام والربط والسياق وهو كبرى القرائن. فقد تناول فيها أساليب الربط والتماسك في التركيب القرآني والعلاقات الملحوظة في النصّ القرآني وموقف علماء النص من السياق([60]).
ففي ظاهرة التضام قال: "لا يكاد بابٌ من أبواب النحو العربي يخلو من ظاهرة التضام إما في صورتها الايجابية كالافتقار والاختصاص والتوارد، او في صورتها السلبية كالتنافي او التنافر"([61]). "ومما يقع في حيز القول في ظاهرة التضام: الحذف والزيادة والفصل والاعتراض وإدخال اللفظ على غير مدخوله ومنه التضمين وإغناء احد العنصرين عن الآخر والشروط التركيبية لتأليف ألفاظ السياق"([62]) ثم تناولها كلها بالتفصيل والتمثيل.
والفرق بين الحذف والفصل البلاغي من حيث انه حذف له "خصوصية المقام ما يجعله شيئاً آخر غير مجرد الحذف النحوي. ذلك بان الفصل البلاغي يتم دائماً عن موقف انفعال قد يكون خوفاً او غضباً او استعجالاً او استغراباً او تعجباً وغير ذلك من هذا النحو من المواقف الجديدة"([63]) كقوله تعالى:
{وسع ربنا كلّ شيء علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} (سورةالأعراف 89) الموقف موقف التبرؤ والرَّفض. وشواهد أخر كثيرة ذكرها لم يرد العطف بين التراكيب المترابطة، لأسباب انفعالية وخصوصية المقام. ولكن لا أرى انها تحتاج إلى رابط أو القول بوجود فاصل بينها وهو حذف حرف العطف إلا من باب التقدير.
وكذلك الأمر لقضية الاعتراض "والمقصود مجرى النمط التركيبي بما يحول دون اتصال عناصر الجملة بعضها ببعض اتصالاً تتحقق به مطالب التضام النحوي فيما بينها والجملة المعترضة في كل أحوالها أجنبية عن مجرى السياق النحوي فلا صلة لها بغيرها ولا محل لها من الإعراب وإنما هي تعبير عن خاطر طارئ من دعاء او قسم او قيد بشرط او نفي او وعد او أمر او نهي او تنبيه إلى ما يريد المتكلم أن يلفت إليه انتباه السامع"([64]).
لا أرى الاعتراض من باب التضام وتماسك النصّ إلا إذا تكلفنا ذلك و أوّلناه،إذ معناه يتقاطع مع ارتباط النص، ناهيك عمّا أورده من شواهد قرآنية أكثرها قدرفيها الاعتراض بحسب منهج النحاة المعياري وبحسب فهمه للنص القرآني نحو قوله تعالى:
{في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون} (سورةالبقرة 10) قال معلقاً: "في الآية اعتراض للدعاء على مرض القلوب المذكرين"([65])
وقد رأيته يمزج بين التحليل الأسلوبي و النحو المعياري، ويكثر من اعتماده على نحو المتأخرين الممزوج بالمنطق العقلي لا اللغوي ولاسيما لدى أبي البركات الأنباري، فمن ظواهر التضام التي ذكرها "اغناء أحد العنصرين عن الأخر" مثل لها بأقوال النحاة نحو (اغناء الفتحة عن الكسرة في إعراب ما لا ينصرف وعكسه في جمع المؤنث السالم) و( واغناء (يا) النداء عن الفعل (أدعو) و (اغناء العوض عن المعوض في كل صور التعويض)([66]). وفي المظهر التضامي الذي وسمه باسم ((الشروط التركيبية التي تتضح بتحقيقها خصوصية السياق ومعناه التركيبي)) ثم ذكر تحته قائمة طويلة من القواعد النحوية المعيارية التي وضعها النحاة المتأخرون([67]) ناهيك عن استشهاده بشواهد قرآنية للظواهر اللغوية والأسلوبية التي يذكرها بحسب ما يرى بعض المفسرين لمعنى الشاهد القرآني او ما يراه هو. وقد ذكرنا ان المعنى القرآني متحرك وله خصوصية أسلوبية مغايرة عن الأساليب الأخرى بحيث تسمح للمفسرين أن يحملوه على وجوه في بعض شواهده. وبعضها الآخر من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى على خلاف في ذلك.
وفي قرينة الربط الذي مثل لها بمجموعة من الألفاظ لا معنى لها، لكونها غير مرتبة بحسب قواعد الربط في اللغة: (فَحمَدَ في الناس خطيباً عليه وأثنى قال الله زيد ثم قائم) قال الدكتور تمام حسان: "إذا وضعت هذه المفردات نفسها مرتبة ترتيباً آخر معيناً اتضح انها تدل على معنى وذلك اذا قلت: (قام زيد في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال) وتحققت الإفادة منها، لان المفردات هناك قد رتبت بحسب الأصول المرعية في تركيب النمط"([68]).
وبهذا مثل لقرينة الربط وعلاقته في العربية وهو أمرٌ معروف لدى جميع متكلمي اللغة حتى المبتدئين منهم، ذلك انه من السياق. ثم ذكر علاقات الربط (كالإسناد والتعدية والمصاحبة والإخراج والتفسيرو التبعية والملابسة)،قال: "الأصل في الربط أن يكون بإعادة اللفظ لأنها ادعى للتذكير وأقوى ضماناً للوصول إليه..."([69]) ثم ساق شواهد كثيرة. و قال: " وقد يعني إعادة اللفظ إعادة المعنى"، وهذا مما وصفه بـ (إعادة الذكر لإنعاش الذاكرة). ومنه التكرار([70])، ومثل له بعشرات الشواهد القرآنية. ثم تناول الضمير بأنواعه الكثيرة، والمطابقة والإشارة و(أل) التعريف وحروف المعاني ولاسيما حروف العطف([71]) والمعية وغيرها من وسائل الربط بالتفصيل والشواهد الكثيرة.
* كلية التربية للبنات- جامعة بغداد
al_igeali@yahoo.com
________________________________________
[1] - النظام القرآني 12.
[2] - نفسه 17 وينظر ص 14-16.
[3] - البرهان في علوم القرآن 3/75، ومباحث في علوم القرآن 299.
[4] - اعجاز القرآن، الرافعي 214، 254، وينظر: اعجاز القرآن، للباقلاني 280، ومعترك الاقران 1/5، ومناهل العرفان 2/331.
[5] - التعبير الفني في القرآن الكريم 190.
[6] - المعجزة الكبرى 300، 133، 95، 97.
[7] - المصدر نفسه.
[8] - ينظر: من اسرار التعبير في القرآن 25 والتعبير الفني في القرآن الكريم 190 والتنغيم في القرآن الكريم 16.
[9] - اعجاز القرآن، الرافعي 185.
[10] - المعجزة الكبرى 131.
[11] - صفاء الكلمة 3، 8، 15، 46، 60، 120.
[12] - اعجاز القرآن 454، 265.
[13] - الظاهرة الجمالية 53-54.
[14] - الظاهرة الجمالية 53-45.
[15] - معترك الأقران 1/9.
[16] - تفسير جزء عمّ، البقاعي 41.
[17] - البرهان، الزركشي 1/ 35 ومعترك الاقران 1/ 57، 55.
[18] - معترك الاقران 1/ 55.
[19] - البرهان، الزركشي 1/ 38-39.
[20] - تفسير جزء عمّ 4.
[21] - البرهان، الزركشي 1 /37.
[22] - معترك الاقران 1/ 62-64.
[23] - البرهان 40- 43.
[24] - طبع بتحقيق د. سعيد الفلاح، المملكة العربية السعودية 1988.
[25] - تفسير جزء عمّ 41 وللتفسير طبعة قديمة بالهند.
[26] - نفسه 45.
[27] - تفسير جزء عمّ 567.
[28] - مقدمة تحقيق: تفسير جزء عمّ 46-47.
[29] - ملاك التأويل 1/ 470.
[30] - البرهان 46.
[31] - الفوائد المشوق، ابن القيم 175 ومعجم المصطلحات البلاغية 3 / 379.
[32] - البرهان 3 /94.
[33] - الاتقان 1 / 352.
[34] - ينظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 8/ 264.
[35] - الاتقان 1 / 253.
[36] - تفسير جزء عمّ 0مقدمة التحقيق) 45.
[37] - القرآن دعوة الحق 6، 25.
[38] - المصدر نفسه 11 و 15.
[39] - المصدر نفسه 16.
[40] - النظام القرآني 27.
[41] - المصدر نفسه 27.
[42] - المصدر نفسه 17.
[43] - المصدر نفسه 27.
[44] - المصدر نفسه 36.
[45] - المصدر نفسه 36.
[46] - سيبويه 1/114، والبرهان، الزركشي 3/ 189.
[47] -الاشباه والنظائر 4/ 187 وفي عوالم القرآن 91.
[48] - علم الغة النصي بين النظرية والتطبيق 1/32.
[49] - علم اللغة النصي 58.
[50] - المصدر نفسه 1/ 36.
[51] - ينظر: التحليل اللغوي للنص.63
[52] - علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات 3، 13.
[53] - نفسه 9.
[54] - نفسه 12.
[55] - علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكية.
[56] - نفسه 1/17.
[57] - علم اللغة النصّي 12.
[58] - ينظر: تاريخ القرآن.77
[59] - طبعة عالم الكتب ضمن مشروع مكتبة الاسرة 2002.
[60] - تنظر الصفحات 1/ 83، 127، 163، 304.
[61] - البيان في روائع القرآن 1 /89.
[62] - نفسه 1 / 91.
[63] - نفسه 1/ 112.
[64] - نفسه 1/ 115-116.
[65] - نفسه 1 م116.
[66] - البيان 1/ 124.
[67] - نفسه 1/ 125-126.
[68] - البيان 1/ 137.
[69] - نفسه 1/ 128.
[70] - نفسه 1/ 134.
[71] - نفسه 1/ 156.