صبرى محمد خليل خيرى .
البلد : السودان عدد المساهمات : 96 نقاط : 284 تاريخ التسجيل : 31/07/2014
| موضوع: الجنون بين المفهومين الدارج و العلمي 2015-06-17, 05:50 | |
| الجنون بين المفهومين الدارج و العلمي د. صبري محمد خليل /أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم sabri.m.khalil@hotmail.com تعريف الجنون : لغة : الجنون لغة اشتقاق من الفعل الثلاثي " جنن " ، وله عده معاني أهمها الستر ، يقال جن الشيء ، يجنه ، جناً : أي ستره ، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك ، وسمي " الجن " بهذا الاسم لاستتارهم ... ويقال : جن الليل... عندما يشار إلى شدة ظلمته التي تستر ما فيه عن الأبصار... ويطلق على الولد في بطن أمه جنين لأنه مستور( لسان العرب 1 : 515 – 516) ، ويطلق الجنون أيضا على كل أمر يدل على الكثرة التي تثير العجب..يقال : جنون الطير ، للإشارة إلى كثرة ترنمه في طيرانه ، وجن الذباب إذا كثر صوته(لسان العرب 1: 518)،المعنى الأول يشير إلى أن الجنون هو ستر للعقل، اى غياب كلى أو جزئي للوظائف ومقدرات العقل ، بينما المعنى الثاني يشير إلى أنه يلزم من الجنون أشكال من السلوك "غير الطبيعي"،التي تثير العجب ، نتيجة لاختلال التحكم في الاراده (وهو من لوازم الجنون). اصطلاحا: أما اصطلاحا فقد تعددت تعريفات الجنون . ضرورة التمييز بين المفهومين العلمي والدراجة للجنون :وللتوصل إلى تعريف دقيق وموضوعي للجنون يجب التمييز بين مفهومين للجنون: المفهوم الدارج للجنون : وهو كل نمط تفكير أو سلوك يتعارض مع أنماط التفكير أو السلوك السائدة في مجتمع معين،فى زمان ومكان معينين ، وهو مفهوم ذاتي – نسبى، لا يستند إلى اى معيار موضوعي. المفهوم العلمي للجنون : أما التعريف العلمي للجنون ، الذي نأخذ به، فهو تعريفه بأنه: اضطراب في بنيه أو وظائف الدماغ، يؤدى إلى اختلال (كلى أو جزئي/ دائم أو مؤقت) في الوظائف والمقدرات العقلية (كالإدراك والتذكر والتخيل)،نتيجة لعوامل فسيولوجية أو وراثية... ويلزم منه – معرفيا- اختلال في المقدرة على التمييز،- وسلوكيا - اختلال التحكم في الاراده. وقد حدد الطب النفسي الاضطرابات العقلية التي تندرج تحت هذا المفهوم العلمي وتشمل: الذهان ، الصرع، والهستيريا، ، والوسواس الجنوني، ازدواج الشخصية أو انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)... تمييز القران الكريم بين المفهومين :وقد ميز القران الكريم بين المفهومين الدارج و العلمي للجنون، حيث أشار إلى المفهوم الأول للجنون ، في معرض إشارته إلى اتهام أعداء الرسل لهم بالجنون كقوله تعالى(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، (ويقولون إنه لمجنون )، كما أشار الى المفهوم الثاني في معرض نفيه الجنون عن الرسل (عليهم السلام)عامه و الرسول (صلى الله عليه وسلم )كما فى قوله تعالى(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ* وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). موقف الإسلام من الجنون: وقد جعل الإسلام العقل مناطاً للتكليف، واعتبر بالتالي غيابه عارضاً من عوارض أهلية المسلم ، قال الرسول( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل) ( مسند الإمام أحمد : 24242.)،والحديث يشير إلى أن موقف الإسلام كدين من الجنون، يتجاوز التفاسير الخرافية والاسطوريه للجنون ، والتي شاعت في حضارات سابقه ، والتي تنكر وجود أسباب عضويه ووراثيه له,وترى استحاله علاجه . ويقارب التفسير العلمي للجنون الذي ينظر إليه باعتباره مرض كسائر الأمراض يمكن علاجه ، لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (حتى يعقل ).مع ملاحظه انه لا تعارض فى الطب الاسلامى بين العلاج بالرقية والعلاج الدوائى والكيميائي والجراحي، لان الطب الاسلامى هو شكل اشكال الطب الشامل، فهو يجمع بين الطب العلاجي الذي يعنى بالبعد المادي "العضوي الفسيولوجي" للإنسان ،لقول الرسول (صلى الله عليه وسلم )(تداووا عباد الله فان الله ما خلق الداء إلا وخلق له الدواء) ، والطب البديل الذي يعنى بالبعد الروحي للإنسان. فالعلاج بالرقية إذا في الطب الاسلامى طب "مكمل" للطب العلاجي ،وليس طب" بديل" له. الجنون في الفقه: والجنون عند الأصوليين هو اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة ،المدركة للعواقب، بأن لا يظهر آثارها ويتعطّل أفعالها. وقد قسم الفقهاء والأصوليون الجنون إلى قسمين هما: الأول : جنون أصلي : ويطلق عليه أيضاً الجنون المستمر أو المطبق ، ويكون موجوداً في بأصل خلقة الإنسان ، مستوعباً جميع أوقات المريض ، دون أن تتخلله نوبة انقطاع . الثاني : جنون عارض :ويطلق عليه أيضاً الجنون المتقطع ، وهو أن يولد الإنسان بعقل سليم ، ثم تطرأ عليه آفة فتؤدي إلى زوال العقل لفترات مؤقته. الجنون في القانون: أما القانون فيقرر قاعدة انعدام المسؤولية الجزائية عن المجنون ،لانعدام الوعي والاراده لديه ، لكن العبرة ليست بالجنون في ذاته، بل بالحالة العقلية التي يكون عليها المريض أثناء ارتكابه الجريمة، فتنعدم المسئولية الجزائية عنه في حاله الغياب الكلى للوعي أو الإرادة، أما فى حاله الغياب "الجزئي " للوعي والاراده، فانه يتحمل مسؤولية جزائية ناقصة، يلزم منها خضوعه للعقوبة مع التخفيف ، وتقدير ذلك كله يعود إلى القاضي، بعد الاستعانة بخبرة طبية. التمييز بين الاضطرابات" الإمراض" العقلية والنفسية: وهنا يجب الاشاره إلى أن الأصح هو ان المفهوم العلمي للجنون يتضمن فقط الاضطرابات العقلية، ولا يمتد ويشمل الاضطرابات النفسية ، والتي لا تعد جنونا الا بالمفهوم الدارج، والفرق بين الاضطرابات" الإمراض" العقلية والنفسية ، ان الأولى هي- طبقا لتعريف علم النفس الاكلينيكى والطب النفسي- اضطراب عقلى اى اختلال في الوظائف والمقدرات العقلية يلزم منه – معرفيا- اختلال في المقدرة على التمييز،- وسلوكيا - اختلال التحكم في الاراده،وتشمل الاضطرابات العقلية أمراض معينه منها : ذهان الاضطهاد( The persecution psychosis)، الصرع(Epilepsy الفصام أو الشيزوفرينيا( schizophrenia) ، الذهان الدوري( periodic psychosis) الجنون( mania). إما الثانية- اى الاضطرابات" الإمراض" النفسية فهى اضطراب وظيفي ، يتميز بوجود صراعات داخلية ، وتصدع في العلاقات الشخصية. وتشمل الاضطرابات النفسية أمراض معينه منها : الهستيريا (Hysteria)، القلق(Anxiety )، الوسواس ( obsession) - الفوبيا (الرُهاب) ( Phobia ) ،الاكتئاب (Depression )... نقد المفهوم الغربي الحديث للجنون عند فوكو : يتناول الفيلسوف المعاصر ميشيل فوكو في كتابه( تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ) العلاقة بين الجنون وبين العقل ،على مدى أكثر من أربعمائة عام من التاريخ الأوروبي، أي منذ القرن السادس عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، لكنه خصّ بالدرس الموسّع العصر الكلاسيكي، أو ما عُرف ب"عصر التنوير"، وبالتحديد القرنين السابع عشر والثامن عشر.. ويرى فوكو أن كل شكل من أشكال الجنون كان له فى الماضي موقعه وشاراته وإلهه الحامي، وأن نظرة الناس إلى الجنون في القرون الوسطى كانت مختلفة عن العصر الكلاسيكي، وعن نظرتنا في العصر الراهن إليه. وكان كل عصر يشكل تصوره عن هذه الظاهرة التي ترعب عالم "العقلاء"، لذا كان الهمّ منصباً على التحكم في الجنون، ولم يمنع التحكم الجنون من الاحتفاظ بكل مظاهر سيادته، ويرى فوكو ان عصر النهضة أعاد إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في مصادر عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكت صوته بقوة غريبة، ففى عصر النهضة كان العقل واللاعقل مجتمعين ، بمعنى أنه لم يكن هناك رفض صارم ل"اللاعقل"،كان هناك شعراء مجانين ، إلا أنه في القرن السابع عشر استبعد الجنون نهائياً من الساحة، وظهر (المستشفى العام) في سنة ,1661 كي يتجسد الحجز فيه بامتياز، سجناً وإصلاحية ومأوى وبمارستاناً، بمعنى آخر أداة قمع ، تنهض بكل شيء باستثناء العلاج. ثم يتوقف فوكو طويلاً أمام جنون الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، أمثال هولدرلين، ونيتشه... إلخ. ويرى انه جنون يحقّ له أن يحاكم العقل الغربي المتغطرس وليس العكس، إذ لا يوجد أي عقل في العالم يستطيع أن يرتفع إلى مستوى جنون فريديريك نيتشه أو الشاعر الكبير هولدرلين. وأخيرا يثنى فوكو على هذا الجنون ويتحدث عنه بشاعرية، فهؤلاء المجانين الكبار - حسب رأيه - قدّموا روائع خالدة للثقافة الإنسانية. (عمر كوش / حين يحاكم الجنون العقل الغربي). الجنون والابداع:وإذا كان هناك بعض الباحثين يربطون بين الجنون والابداع، فان هذا الربط خاطئ، فالابداع هو مقدره على تحقيق اضافه معينه، في مجال معين، وهو يستند إلى الخيال كملكه عقليه مضمونها أعاده تشكيل الواقع في شكل جديد ، بينما الجنون- كما أسلفنا - هو اختلال في الوظائف والمقدرات العقلية - ومنها الخيال – وتفسير كون بعض المبدعين كانوا مجانين ، ان الاختلال في وظائفهم العقلية(الجنون)، لم يؤثر على مقدرتهم على تحقيق اضافه (الابداع)، هذا فضلا عن انه ليس كل المبدعين مجانين، فضلا عن انه ليس كل المجانين مبدعين ، وأخيرا فان البعض يطلق على المبدعين وصف مجانين ، لأنه يستمد إلى المفهوم الدارج للجنون، اى باعتبار إن ما حققوه من أضافه تخالف ما هو سائد
. |
|