يعتبر الناقد المغربي سعيد بنكراد، مؤلف هذا الكتاب، أن «المنهج» الواحد والأوحد خرافة، وأن السائد حالياً في الدراسات الأدبية، لا يمكن أن تنتج عنها سوى الأوهام، حق القراءة تستند إلى فرضية، يبررها وجود نص يبني معاينة، استناداً إلى قوانين لا يمكن الكشف عنها إلا بالارتكاز على تصورات تخص شروط إنتاج المعنى وشروط تداوله، وهي فرضيات لا تشكل «منهجاً» بل يجب النظر إليها بوصفها «ترتيبات تحليلية» قد تفيد من تصورات نظرية متعددة، ذلك أن الناقد لا يبحث في النص عما يعرفه بشكل مسبق، بل يستدرجه التأويل إلى اكتشاف ما لم يتصوره من قبل.
ويحاول المؤلف في كتابه تجاوز السائد في الكتابات النقدية العربية، من خلال النظر إلى النقد باعتباره إنتاجاً لمعرفة وإمساكا بطاقة جمالية، لا توصيفاً خارجياً وحسب. ويستند في قراءاته للنصوص الأدبية التي يختارها إلى أساس إبستمولوجي جديد، يعيد من خلاله النظر في الكتابة والرؤية والقراءة والمعنى والدلالات، وفي تعريف النص ذاته. ولا يتعلق الأمر بتصور يوحد بين النصوص، بل بحالة وعي حضاري شاملة، تشكك في اليقين وفي أحادية الرؤية والمعاني الجاهزة. وينظر إلى العالم الخارجي، بوصفه مجموعة من الموضوعات المتناثرة في فضاءات ممتدة في جميع الاتجاهات، في الأشياء والوقائع والأفعال والممارسات، واستناداً إلى هذا المبدأ، الذي يخص الإدراك وإنتاج المعاني على حد سواء، فإن العالم الطبيعي الخالي من أي استثمار دلالي، لا يمكن أن يتأنسن إلا من خلال تحويل الأشياء إلى علامات. أي حين تتخلص الأشياء من بعدها الوظيفي، لكي تصبح خزاناً لكمية هائلة من المعاني التي تشير، خارج وظيفة التعيين أو ضداً عليها، إلى مواقع متنوعة داخل الامتدادات الرمزية اللامتناهية للكائن البشري في كل ما يحيط به.
ويعتبر أن ذلك هو الحدّ الفاصل بين «الوظيفة» و «المعنى» داخل ما يؤثث الوجود الإنساني، أي ما يميز بين النفعي المباشر وبين التحديدات الرمزية اللاحقة، إذ تشير الوظيفة، ضمن هذه الثنائية، إلى نشاط بعينه، مثل الفأس للحفر والمنجل للحصاد والهاتف للتواصل واللباس للوقاية من البرد، أما «المعنى فثابت لا يتزعزع، إنه سلسلة من الروابط» المستحدثة التي تعدل من وضعه داخل الممارسة الإنسانية، كالاستعمالات الرمزية للفأس والمنجل وغيرهما من الأشياء. و «من هذه الثنائية يعيش الشيء حالة صراع قوي بين حركية وظيفته وسكونية دلالته، ويقوم المعنى بمنح الشيء وضعاً ثابتاً ويحوله إلى كيان مكتف بذاته ليمنحه موقعاً خاصاً ضمن ما يمكن أن نسميه مشهداً حياً داخل المخيال الإنساني»، أما الوظيفة فتقوم، على العكس من ذلك، بإدراج الشيء ضمن مردويته داخل المناطق النفعية للحياة.
ولا يكتفي النص، على هذا الأساس، بالتعبير عن معنى موجود بشكل قبلي، بل يقوم بشيء آخر. إنه يعدل، من خلال أشكال التحقيق، من العلاقات القبلية للمعنى، ليكشف لنا، من خلال مكوناته مرة أخرى، عن علاقات جديدة تعد إغناء للقيم المضمونية. وفي الواقع، يفضي تعميق معرفتنا بالسردية في مظاهرها المتعددة إلى تعميق لمعرفتنا بالأشكال الخاصة بالتمفصل الدلالي. ويغدو تحليل نص روائي ليس بحثاً في ذاكرة مغلقة، بل صياغة جديدة لقيم معروفة. ووفق هذا التصور يمكن الحديث عن معنى، أو معاني، الوقائع المدروسة وعن مظانها.
غير أن المعنى قد يكون في تصور البعض محاثياً للنص، أي طاقة دلالية مكتفية بذاتها ومستقلة عن كل بؤر التلفظ ومودعة في النص، صراحة أو ضمناً، خارج إرادة القارئ وبعيداً عن تدخلاته، وعلى المحلل تقع مهمة العثور على ما يود النص قوله استناداً إلى هذه الوسيلة أو تلك.
وحين تنطلق الرواية، بشكل مسبق، من تحديدات فكرية أو مفاهيم مجردة، دون الاستناد إلى ما يمنح هذه المفاهيم تلوينها الثقافي الخاص، فإنها لا يمكن أن تبني حدثاً، ولن تجد في الوقائع الظاهرة ما يحيل على «الجوهري» و «الثابت» و «الكوني». ففي هذه الحالة لا يستطيع النظام الوصفي المرافق لعملية السرد الدفع بهذه الوقائع لكي تسلم كامل أسرارها، فهو يكتفي بتسجيل ما تقوله تلك الوقائع لكي تسلم كامل أسرارها، فهو يكتفي بتسجيل ما تقوله تلك الوقائع عبر التقاط وضعيات عادية تشرح تنظيم الشأن الإنساني كما هو مجسد في الحياة الفعلية. وبهذا لن يكون في مقدور النص الروائي، تحويل هذه الوقائع إلى حدث يمكن أن يصبح سنداً لإنتاج دلالات قد لا تكون مرئية من خلال التجلي المباشر للسلوك العادي. فالحدث، بما هو مدى محسوس يؤطره كمّ زمني يقود إلى الفصل بين الحالات والتحولات، ليس معطى جاهزاً، إنه كيان مبني، فهو رصد لعلاقات ليست مرئية في التجلي المباشر للوقائع الإنسانية. ولهذا لا يمكن لأي كم سلوكي أن يصبح حدثاً. فهذا الذي وقع قد لا يكون حدثاً أو قد يكون كذلك ضمن سياق بعينه لا في جميع السياقات.
ووفق هذا المنظور النقدي، يقدم المؤلف قراءات في العديد من النصوص الروائية العربية، حيث يستقرئ الجسد والسرد ومقتضيات المشهد الجنسي في رواية «الضوء الهارب» لمحمد برادة، واستيهامات الأصل وحقيقة النسخة في رواية «المرأة والصبي» للميلودي شغموم، والحكي واللذة المجهضة في رواية «دلعون» لنبيل سليمان، و «الرواية وبنية الحكي الأسطوري في رواية «حكاية وهم» لأحمد المديني، والعوالم العارية في رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري، والسرد والتجربة الحسية في رواية «الصحن» لسميحة خريس، والخلق والحلم ومقامات الصوفي في رواية «خفق أجنحة» لمحمد عز الدين التازي، و «الأنا» بين المقموع وسلطة الزمن في رواية «سمر كلمات» لطالب الرفاعي، والذات والجلاد وتفاصيل الزنزانة في رواية «سيرة الرماد» لخديجة المروازي. ثم يقدم السرد الجنسي بواسطة بعض الشهادات المكتوبة، وكيفية انتقالها إلى مستوى التخييل الروائي، ثم يختم كتابه بموضوع الرواية وقضايا التشخيص السردي في الرواية المغربية.
كتاب: السرد الروائي وتجربة المعنى
تأليف: سعيد بنكراد
المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، 2008
عمر كوش، من صحيفة العرب القطرية