من الشعر الجاهلي
عرض وتحليل لعينيّة الحَادِرة
الجزء الأول
د. علي عبدالله ابراهيم
تمهيد:
يذهب بعض شراح الشعر الجاهلي المعاصرين إلى القول بأن القصيدة العربية القديمة بوجه عام والجاهلية على وجه الخصوص تقوم على اجزاء عديدة قد لا يربط بينها رابط. ومرد ذلك في نظر هؤلاء يعود إلى طبيعة الحياة البدوية، التي كان يحياها أغلب العرب في ذلك الزمن. فتناثر ابيات القصيدة الواحدة، أو تباعد ابياتها ما هو إلا انعكاس منطقي أو نتيجة حتمية لتباعد خيامهم وتناثرها في مواطن اقامتهم. ويرى آخرون، ونحن منهم، أن هذا الكلام غير دقيق ولا تصح نسبته إلى قدر كبير مما قاله شعراء الجاهلية أو المخضرمون منهم.
وقد كتب كثير من المختصين في هذا الموضوع ومنحوه من العناية والاهتمام ما يستحق. ولعله من المناسب أن أذكر هنا أن مجلة «الفيصل» نشرت لي موضوعاً في عددها الذي يحمل الرقم (200) بعنوان : (الوحدة في القصيدة العربية القديمة) حاولت فيه معالجة هذا الأمر من خلال تحليل شامل ومفصل لعينية متمم بن نويرة:
صرمتْ زُنيبةُ حبلَ من لا يقطعُ
حبلَ الخليلِ وللأمانة تفجعُ
وقد اعتمدت في ذلك التحليل على المنهج الذي يعنى بالنظر العميق، والتأمل المتأني في الجو النفسي، والظرف الخاص الذي كان يكتنف شاعر تلك الحقبة التاريخية المعروفة، ويهيمن على مواقفه ومشاعره لدرجة يظل فيها الشاعر اسيراً لذاك الجو حتى لا يكاد يجد منه فكاكاً إلى أن يخرج للناس هذه القصيدة أو تلك. ولعله من المناسب ايضاً أن أنوه هنا باستاذنا الفاضل محمد يوسف مصطفى الواثق الذي دلنا على هذا المنهج، وكشف لنا عن طبيعته من خلال عرضه علينا عدداً من قصائد (المفضليات) ونحن في بداية فترة الدراسة الجامعية بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. وقد كان لطريقته تلك اثر كبير في فهمنا للشعر الجاهلي، وتعلقنا به، بل وانحيازنا له في بعض الاحيان.
وعليه فإن ما نود أن نقوله من خلال عرضنا لقصيدة الحادرة ماهو إلا محاولة أخرى نسعى من خلالها للقول بأن استخدام الجاهلي لعدد من الادوات الشعرية في القصيدة الواحدة لا يعني، بالضرورة، أن القصيدة مفككة أو أنها مبنية على أجزاء لا توحدها فكرة ولا يجمع بينها جامع.
قصيدة الحادرة:
الحادرة من الشعراء الجاهليين المقلين، وقصيدته التي نحن بصدد عرضها وتحليلها تعتبر من عيون الشعر العربي وجيده. فقد ضمنها كل من المفضل الضبي والاصمعي في مختاراته من الشعر. وكان حسان بن ثابت من أكثر الناس اعجاباً بها، فقد روي عنه أنه كان يقول إذا قيل له تنوشدت الاشعار في بلدة كذا وكذا: فهل انشدت كلمة الحويدرة، يعني هذه القصيدة. يستهل الحادرة قصيدته بذكر المرأة على النحو الذي درج عليه أكثر الجاهليين حيث يذكر في بيتها الأول خبراً عن «سمية» التي عزمت أمرها وقررت الرحيل. ومما يجدر ذكره هنا أن الجاهلي كان يميل في أغلب الاحيان، إلى الكتابة دون التصريح كأن يقول: أم عمرو، أم هيثم، أم أوفى.. الخ، وربما أتى بالاسم صراحة كما كان يفعل المرقش الاصغر على سبيل المثال أو كما فعل الحادرة هنا. وفي البيت التالي يطل علينا الشاعر وقد بدت عليه علامات الارتباك والشعور بالحسرة والاسى لفراق الفتاة التي تعلق قلبه بها. ومما زاد في حزنه والمه شعوره بأن الزمن قد لا يسمح له بملاقاتها من جديد، ولذلك لم يكن امامه من سبيل سوى أن يهرع لتوديعها في هذا المكان المعروف ب(لوى البُنَيْنَة).
وإذا كان الشاعر قد اختار ذكر اسم محبوبته صراحة في البيت الأول من هذه القصيدة فإنه لم يقدم على ذكر الكلام عن طبيعة الخلاف أو القطيعة التي وقعت بينهما بشكل مباشر وصريح.
ذلك لأنه اكتفى بالاشارة والتلميح في البيت الثالث إلى أن شيئاً من ذلك قد حدث حين نوه باعراض سمية وانحرافها في الوقت الذي كان يسعى هو فيه لملاقاتها أو توديعها في المكان المذكور. وبدلاً من أن يطيل الكلام عن القطيعة واثرها في نفسه ووجدانه راح يتغزل وفق الطريقة التي اعتمدها الجاهليون وسار عليها شعراء العصور التالية، حيث مال إلى وصف عنقها الواضح المشرق، وعينيها الحوراوين. ووصف ايضاً ريقها الذي يشبه ماءً أدرّته ريح الصَّبا الساكنة الهادئة اللينة واستخرجته من هذه السحابة التي تسري بالليل. ولم يكن غريباً، والحال كذلك، أن جعل الشاعر هذا الماء الغريض والقريب العهد بتلك السحابة أن يكون قد تجمع واستنقع في موضع طيب تستريح النفس لرؤيته وتطمئن. ضمن الحادرة المعاني المذكورة في الابيات الثمانية الأولى من هذه القصيدة حيث قال:
بكرت سميةُ بكرةً فتمتّع
وغدت غدوَّ مُفارقٍ لم يَرْبَع
وتزوّدت عيني غداة لقيتُها
بلوى البُنينةِ نظرةً لم تُقلع
وتصدّفت حتى استبتكَ بواضحٍ
صَلتٍ كمنتصب الغزال الأتلع
وبمقلتي حوراء تحسبُ طرفَها
وسنانَ، حرَّةِ مستهلِّ الأدمع
واذا تُنازعك الحديثَ رأيتَها
حسناً تبسمها، لذيذَ المكْرع
بغريض سارية ادرَّته الصَّبا
من ماء اسجَرَ طيب المستنقع
ظلم البطاحَ له انهلالُ حريصةٍ
فصفا النّطافُ له بُعيدَ المقلع
لعب السيول به فأصبح ماؤه
غللاً تقطع في أصول الخِروع
واذا كان الشاعر قد المح في قوله: وتصدقت .. الخ البيت إلى قطيعة وقعت بينه وسمية هذه، فقد اتى في البيت التاسع والابيات التي تليه بما يؤكد أمر تلك القطيعة، حيث أخذ في الافتخار بقومه، وتعداد مآثرهم والخصال التي يفضلون بها غيرهم من القبائل. فذهب إلى القول بأن قومه رجال لا يخونون حلفاءهم، ولا يغدرون بهم، ولا تأتيهم منهم ريبة. وإذا حدث أن ضاقت بهم الحال أو تعقدت اسباب حياتهم فإن لديهم من العزيمة والصبر ما يمكنهم من تجاوز المحن. وهذا يعني أنهم لن يفكروا البتة في الاعتداء على حلفائهم أو في محاولة النيل منهم واخذ اموالهم بالقوة. ليس ذلك فحسب، بل إن نفوسهم تعف عن الجري وراء الغنائم عند الانتصار في ساحات الوغى والحرب. وذهب ايضاً إلى القول بأن قومه اصحاب فضل، وجود، وكرم... يجودون بأفاضل اموالهم واحسنها من ابل وغيرها حتى لا تتعرض أعراضهم إلى الخدش أو الطعن. وهم فوق كل ذلك، قوم موصوفون بالشجاعة وشدة البأس. فإذا لقي الرجل منهم خصماً أو عدوا طعنه برمحه ثم ترك الرمح في جسده قائلاً في وجهه: أنا ابن فلان أو أنا الفلاني ليكون ذلك أكثر ايلاماً له. ويواصل الشاعر مدحه لقومه فيزعم أنهم جديرون بخوض الغمرات في الكرائة والصعوبات التي تهلك الناس ولا يكون الظفر فيها إلا للقوي الشجاع. ذلك لأنهم رجال درجوا على اقامة بيوتهم في أماكن لا يقدر غيرهم على الاقامة فيها. وان حل وقت عانى فيه الناس من الجدب والمحل تمسك هؤلاء الرجال بالبقاء في احيائهم، ولم يشدوا الرحال في طلب المرعى والخصب كما يفعل سائر الناس. وان صادف أن مروا بمكان فيه من اسباب الخوف والفزع ما فيه لم يتحاشوه كما يفعل غيرهم، بل يقتحمونه اقتحاماً لترود فيه ابلهم وترعى. وقد صاغ الحادرة كل هذه المعاني في قوله:
أسُميَّ ويحكِ هل سمعت بغدرةٍ
رُفع اللواءُ لنا بها في مَجمعِ
إنا نَعفُّ فلا نريبُ حليفنا
ونكفُّ شحَّ نفوسنا في المطمع
ونقي بآمن مالنا أحسابنا
ونجرُّ في الهيجا الرماح وندّعي
ونخوض غمرة كلِّ يوم كريهةٍ
تُردي النفوس وغُنمها للأشجع
ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا
زمناً، ويظعن غيرنا للأمرع
ومحلِّ مجدٍ لا يُسرِّح أهله
يوم الإقامة والحلول لمرتع
بسبيل ثغرٍ لا يسرِّح أهله
سَقِمٍ يُشار لقاؤه بالإصبع
ولعلك تكون قد لاحظت الان كيف استطاع هذا الشاعر أن يربط ببراعة بين الجزء الأول من القصيدة الذي افرده للكلام عن سمية، وهذا الجزء الذي استهله بمخاطبتها. فهو موجه لها، وهي المعنية به دون غيرها من الناس.ولعلك تكون قد لاحظت ايضاً أن افتخاره بقومه لم يكن لمجرد الافتخار بالأهل والعشيرة، بل كان يرمي من ورائه إلى شيء آخر. يدلنا على ذلك أنه استخدم في مستهله صيغة تكشف عادة عن الانفعال أو عن الاستغراب والتعجب، وذلك قوله :«أسميَّ ويحك». وهذا الأمر يحملنا إلى الاعتقاد بأن علاقة الشاعر بمحبوبته قد اصابها شيء من الضعف أو الفتور. ولعلنا لا تذهب بعيداً إن زعمنا أن هذا الفتور ربما كان بسبب وشاية وصلت إليها بطريقة أو بأخرى تطعن في شرف الحادرة وكرامته، أو في قدرته على الوفاء والاخلاص مع من يحب ويعشق. ذلك لأن الشاعر قد نفى بشكل حازم وقاطع أن يكون من الذين يغدرون ويخونون العهود والمواثيق... فها هو يتحداها أن تكون العرب قد جرّبت عليه، أو على أي شخص من قبيلته، شيئاً من ذلك. وكان من عادة العرب في الجاهلية إذا غدر الرجل بخصمه رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليعرفه الناس. لم يكتف الشاعر بنفي سُبّة الغدر عنه وعن أهله وعشيرته، بل ذهب إلى حصر وعد الصفات التي تميزهم عن سائر القبائل العربية، وتضعهم في منزلة لا يطمع فيها غيره. ولعله يريد أن يقول لهذه الفتاة في نهاية الأمر انه رجل متميز، وانه قمين وجدير بعطفها وحبها، ولو تمادت هي في هجره والانصراف عنه تكون قد ظلمته، أو ارتكبت خطأً كبيراً في حقه.
يواصل الشاعر بعد ذلك افتخاره بالاشخاص الذين تربطه بهم علاقات وصلات حميمة. وظل في اثناء ذلك يردد اسم محبوبته بطريقة قد تكون اقرب إلى اسلوب المناجاة، فهي لا تزال المعنية بهذا الأمر.
ولكنه لا يفتخر هذه المرة بأبناء لحمته الذين يلونه، بل راح يباهيها بفكرة أن اصحابه وسماره نفر من نوع خاص. ولانهم كذلك فهو يخصهم دائماً بكرمه وفضله، ويقدم لهم أجود أنواع الطعام والشراب ولو نزلوا بداره في وقت السَّحر. وصف مجلس عبثهم ولهوهم، ووصف الحال التي يكونون عليها بطريقة تمكن المتلقي من معرفة ما كان يدور في مجالس الجاهليين، وذلك قوله:
فسُميُّ ما يدريك أن رُبَ فتيةٍ
باكرتُ لذَّتهم بأدكَنَ مُتْرعِ
محمرّة عقب الصَّبوح عيونهم
بمرىً هناك من الحياة ومَسمَع
متبطِّحين على الكنيف كأنهم
يبكون حول جنازة لم ترفع
بكروا عليَّ بسُحرة فصبحتهم
من عاتقٍ كدم الغزال مُشعشعِ
ومُعرِّضٍ تغلي المراجل تحته
عجلت طبخته لرهطٍ جوَّع
ولديَّ أشعثُ باسطٌ ليمينه
قسماً لقد أنضجتَ لم يتورَّع