خرج من البيت .. بدلته الجديدة تصدر حفيفاً مزعجاً، فالقماش مازال جديداً لم يُغْسَل بَعْد، وحذاؤه الجلدي اللامع بطريقة
مستفزّة يحاكي صوت نعلِه خطواته المتثاقلة، وربطة عنقه بلونها الفاقع كشخصيته مستقره فوق بطنه الممتد أمامه، وجهه
ناعمٌ كامرأة متصلٌّ بمقدمة رأسه الجرداء فلا يُعلَم أين يبدأ هذا وأين ينتهي ذاك! شاربه الدقيق حادٌ كمسطرة، وما تبقّى من
شَعْرِه يبرق تحت أشعة الشمس، يداه تتحركان حركاتٍ توحي بأنهما معلقتان تعليقاً حرّاً بجسده، وقدماه واضح جداً أنهما
ضاقتا ذرعاً بما تحملان..
تحتار كيف اجتمعت كل هذه الملامح "المميزة" في هيئة رجل واحد.
أمام باب السيّارة..
تساءل: هل فقدتُ أحد أصابعي ؟؟
أخذ يعدها..لسبب ما لديه قناعة بأنه فقد أحد أصابعه..
واحد
اثنان
ثلاثة
أربعة
خمسة
ستة
.
.
خمسة
ستة
.
.
ستة
سبعة
ثمانية
تسعة
عشرة!
أين الإصبع المفقود إذاً ؟!
أخذ يحدّق في الفراغ قليلاً، هَمْهَم، ونظر إلى قدميه..
- لعله من إحدى قدمي ؟؟
فكّر في أن يستند إلى الحائط بجواره، لكنه "قَذِرْ" وتلك مشكلة! ثم إن عليه أن يخلع حذائيه وجوربيه وحداً تلو الآخرحتى لا
يضطر أن يلمس الأرض حافي القدم، النظافة تعني له الكثير! أو لعله فقط يعاني من اضطراب نفسي ما، هو نفسه لم يستطع
تحديد ذلك، أنا شخصياً أعتقد أن قدراً كبيراً من تفكيره "مشوش"، لكن وفقاً لآخر جوائزه، فهو من أفضل العقول التي عرفتها
الأمة! إبداع يقوده الجنون كما يقولون !
توقف..استند إلى باب السيّارة، خلع حذاءه وجوربه من قدمه اليُمنى، تفقّد أصابعه..
- هممم، خمسة ..
أعاد هذه القدم كما كانت، انتقل إلى الأخرى..
- خمسة أيضاً !
حدّث نفسه بهذا في انفعال واضح، محيّرٌ هذا اللغز حقاً، غريبٌ جداً أن يجد المرء عشرين إصبعاً في جسده، الطبيعي غير
ذلك، وهو "متأكدٌ" أنه فقد أحد أصابعه، لكن المشكلة الوحيدة تكمن في "العثور" على هذا الإصبع "المفقود".
فكّر .. فكّر .. فكّر ..
لم يخطر بباله أبداً أنه لم يفقد شيئًا، فالخطأ ليس وارداً هنا، لا بد من تفسير منطقي لهذه القناعة غير المنطقية التي لديه !
في الواقع لم يهمه الأمر كثيراً، أعني أن يصدق نفسه، فقلما تفوّه بأشياء هو فعلاً مؤمن بصدقها، لكن الأمر أصبح أشبه بتحدّ
بالنسبة له، يجب عليه أن يجد طريقة يفسّر بها هذه القناعة الجديد، فكرة أخرى من أفكاره التي لا يمكن في الأوضاع الطبيعية
أن تكون محل نقاش حتى، تحتاج إلى مبرر لتصبح حقيقة واقعة !
أعاد التفكير مجدداً..
- لدي عشرة أصابع..ولكنني فقدت واحداً..كيف فقدته ؟؟
D:
أصبح التساؤل المطروح الآن: كيف فُقِد الإصبع ؟
فتح باب السيّارة..انزلق فوق كرسيها، لن أبدأ حتى بوصف صوت احتكاك بدلته بكساء الكرسي الجلدي ذي بالرائحة العَفِنة،
نظر إلى حزام الأمان لحظات أزاح الجزء منه الذي كان يعيق الباب، أشاح بوجهه، أدار المحرك..تحركت السيارة ببطء
شديد..على غير العادة..
مازال يفكر كيف فقد الإصبع..
(:
توقّف..
- كانت عشرة بالأمس..
- وهي عشرة اليوم..
- عشرة..
- عشرة..
- عشرة..
- أحدَ عَشَر!
تبسّم ابتسامة نشوة .. انطلق بسيّارته يكتنفه إحساس بالرضا .. ليس أسهل من أن تُنْكِرَ ما لَمْ يُوجَدْ !