تأليف د محمد محمد يونس علي
تفسير ابن تيمية للمجاز
يرى ابن تيمية أنه لمّا كانت اللغة تستخدم للتعبير عن محتويات العالم الخارجي، فلابد من وجود صلة بين بنية الواقع واستعمال اللغة بحيث تعكس اللغة ما هو موجود في الواقع. ونظرا إلى عدم وجود شيء مجرد في العالم الخارجي، بل كل الموجودات تُتصوّر مقيّدة بوجهٍ ما، فلا وجود إذن للألفاظ المطلقة للدلالة عليه.[xxxii]
"فلا يوجد في اللغة لفظ السواد، والبياض، والطول، والقصر، إلا مقيّدًا بالأسود، والأبيض، والطويل، والقصير، ونحو ذلك، لا مجرّدًا من كل قيد، وإنما يوجد مجردا في كلام المصنفين في اللغة؛ لأنهم فهموا من كلام أهل اللغة ما يرون به القدر المشترك"[xxxiii]
ويقصد بهذا أن يكون ردّا على مناصري التفريق بين الحقيقة والمجاز الذين ذهبوا إلى أن اللفظ المفرد مثل "الأسد" حقيقة، إذا اعتبر مجردا من القرينة، ومجاز إذا كانت هناك قرينة دالة على أن المتكلم يقصد "رجلا شجاعًا".
ولمّا كان ابن تيمية يعتقد اعتقادا راسخا أن الألفاظ المفردة (مثل "ذوق" في معناه المجرد) غير مفيدة، ومن ثمّ، غير دالة دلالة واضحة على الأشياء في العالم الخارجي، فإن هذا يقتضي أن تصوّره العمليempirical أو [الحسّي] للعلاقة بين اللغة والواقع يختلف اختلافا أساسيًا عن نظرة المناطقة الذريين، الذين يرون أن "كل لفظ بسيط من ألفاظ اللغة له معنى مفرد، ويمكن أن يوصف هذا إما مباشرة أو بضرب من الإيجاز من زاوية العلاقة بين اللفظ والشيء أو صنف الأشياء التي يدل عليها أو يسميها اللفظ في العالم الخارجي".[xxxiv] ولعله مما يجدر ذكره هنا أن ثمة أمرين على الأقل يثيران صعوبات جوهرية لهذه النظرة الذرية، وهما اختلاف بنية اللغات، وكون ترجمة كلمة بكلمة ليست إجراء جيّدا عادة للترجمة السليمة للنصوص، الأمر الذي يعطي مصداقية لرأي ابن تيمية أن الإفادة تعتمد على السياق.
إن ما تبقى من مناقشتي لتفسير ابن تيمية للمجاز سيلخص في ثلاث نقاط: الأولى تشديده على الأصول الآتية، التي لا يُعدّ لفظ بدونها جزءا فعليا من اللغة:
أوّلا: لا يكون اللفظ مفيدا إلا إذا نظم مع آخر لتأليف جملة في الأقل.[xxxv]
ثانيا: لا تدل الألفاظ إلا بالشروط الآتية:
أ) أن يكون المتكلم عاقلا، وأن يستعمل اللغة على نحو مفهوم متواضع عليه وفقا لعادة كلامه.
ب) أن يكون السامع عالما بعادة المتكلم في استعمال كلامه.
ت) أن يتكلم المتكلم طبقا لعادته.
ث) وأن يفترض السامع ذلك.[xxxvi]
وعلى أي حال قد يحتج المرء على أن ابن تيمية بأنه لم يوفق في إصراره على أن المعاني معتمدة على السياق حتى إنه لا يمكن معرفة معنى "ظهر" إذا جردت من القرائن. وسيكون جواب ابن تيمية هو أنه على الرغم من أن لفظًا مثل "ظهر" قد يستدعي صورة ذهنية لظهر الإنسان، فهو –مع ذلك- لا يشير إلى شيء معين على شكل علاقة أحادية، كما أنه لا يمكن أن يستخدم في الإسناد. علاوة على ذلك، فإنه لمّا كانت مرادات الألفاظ هي الغاية النهائية من التخاطب، ونظرًا إلى أنه من غير الممكن أن نضع لفظًا لكل معنى بمعزل عن السياق، فلا يمكن –بناء على ذلك- أن يعد اللفظ جزءا من اللغة.
أما النقطة المهمة الثانية في تفسير ابن تيمية للمجاز فهي أنه يسوّي المجاز بما يسمى في علم الأصول المشكّكات. وقد أوضح القرافي أن سبب تسمية المشككات بهذا الاسم هو أن الناظر يشك: أتصنف على أنها من المشترك، أم من المتواطئ. ويقصد بالمتواطئ "اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستو في محالّه". وعلى سبيل المثال، فإن كلمة "رجل" يطلق بالتساوي على كل من يمتلك السمات الآتية: (+إنسان +بالغ +ذكر). وقد عُرف المشكّك بأنه "اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محالّه".[xxxvii] فالنور مثلا يطلق على "نور الشمس"، و"نور المصباح"، على الرغم من اختلافهما. وكذلك هناك أنواع مختلفة من الوجود، كالوجود القديم والأزلي لله، ووجود مخلوقاته، والوجود الطبيعي، والغيبي، والوجود الذهني والوجود الخارجي، وهذه الأنواع المختلفة من الوجود داخل –في بعض اللغات في الأقل- تحت مصطلح واحد. وبناء على ذلك، فإنه ليس ثمة اختلاف جوهري –وفقا لابن تيمية- بين المجازات والمشككات يسمح لنا بوضعها تحت أسماء مختلفة، ومن ثمّ، معاملتها معاملة مختلفة. وفي تحليل الجمهور يفرّق بين المجازات والمشككات بالرجوع إلى الوضع: فإذا افترض أن وضع لفظ واحد لمعنيين أو أكثر تمّ بمقتضى وضع واحد، صنف اللفظ بأنه مشكّك، ومن ثم، عوملت المعاني التي يدل عليها اللفظ معاملة معنى واحد. ومن هنا عوملت الأنواع المختلفة من الوجود (التي سبق ذكرها) معاملة معنى واحد، وليس معاني مختلفة. فإذا افترض أن وضع لفظ لأكثر من معنى تمّ بأكثر من وضع في أوقات مختلفة، وأن واضع اللفظ للمعنى الجديد قد استند إلى علاقة بين المعنيين القديم والجديد، حكم على اللفظ بأنه مجاز، وهو ما أدّى إلى وجود المعنى المجازي. بيد أن هذا المعيار لا يرضي ابن تيمية:
أوّلا:ً لأنه ليس ثمة وسيلة يمكن بها تحديد أي المعنيين سابق على الآخر،
ثانيا: لأن الطريقة الوحيدة لمعرفة أن وضع اللفظ لأكثر من معنى قد تم بأكثر من وضع في حقب مختلفة هو أن نفترض أن اللفظ مجاز، وهذا يؤدي إلى الدور.
وعلى كلّ فهناك أمر يشترك فيه ابن تيمية مع الجمهور في تفسيرهم للمجاز، وهو وجود علاقة بين ما يعرف بالحقيقة والمجاز، ولكنّ هذه العلاقة –وفقا لابن تيمية- موجودة في المشكك أيضا؛ ولذا فكما أنه ليس من المعقول أن نقول: إن "الوجود" في معناه المجرد هو المعنى الحقيقي، وأن المعاني المقيدة (كالوجود القديم والأبدي لله، ووجود مخلوقاته الفانية، والوجود الطبيعي والغيبي) هي معان مجازية، فكذلك ليس من المقبول أن نقول: إن الأسد في معناه المجرد هو المعنى الحقيقي والمعنى الفعلي المقيد "الرجل الشجاع" هو المعنى المجازي لكلمة "أسد". وينبغي التنبيه هنا على أن المقصود بالمعنى المجرد يختلف اختلافا أساسيا عن المعنى المطلق، فالمعنى المجرد يشير إلى المقصود الذهني لمعنى اللفظ الناشئ عن اعتباره بمعزل عن سياقاته الفعلية، أما المعنى المطلق فيحسن بنا أن نشرحه في ضوء تمييز ابن تيمية بين الدلالة الوجودية والدلالة العدمية (يراجع 4. 7)، وكما ذكرنا سابقا، إذا سكت المتكلم عامدا عن تقييد لفظه في حديثه بطريقة متعارف عليها فإن سكوته يفسر بأنه محاولة منه لاستخدام اللفظ في معناه المطلق، أي المعنى المفهوم من اللفظ ومن سكوت المتكلم. وبناء على ذلك فإن كلمة "أسد" في "رأيت أسدا أمس" تستخدم للدلالة على معنى مطلق، في حين أنها تستخدم في "رأيت أسدا يخطب على المنبر" للإشارة إلى معنى مقيد. وخلافًا للمعنى المجرد يوصف المعنى المطلق بأنه داخل في الاستعمال اللغوي، ومن ثمّ، فهو مفيد، وهكذا يمكن القول إنه على الرغم من اعتراف السلفيين بوجود "المعنى المفرد" فقد استخدموه في مفهوم خاص ينسجم مع فكرتهم في أن الألفاظ لا تكون مفيدة إلا إذا استخدمت في مقامات تخاطبية معينة.
إن السؤال الذي ينبغي أن يثار هنا هو لِمَ ترفض السلفية أن تعد المعنى المطلق حقيقة، والمعنى المقيد مجازا. ووفقًا لابن القيم، فإن السبب يعود إلى أن هذا التفريق "غير منضبط، ولا مطرد، ولا منعكس". كما أن هذا التفريق يتضمن تمييزا غير ضروري بين أفكار متشابهة تشابها تاما؛ إذ إن مناصري المجاز لا يطلقون لفظ المجاز على كل الألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف الإطلاق والتقييد، وهو منطبق على أغلب –إن لم يكن جميع- ألفاظ اللغة.
وعلى كلّ فإن نقطة ابن القيم يمكن توضيحها كالآتي: إذا كان كل لفظ معناه المطلق يختلف عن معناه المقيّد عُدّ مجازًا، فستعد كل اللغة مجازًا، لأن هذا ينطبق على كل ألفاظ اللغة، وهو أمر واضح البطلان، إذ إن من البيّن أن معظم الألفاظ تستعمل في معانيها الحقيقية. ثم إن معظم مناصري المجاز يُقرّون بأن كل مجاز لابد له من حقيقة، ومن ثمّ، فإن الحقيقة –في رأيهم- أسبق، وأكثر شيوعا من المجاز. كما أنهم يعترفون بأن الحقيقة أصل والمجاز هو الفرع، فلو كانت كل اللغة أو معظمها مجازا لعُدّ المجاز أصلا، ولكان أولى في الحمل عليه من الحمل على الحقيقة، وهذا يؤدي إلى لبس في اللغة والتخاطب.[xxxviii]
كل ذلك يوضح أن النقطة الأساسية لابن القيم هي أن المعنى المفرد إما مطلق أو مقيد، فالمعاني المطلقة يدل عليها بالألفاظ المطلقة، والمعاني المقيدة يدل عليها بالألفاظ المقيدة، وكلا النوعين من المعاني: المطلقة والمقيدة تنتمي إلى الحقيقة (أي إلى الاستخدام السليم للغة). ولذلك فإن لفظ "الأسد" حقيقة سواء أريد به الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع؛ لأن المعنى المراد في كلتا الحالين محكوم بالقرينة الحالية، ولأنه ليس من المهم أكانت القرينة وجودية أم عدمية. ومع أن التمييز بين القرائن الوجودية والعدمية لا يبدو أنه استخدم من لدن ابن تيمية أو ابن القيم، غير أنه ضروري في أصولهما، ولاسيما فيما يتصل بالتفريق بين الدلالة الوجودية والدلالة العدمية، والتفريق بين المعنى المطلق والمعنى المقيّد؛ إذ لا يمكننا أن نجزم أن هذين التفريقين يمكن تفسيرهما دون الرجوع إلى هذا التمييز.
فإذا قارنا بين تفسير ابن تيمية وتفسير الجمهور للمجاز، فقد يمكننا القول أن تفسير ابن تيمية يسمح بمفهوم واسع للمعنى يمكننا أن ندرج فيه ما يسميه جمهور الأصوليين حقيقة، وما يسمونه مجازا. وهكذا فبدلا من القول بأن المعنى الحقيقي لكلمة "بحر" هو القدر الكبير من الماء، وقد تستخدم للإشارة مجازا إلى واسع العلم، يرى ابن تيمية أن البحر في إطلاقه يعني "الاتساع" ويمكن أن يستخدم تبعا للقرينة المناسبة للإشارة إلى البحر، أو إلى اتساع العلم.[xxxix] ومن ثمّ، فليس هناك فرق في المقاربة السلفية بين العلاقة التي تربط بين "سواد الحبر"، و"سواد القار"، والعلاقة الرابطة بين البحر، والإنسان الواسع المعرفة: فكما أن كلمة "أسود" التي هي من المشككات تدل على السوادين: سواد الحبر وسواد القار، ويمكن أن يشار بها إلى أيٍّ منهما، فكذلك كلمة "بحر" يمكن أن تستخدم للإشارة إلى اتساع الماء، وإلى اتساع العلم.[xl]
وينطبق هذا أيضا على كلمة "ذوق" التي يعاملها الجمهور على أن لها معنى حقيقي واحد هو وجود طعم الطعام أو الشراب في الفم، أما بقية المعاني فيعدونها معاني مجازية. وهذا في رأي ابن تيمية تصور غير سليم؛ لأن معنى "الذوق" في الواقع هو "وجود طعم الشيء" كما يذكر الخليل ابن أحمد الفراهيدي (175هـ/791م) سواء أكان طعامًا أم لا. وقد اقتبس ابن تيمية عددا من النصوص لدعم دعواه، ومن ذلك قوله تعالى:[xli]
(1) {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.[xlii]
(2) {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}.[xliii]
(3) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}.[xliv]
(4) {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا}.[xlv]
وبناء على ذلك، فبدلا من القول بأن "الذوق" تعني "وجود طعم الطعام أو الشراب" ويمكن أن تستخدم مجازًا للإشارة إلى أنواع أخرى من الذوق، يقول ابن تيمية: إن "الذوق" يمكن أن "يستعمل في كل ما يحسّ به"، وتقدم لنا القرينة الوسيلة الحقيقية التي يمكن بها اكتشاف المعنى المراد.
وعلى الرغم من أن هذا التفسير قد يبدو غريبا فالظاهر أن بعض مصنفي المعاجم كإسماعيل بن حمّاد الجوهري يجدونه عمليًّا حتى إنهم يفضلون أن يعاملوا كلمات مثل "بحر" على أن لها نطاقًا واسعًا من الاستخدامات، وليس على أن لها معاني مختلفة؛ ولذا فإن "البحر" ينطبق على البحر المعروف لعمقه، وسعته، وعلى الفرس واسع الخطا، وعلى كل نهر كبير.[xlvi]
وأما النقطة الثالثة التي تحتاج إلى عناية خاصة في تفسير ابن تيمية للمجاز فتتصل بالعلاقة بين اللفظ المجرد مثل "جناح" وتنوعاته الفعلية التي يقسمها الجمهور إلى حقيقة كما في "جناح الطائر" ومجاز كما في "جناح الذل"، بوصفها علاقة بين العام والخاص، أو بين المطلق والمقيد على الترتيب. والفرق بين العام والمطلق هو أن الأول يشير إلى صنف من الكائنات (التي يطلق عليها بحكم المواضعة اللغوية) بصرف النظر عن تنوعاتها الفردية، في حين يستخدم الثاني للإشارة إليها بقطع النظر عن تنوعاتها الوصفية؛ ولذا قد ينظر إلى "رجل" على أنه لفظ عام لانطباقه على زيد وعمرو مع اختلافهما، وقد يعد لفظا مطلقا لانطباقه على الرجل الخيّر والشرّير بقطع النظر عن تنوع أوصافهما.[xlvii] وعلى أي حال، فإن الفرق بين المعنى العام والمعنى المطلق ليس مهما هنا؛ إذن أن المشار إليه المقصود، أو معنى اللفظ مرتبط في الحالين بالمقام الذي أطلق فيه، وبعبارة أخرى، فإن وجه الشبه بين اللفظ المجازي كالأسد في "رأيت أسدا يخطب على المنبر" من ناحية، واللفظ الخاص والمقيد من ناحية أخرى هو اشتراكهما جميعًا في كونها ألفاظا تتوقف معرفة المراد منها على السياق indexical expressions.
وفضلا عن ألفاظ الخاص والمقيّد والمجاز ثمة أنواع أخرى عوملت معاملة الألفاظ المقيدة بالسياق في أصول ابن تيمية، ومن ذلك أسماء المعارف التي تشمل
1- المضمرات، نحو أنا وأنت وهو،
2- أسماء الإشارة، نحو هذا، وذلك،
3- الأسماء الموصولة، نحو {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}.[xlviii]،
4- الأسماء المعرفة، بأل نحو الرسول،
5- الأسماء الأعلام، كإبراهيم وإسماعيل ورمضان،
6- المضاف إلى المعارف، نحو بيتي، وبيت هذا الرجل، وبيت الذي ذهب الآن، وبيت الرسول، وبيت إبراهيم.
7- المنادى المعيّن، كقوله تعالى على لسان يوسف –عليه السلام-[xlix]:
(5) {يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}.[l]
يشير ابن تيمية إلى أن ألفاظًا نحو "رسول" و"بيت" قد يراد باستخدامهما الإحالة على المعنى العام، أو الإشارة إلى معنى أخص (بيت معيّن مثلاً)، ولتوضيح ذلك فقد مثّل بنحو
(6) {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.[li]
(7) {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم}.[lii]
فلفظ "الرسول" في النصين السابقين واحد، ولكنه يشير إلى شخصين مختلفين، وهو الرسول موسى –عليه السلام- في (6) والرسول "محمد" –صلى الله عليه وسلّم- في (7).[liii] وكذا فإنّ "أنا" و"أنت" و"هذا" و"ذاك" قد تستخدم إلى مراجع مختلفة في مقامات مختلفة.
والنقطة الأساسية التي يريد أن يطرحها ابن تيمية هي أنه على الرغم من أن هذا النوع من الألفاظ لا يستخدم مطلقًا دون قرينة لتحديد ما تشير إليه، ومع أن دلالة هذا النوع من الألفاظ تتألف من لفظٍ وقرينة لتحديد المشار إليه، فقد عوملت معاملة ألفاظ الحقيقة، ولم يدّع أحد بأنها من قبيل المجاز.[liv]
وطبقًا لابن تيمية، فإن الضمير "أنا" لم يستخدم مطلقًا قط؛ وذلك لأن المتكلم المجرد الكلي الذي هو قاسم مشترك بين جميع المتكلمين غير موجود في العالم الخارجي؛ إذ إن كل متكلم جزئي متميّز، ولذا فإذا أردنا أن نعرف المشار إليه، ومعناه، فإننا في حاجة إلى معرفة من هو المتكلم.[lv] وكما أنه ليس هناك متكلم مجرد-في رأي السلفيين-، فكذا ليس ثمة جناح مجرد، ولا ذوق مجرد، ولا ظهر مجرد، ولا بيت مجرد، بل ما هو موجود في العالم الخارجي، وما يشير إليه المتكلمون في مخاطباتهم إنما هو الجناح المقيّد، والذوق المقيّد، والظهر المقيّد، والبيت المقيّد. تأمل الأمثلة الآتية:
(8) {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}.[lvi]
(9) " {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}.[lvii]
(10) {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}.[lviii]
فكلمة "جناح" في كل هذه الأمثلة مستخدمة استخدامًا مقيّدًا للإشارة إلى موجود معيّن في العالم الخارجي، وليس من عادة المتكلمين أن يستخدموا "الجناح" أو أي لفظ آخر على نحو مطلق؛ ولذلك فليس هناك فرق بين "أنا"، و"جناح" يسوّغ تضمينهما تحت أنواع مختلفة. ثم إن العلاقة بين "جناح" في معناه المجرد، والذل في "واخفض لهما جناح الذل" مشابه للعلاقة بين "جناح" و"طائر"، فلماذا إذن –والسؤال لابن تيمية- عُدّ لفظ "الجناح" حقيقة في الحال الثانية، ومجازًا في الحال الأولى مع أن المتكلمين يستخدمون كلاّ منهما في معناه المقيّد؟ فإن قال قائل-يضيف ابن القيم-: لكن "الذل" ليس له جناح، قلنا له: صحيح أن "الذل" ليس له جناح مغطى بريش، ولكن له جناح معنوي يناسبه.[lix] وسوف لن أتعمق أكثر في مسألة سبب عدم عدّ السلفية "جناح الطائر" حقيقة، و"جناح الذل" مجازًا؛ لأنه نوقش سابقًا.
دعنا الآن نلخص هذه النقطة بالقول: إن القرينة هي العنصر الأساسي في تحديد المعنى المراد في كل قولة لغوية، ولاسيما في القولات التي تشتمل على مشكك، ومتواطئ، ومشترك. وإن كل زوج مما يسمى بالحقيقة والمجاز يمثل تنوّعين من لفظ مطلق أعم منهما. ومن ثمّ، فبدلا من القول: إن "جناح الطائر" حقيقة، و"جناح الذل" مجاز، يقول السلفيون: إن التعبيرين "جناح الطائر"، و"جناح الذل" تنوّعان مختلفان لـ"الجناح"، التي لها وجود ذهني فقط، و ليس لها وجود خارجي. وبعبارة أخرى، مثلما يمكن للفظ المشكك: "أبيض" أن يشير عند وجود القرينة المناسبة إلى بياض الثلج، وبياض اللبن، ويشير لفظ المتواطئ "رجل" إلى زيد، وعمرو، ويشير لفظ المشترك "المشتري" إلى المشتري [سلعة]، وإلى كوكب المشتري، فكذا لفظ الجناح يمكن أن يطلق بالتساوي على "جناح الطائر"، وعلى "جناح الذل" بشرط أن تحديد أي المعنيين هو المعنى المراد سيتوقف على القرينة.
ومن المفترض أن يكون لتفسير ابن تيمية للمجاز مزية واحدة في الأقل تفضله على تفسير أنصار المجاز، وهي مزيّة "كونه موضوعيًّا نسبيًا". وثمة ثلاثة أسباب في الأقل تجعل تفسير ابن تيمية للمجاز أكثر موضوعية من تفسير منافسيه:
1- لكونه لا يفترض سبقا زمنيا لمعنى على الآخر،
2- لكونه لا يدّعي أن أحد المعنيين أولى بأن يكون المعنى الأول للفظ من الآخر،
3- لكونه لا يقول بأن الحمل على معنى ما من معنيي اللفظ أو معانيه بأولى من الحمل على آخر، بل يفترض أن الحمل المعزّز بقرينة هو المعنى الوحيد الممكن والمراد.
وعلاوة على ما سبق لا يقبل ابن تيميّة بالعدول عما يسميه جمهور الأصوليين "الأصل".[lx] فالمجاز –في تصوّر ابن تيميّة- ليس بديلاّ تجميليًّا للحقيقة؛ لأنّ ما يعبّر عنه بالمجاز لا يمكن التعبير عنه بالحقيقةٍ، ويتوقف استخدام لفظ مطلق أو لفظ مقيّد على المقام التخاطبي وليس على اختيار المتكلم. كما أن العلاقة بين استخدام الألفاظ المطلقة واستخدام الألفاظ المقيّدة إنما هي علاقة تكامليّة، وليست استبداليّة. ثم إنه على الرغم من قبول ابن تيمية أن الكلام يختلف في بلاغته، ولبسه، فإنه لا يعتقد أن هذا يسوّغ تقسيم الكلام إلى مجاز وحقيقة.[lxi]
[i] Sperber and Willson, "Irony and the Use-Mention Distinction", pp. 550-564, pp. 551-552.
[ii] Searle, "Metaphor". Pp.520-524.
[iii] Davidson, "What Metaphors Mean", p.496.
[iv] السابق، ص 502.
[v] للاطلاع على مناقشة تاريخ مصطلحي الحقيقة والمجاز في التراث العربي الإسلامي، يراجع الآتي:
-Jonn Wansbrough, Quranic Studies (Oxford University Press, 1977).
-Ella Almagor, "The Early Meaning of Majaz and the Nature of 'Ubayda's Exegesis", Studia Orientalia Memoriae D.H.Baneth Dedicata (Jerusalem: Magnes, 1979), pp.307-326.
-Heinrichs, "On the Gensesis of the Haqiqa and Majaz Dichotomy", pp. 111-140.
-Gully, Grammar….
[vi] البصري، 1/11. لقد تبنى بعض من جاء بعده التعريف نفسه، ومنهم الرازي الذي تبنى التعريف دون تغيير، والقرافي، الذي غيّر "ما أفيد به" بـ "استعمال اللفظ"، واستخدم كلمة "العرف" بدلا من "الاصطلاح"، والشريف الجرجاني، الذي غيّر "ما أفيد به" بـ "الكلمة المستعملة". ينظر الرازي، 1/112؛ القرافي، شرح تنقيح، ص 42-43؛ الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 48 (الحقيقة).
[vii] See Lyons, Semantics, 2L551-552, Lyons,Language and Linguistics…p.147.
[viii] ينظر الآمدي (1983)، 1/24-25.
[ix] السيوطي، المزهر...، 1/369؛ وينظر أيضا السمرقندي، 1/208.
[x] الغزالي، كتاب محك النظر...، ص21.
[xi] ينظر الغزالي، معيار...، ص 56.
[xii] مصطلحا polysemy (مشترك) وmetaphor (استعارة) إغريقيّان، ويتكوّن الأول من poly بمعنى متعدد وsemy بمعنى معنى، (ينظر علي، وصف اللغة....، ص 346). أما المصطلح الثاني فهو مأخوذ من الإغريقية metapherein التي تعني النقل transfer. (Weiss, The Search, p.141) ولذلك فإن لفظي polysemyوmetaphor مرادفان اصطلاحيّان، وليسا حرفيين، لمصطلحي "نقل"، و"استعارة" على الترتيب، بل إن المعنى الحرفي لـ metaphor يؤهله لأن يكون ترجمة حرفية جيدة، وليس نظيرا اصطلاحيا لكلمة "نقل".
[xiii] إصرارًا منه على أن المشترك من قبيل الحقيقة، يستخدم البصري مصطلح "الحقيقة المشتركة" في مقابل "الحقيقة المفردة". ينظر البصري، 1/16-17.
[xiv] ينظر السابق، 1/11-12.
[xv] الموصلي، 2/21.
[xvi] ينظر البصري، 1/23-24؛ الرازي، 1/148-149؛ ابن تيمية، فتاوى، 20/405-406؛ الموصلي، 2/18.
[xvii] الموصلي، 2/6.
[xviii] تراجع أولى الحجج التي قدمت لصالح التفريق بين الحقيقة والمجاز (في المبحث السابق).
[xix] ابن تيمية، الإيمان، ص 109-110.
[xx] السابق، ص 110.
[xxi] ابن تيمية، فتاوى، 20/436-437، 449.
[xxii] السابق، 20/449-450.
[xxiii] السابق، 20/436.
[xxiv] ينظر السابق، 20/437. ينبغي مراعاة أن مثال ابن تيمية قد غُيّر لتوضيح فكرته.
[xxv] ينظر الموصلي، 2/68.
[xxvi] ينظر السابق، 2/7.
[xxvii] يبدو أن المكوّن الآخر هو الوضع.
[xxviii] ينظر السابق، 2/8.
[xxix] ينظر السابق، 2/68.
[xxx] ينظر السابق، 2/41.
[xxxi] السابق، 2/42.
[xxxii] ينظر ابن تيمية، الإيمان، ص 103-104.
[xxxiii] السابق، ص 104.
[xxxiv] Lyons, Semantics, 1/140.
[xxxv] ابن تيمية، فتاوى، 20/450.
[xxxvi] السابق، 20/446، 450، 459.
[xxxvii] القرافي، شرح تنقيح، ص 30-31.
[xxxviii] الموصلي، 2/22-23.
[xxxix] ينظر اقتباس ابن تيمية للمناظرة بين معارض ومؤيد للمجاز. ابن تيمية، فتاوى، 20/490-491.
[xl] السابق.
[xli] ينظر ابن تيمية، الإيمان، ص 104-105.
[xlii] القرآن الكريم، 32/21.
[xliii] السابق، 65/9.
[xliv] السابق، 44/56.
[xlv] السابق، 78/24-25.
[xlvi] الجوهري، الصحاح، (بحر).
[xlvii] ينظر القرافي، شرح تنقيح، 38-40.
[xlviii] القرآن الكريم، 5/55، 27/3، 31/4.
[xlix] ابن تيمية، فتاوى، 20/429.
[l] القرآن الكريم، 12/4.
[li] السابق، 73/15-16.
[lii] السابق، 24/63.
[liii] ابن تيمية، فتاوى، 20/427-428.
[liv] السابق، 20/430-431.
[lv] السابق، 20/430.
[lvi] القرآن الكريم، 17/23-24.
[lvii] السابق، 15/88.
[lviii] السابق، 6/38.
[lix] الموصلي، 2/20-21، 28-29.
[lx] ينظر ابن تيمية، فتاوى، 20/462.
[lxi] ينظر السابق، 20/462-463.
لمعرفة المزيد http://takhatub.blogspot.com/2009/12/blog-post_3692.html#ixzz0cIZPe8dW