تأليف د محمد محمد يونس علي
قبل أن نشرع في مناقشة حجج ابن تيمية على عدم صحة التفريق بين الحقيقة والمجاز، من الضروري أن نشير إلى أننا سنقتصر على ذكر الحجج العامة التي لا تخصّ التاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية. ومن المهم أيضا –لكي لا نظلم ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم- أن نؤكد أنّ رأيهما في موضوع المجاز سينظر إليه على أنه عنصر واحد من نظرية براغماتية معقّدة.
وفي سياق تحديّهما لمؤيدي الفرق بين الحقيقة والمجاز أن يقدّموا أي تمييز يمكن الاعتماد عليه بين الحقيقة والمجاز، يذكر ابن تيميّة وابن القيّم عددا من الحجج ضد هذا التفريق نذكر منها ما يأتي:
1- إن التفريق بين الحقيقة والمجاز مبني على دعوى زائفة تفترض وجود وضع سابق على الاستعمال، وقد ذهب ابن تيمية وابن القيم إلى أن هذا التفريق بين الحقيقة والمجاز لا يُقبل إلا إذا ثبت أنّ مجموعة من الناس
أ) اجتمعوا واتفقوا على إسناد أسماء إلى ما هو موجود في العالم الخارجي،
ب) ثم استخدموا تلك الألفاظ لتلك المعاني،
ت) وبعد اجتماع آخر وافقوا على استخدام الألفاظ نفسها لمعان مختلفة بمقتضى العلاقة بين المعاني الأصلية والمعاني الطارئة، وسموا الألفاظ التي تدل على المعاني الأصلية حقائق، والألفاظ التي تدل على المعاني الطارئة مجازات.[xvii]
إن جوهر هذه الحجة هو أن وجهة النظر التأثيلية etymologicalوالتعاقبية diachronic للمجاز غير صالحة؛ لأنها تقوم على مزاعم لا يمكن الاستدلال عليها. وبعبارة أخرى، إن الادعاء بأن أحد معاني اللفظ المتعدد المعنى حقيقي اعتمادًا على أنه أوّل معنى يوضع للفظ ادّعاء لا يمكن إثباته، بيد أنه ينبغي أن نلحظ أن ابن تيمية لا ينكر وجود علاقة بين المعاني الحقيقية والمجازية، كما أنه لا ينكر احتمال أن يكون أحد المعنيين أسبق زمنا من الآخر، ولكن ما ينازع فيه هو إمكان العثور على اختبارات موثوق بها يمكن للمرء أن يحكم بمقتضاها أن معنىً ما حقيقة أو مجاز. ومن ثمّ، لا يمكن الزعم –وفقا لابن تيمية- أنّ "الذوق" في أحد العبارات الآتية أولى من غيره بأن يوصف بأنه حقيقة: ذوق العذاب، ذوق الموت، ذوق الطعام والشراب. وسيتضح لنا أنّ ابن تيمية طوّر تفسيرًا تزامنياsynchronic بديلاً للمجاز سنناقشه فيما بعد (4. 8. 3).
2- وفي جواب ابن تيمية على الادعاء بأن اللفظ حقيقة إن دلّ بلا قرينة، ومجاز إن لم يدل بلا قرينة،[xviii] احتج بعدم وجود لفظ مفيد يدل مجردا من كل القرائن.
كما أنه يرفض الادعاء بأن اللفظ حقيقة إذا دلّ بقرينة لفظية (التي هي وضعية -خلافا للقرينة الحالية- )، ومجاز إن احتاج إلى قرينة حالية.[xix] وقد ذكر –في دفاعه عن هذا الرأي- أنّ
"اللفظ لا يستعمل قط إلا مقيدا بقيود لفظية موضوعة، والحال )حال المتكلم والمستمع( لابد من اعتباره في جميع الكلام، فإنه إذا عُرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يُعرف؛ لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه، واللفظ إنما يدل إذا عرف لغة المتكلم التى بها يتكلم،وهى عادته، وعرفه، التى يعتادها في خطابه، ودلالة اللفظ على المعنى دلالة قصدية إرادية اختيارية."[xx]
والظاهر أن قول ابن تيمية: إن "اللفظ لا يستعمل دون قيود لفظية وضعية" لا يبدو منسجما مع فكرة "المعنى المطلق" عند ابن القيّم، التي ستُفصل فيما بعد (4. 8. 3). ولكن ثمة –في واقع الأمر- طريقة للتوفيق بين الرأيين؛ لأن ما يعنيه ابن تيمية بالقيود عام جدا حتى إنه لا يقتصر على ما يقوله المتكلم، بل يشمل أيضا سكوته المناسب في أثناء كلامه.
3- وفي محاولته تفنيد ثاني حجج مناصري المجاز، يحتج ابن تيمية بأنه على الرغم من أن أحد معنيي (أو معاني) اللفظ متعدد المعنى يتبادر إلى الذهن قبل المعنى الآخر، فإن ذلك لا يسوّغ التفريق بين الحقيقة والمجاز، لأنّ معاني بعض ألفاظ الحقيقة قد تسبق غيرها إلى الذهن، وعلى سبيل المثال، فإن أهل اللغة يُجمعون على أن كلمة "ظهر" حقيقة في دلالتها على ظهر أي حيوان، "ومع هذا فكثير من الناس قد لا يسبق إلى ذهنهم إلا ظهر الإنسان"؛ إذ لا يخطر ببالهم ظهر الكلب، والثعلب، والذئب، والحوت، والنمل، والقمل. وكذلك إذا أقسم إنسان بألا يأكل الرؤوس أو البيض، فسيحمل كلامه عند الفقهاء على ما يؤكل عادة من الرؤوس أو البيض، وليس على رؤوس النمل، أو بيض السمك.[xxi]
وهكذا فإن "التبادر" في أصول ابن تيمية ليس عملية ثابتة محددة سلفًا، أو قابلة للتنبؤ، بل هي محكومة بالسياق بحيث إن ما يتبادر إلى الذهن في مقامٍ ما ربما لا يكون كذلك في مقامات أخرى: أي أنه ليس هناك معنى متبادر لكل كلمة في اللغة، بل السياق الذي ترد فيه الكلمة هو الذي يحدد أي المعاني المرجح تبادرها إلى ذهن السامع.[xxii] وبعبارة أخرى، فإن سبق معنى معيّن إلى الذهن دون غيره لا يعود إلى تنوّع في طبيعة الكلام في حد ذاته، بل إلى عوامل خارجية، كمدى ورود الكلمات في الكلام، ومناسبة المعنى لمقتضى الحال، وزمرة العوامل النفسية المتعلقة بطريقة عمل الذاكرة؛ ولذا فإن رجحان تبادر ظهر الإنسان على ظهر النمل إلى ذهن الإنسان عندما تذكر كلمة "الظهر" راجع إلى أن ظهر الإنسان أكثر استخدامًا في الاستعمال اليومي للغة.[xxiii]
وطبقًا لابن تيمية، ليس ثمة سمة مميزة في اللفظ نفسه يمكن للمرء أن يفرق بها بين الحقيقة والمجاز مثلما يمكن التمييز بين الجملة الخبرية والاستفهامية. ومهما يكن من أمر، فإذا كان الحال هو أنه لا توجد سمة مميّزة متأصّلة في اللفظ يمكن أن تساعد على تحديد الحقيقة من المجاز، فإن السؤال المطروح هو: لِمَ لا يُعدّ "التبادر" معيارا جيّدا للتمييز بين الحقيقة والمجاز، ولاسيما إذا أخذنا في حسباننا أن المتكلمين السليقيين في البيئة اللغوية نفسها قادرون عادة على اكتشاف المعاني المتبادرة لمعظم –إن لم يك لجميع- كلمات اللغة؟ وإذا وضعنا موقف ابن تيمية من هذه المسألة في سياقٍ حديثٍ فسيؤول الأمر إلى القول بأنه مثلما لا نرى ضرورة لجعل الدولار الكندي، مثلا، معنىً حقيقيًا، والدولار الأمريكي معنىً مجازيًا لكلمة "دولار" عند استخدامها في كندا، فكذا ليس هناك ما يدعو إلى عدّ "الحيوان المفترس" معنىً حقيقيًا و"الرجل الشجاع" معنىً مجازيًا لكلمة "أسد"؛ مادام المعنى المراد من هذه الكلمات يتضح في المقام الذي تستخدم فيه.[xxiv]
وبدلاً من القول بأنه لمّا ترجّح "الحيوان المفترس" على "الرجل الشجاع" في تبادره إلى الذهن على أنه معنى الأسد، الأمر الذي يؤهل المعنى الأول لأن يُعدّ حقيقة، والثاني ليكون مجازًا، فإنّ المعارضين لفكرة "المجاز" يفضّلون القول: ما يتبادر إلى الذهن أوّلا في المقام المناسب إنما هو المعنى المراد، ومن ثم الحقيقي للكلمة.[xxv]
4- بناء على افتراض أن المواضعات اللغوية تقع في المقامات التخاطبية الفعلية، وليس بمعزل عن القرائن، على شكل علاقة أحادية بين اللفظ والمعنى، قدّم ابن القيم حجتين، هما:
أ) أن الدعوى بأن الوضع مستقل عن الاستعمال ومتقدم عليه يستلزم نظريًّا أنه من الممكن أن نعزو معنى آخر إلى اللفظ قبل استعماله في معناه الأول، الأمر الذي يؤدي إلى نتيجة غير مقبولة، مفادها إمكان وجود مجاز غير مسبوق بحقيقة.[xxvi]
ب) لمّا كانت الدلالة، التي عرّفها بأنها "فهم معنى اللفظ عند إطلاقه" لا تحدث دون استعمال سابق، ولمّا كان الاستعمال يعني الحقيقة أو المجاز في رأي من عرّف الحقيقة بأنها "استعمال اللفظ في موضعه، أو جزء مسمى الحقيقة"[xxvii] في رأي من عرّف الحقيقة بأنها "اللفظ المستعمل في موضعه"، فإن دعوى أنّ الوضع (وهو إسناد معنىً للفظ) مستقل عن الاستعمال، ومتقدم عليه يؤول إلى القول بأن اللفظ قبل استعماله لا يكون حقيقة ولا مجازًا، مع دلالته على أحدهما في آن واحد، وهذا تناقض واضح.[xxviii]
5) إن التفريق بين الحقيقة والمجاز باطل سواء أنُظر إليه من جهة الدليل أو المدلول أو الدلالة: أما من حيث الدليل [أي اللفظ] فبطلان التفريق بين الحقيقة والمجاز لا ريب فيه؛ إذ لا يمكن لعاقل أن يقول: إن اللفظ يمكن تقسيمه إلى حقيقة ومجاز بقطع النظر عن معناه، فإذا نظرنا إلى هذا التفريق من جهة المدلول فهو باطل أيضًا، لأنه لا يمكن أن يكون المدلول في حد ذاته حقيقة أو مجازًا؛ إذ ما يمكن فعلا هو إثباته أو نفيه، وكذا فإن هذا التفريق بين الحقيقة والمجاز باطل إذا ما نظر إليه من جهة الدلالة؛ لأن المقصود بالدلالة: إما "فعل الدال" (الذي هو المتكلم)، أي "دلالته للسامع بلفظه"، أو "فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ"، وفي كلا هذين المفهومين للدلالة، فإن المعنى المراد من اللفظ هو "حقيقته" بصرف النظر عن وضوح اللفظ أو عدمه، وعن قدرة المتكلم أو عجزه عن بيان مراده، وبقطع النظر عن علم السامع بلغة المتكلم، وإلمامه بعادة خطابه.[xxix]
ومن ثمّ، فإن معظم الخلل في رأي الجمهور في المجاز عائد –في رأي ابن القيّم- إلى الخلط بين "الكلام المقدّر"، و"الكلام المستعمل".[xxx]ويعني بالأول المواضعات التي أسندت فيها الكلمات المفردة إلى معانيها، تلك المواضعات التي يفترض الجمهور أن الواضع وضعها؛ ولذا فهي المعاني الحقيقية.
إن الخطأ الكبير في تحليل مناصري المجاز هو
"أنهم يجرّدون اللفظ المفرد عن كل قيد، ثم يحكمون عليه بحكم، ثم ينقلون ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره، فيقولون: الأسد من حيث هو بقطع النظر عن كل قرينة هو الحيوان المخصوص، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير، وهذا غلط؛ فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام و لا يفيد فائدة أصلا، وهو صوت ينعق به".[xxxi]
[/justify]