2. التوكيد:
يعد التوكيد أسلوبًا بيانيًا من أساليب العربية يمثل رغبة المتكلم في تأكيد مضمون رسالته؛ التماسًا لتصديق المتلقي؛ فالمتكلم لا يؤكد كلامه إلا إذا كان المخاطب في حاجة إلى ذلك، وقد يرد الكلام بدون تأكيد حين يكون المخاطب خالي الذهن من مدلول الخبر. فيأتي بمؤكد واحد إن كان المخاطب مترددًا في تصديق ما يقال أو ظنَّ ذلك منه. في حين يأتي بأكثر من مؤكد - وقد يشفع ذلك بالقسم - إن كان المخاطب منكرًا ما يسمع كل الإنكار أو ظنَّ منه ذلك.
وقد أدرك علماؤنا وظيفة حروف التوكيد في دخولها على الجملة المثبتة؛ ونستشف ذلك من المحاورة المشهورة التي وقعت بين "أبي العباس ثعلب" في رده على "الكندي"، الذي لم يفهم من الأساليب الثلاثة إلا معناها اللفظي. على حين أدرك "ثعلب" المعنى السياقي من:
(أ) عبد الله قائم. (ب) إن عبدَ الله قائم. (ج) إن عبدَ الله لقائم.
ففي (أ) إخبار عن قيامه، و(ب) جواب عن سؤال سائل، و(ج) جواب عن إنكار منكر، ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًا، والثاني طلبيًا والثالث إنكاريًا. ولا شك في أن "ثعلب" قد راعى في تحليله مقصد المتكلم وحالته النفسية. وينقسم التوكيد إلى ضربين: (التوكيد بالأدوات، والتوكيد بتكرار اللفظ).
أولاً: التوكيد بالأدوات:
1. التوكيد بإنَّ المشددة: ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2)، وفيه أول ما جاء مؤيدًا بالتوكيد في سورة سيدنا "يوسف". حيث ذكر الله تعالى إنزال القرآن مؤكدًا بـ(إنَّ) ذلك أن كفار مكة - ومنهم اليهود الذين سألوا رسول الله أن يقص عليهم قصة "يوسف" - كانوا يطعنون بصدق نبوته، وبأن القرآن هو كتاب منزل من الله تعالى؛ لذلك وقبل البدء في القصة التي طلبوا سماعها من رسول الله ، جاء ذكر إنزال القرآن بأنه من عند الله مؤكدًا بـ(إنَّ)، لنفي ما زعموه، وتسفيه ما ظنّوه، وأضف إلى ذلك أن إنزال القرآن الكريم على النبي أمر غيبي، والغيبيات تحتاج إلى ما لا تحتاجه المحسوسات من التوكيد، إذ يأتي التوكيد - عند ذكرها - رفعًا للشبهة ودفعًا للظنّ، ودرءًا للخاطر إن جاء مشككًا أو منكرًا. ومنه كذلك قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف/ 36)؛ فقد جاء كلام المسجونين مؤكد لأمرين إما لأنه كانت عادتهما المزح، وإما لأنهما ما رأيا شيئًا، وإنما صنفا هذا ليختبراه به. ومنه كذلك قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف/ 97) وجاء اعترافهم هذا مؤكدًا بمؤكد واحد (إنّ)، في حين جاء اعترافهم أمام أخيهم ﴿إِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف/ 91) بمؤكدين؛ ولذلك دلالة لابد من الوقوف عليها: لقد كان "يوسف" هو المقصود بالإساءة، وهي إساءة مقصودة، متعمدة على حين لم تكن إساءتهم لأبيهم متعمدة؛ ومن ثم جاء الكلام مؤكدًا بمؤكد واحد.
2. التوكيد باللام: وترد (اللام) الداخلة على المبتدأ؛ لإفادة توكيد مضمون الجملة، نحو قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ (يوسف/8)، وفائدتها تحقيق مضمون الجملة الواردة بعدها: أي أن زيادة حبه إياهما أمر ثابت لا مراء فيه، وقيل هي في جواب قسم مقدر تقديره (تالله ليوسف). كما تدخل (اللام) على الخبر لتوكيده كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف/ 3) وذلك دفعًا لأي شك أو تردد في شأن معرفة النبي بهذه القصة قبل نزول القرآن عليه، فأكد غفلته عن الأمر تأكيدًا لا يغضّ من قدر رسوله، بل يدل على صحة نبوته وصدق دعوته . وقيل إن اللام أفادت تقوية العامل المتأخر عن موضعه كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ (يوسف/43)؛ فالتركيب الأصلي لها: (إن كنتم تعبرون الرؤيا)، ويجوز حذفها في غير القرآن؛ لأنه يقال (عبرت الرؤيا).
كما تدخل اللام على النفي فتأكده كما في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ (يوسف/: 76)، والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي، وغيره أن يضاعف عليه الغرم، وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو في شريعة "يعقوب" فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال. ومنه كذلك مجيء اللام في قوله تعالي: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾ (يوسف/56)؛ فأصله (مكنا يوسف).
3. التوكيد بمؤكدين: (إن واللام): كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (يوسف/53) فقد جاء الكلام منتفيًا على لسان امرأة العزيز باعترافها بالذنب، ثم جاء معللاً بتوكيد أن الذنب من صفة النفس البشرية على اطلاقها، وقد عدلت عن (نفسي) إلى (النفس) لتسعى إلى إثبات بقية من حسن الظن بها، فقد أكدت كلامها بـ(إن واللام)؛ وقيل إن المتكلم هنا "يوسف" نافيًا عن نفسه تنزيهها عن السوء من حيث هي هي ولم يسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله عز وعلا وإنما ذكر إن النفس البشرية التي من جملتها نفسه في حد ذاتها لأمارة بالسوء مائلة إلى الشهوات.
وقد فسر النحاة اجتماع (إن واللام) بأن الأصل كون الكلام مؤكدًا بـ(اللام) الابتداء ودخلت عليه (إن) فاستوجب ذلك نقل (اللام) من المبتدأ إلى الخبر لأن لا يتوالى مؤكدان، وذلك مع الخبر على اختلاف أنواعه فمن المفرد قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ (يوسف/11) ، لما اتفق إخوة "يوسف" على إلقاء أخيهم في غيابة الجب، ولم يبق أمامهم إلا إقناع أبيهم بأخذه، ذهبوا إليه و﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى "يوسف" وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ ثم قالوا: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (يوسف/ 12) وهنا جاؤوا كذلك بمؤكدين، فمجيء قضيتي (النصح، والحفظ) مقترنتين بالتوكيد يعني أن سيدنا "يعقوب" كان منكرًا للمضمون الذي جاء فيهما، ويبدو أن إخوة "يوسف" عرفوا ذلك عن أبيهم، وأيقنوا عدم ثقته بهم، فجاؤوه بهذه المؤكدات رغبة في إقناعه بصفاء نيتهم، وصدق ادّعائهم. وليس أدلّ على ذلك من قولهم ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُف﴾ (يوسف/ 11) ففيه إقرار منهم بعدم ثقة أبيهم بهم.
وقد يكون الخبر جملة اسمية، كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ﴾ (يوسف/90)؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت، وقد يكون الخبر جملة فعلية، كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ (يوسف/13) وقد أفاد دخول (اللام) على المضارع هنا اختصاصه بزمان الحال؛ لكون الجملة الفعلية تفيد الدوام والاستمرار، ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ (يوسف/ 13) وجاء هنا بمؤكدين (إنَّ، واللام في ليحزنني) أكد سيدنا يعقوب حزنه لذهاب إخوة "يوسف" به، لأحد أمرين: إما أن يكون ذلك ردًا على قولهم ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ فأراد بتوكيد الحزن دفع ما ظنوه من عدم الثقة بهم، فأكد لهم أن سبب ذلك إنما حزنه على فراقه لا الخوف منهم عليه. أو أنه أراد أن يؤكد لهم: إن حزني لا بسبب بعده عني، بل بسبب ذهابكم به، فذهابكم به هو الخطوة الأولى التي تتيح لكم الإساءة إليه. فأكد حزنه على ذهاب "يوسف" معهم لأن ذهابه معهم هو الذي سيجلب عليه الحزن والهم.
وقد يكون الخبر شبه جملة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (يوسف/8). فإن سأل سائل لما جاء كلام أخوة "يوسف" مؤكدًا بأداتي توكيد (إن واللام) وليس بينهم من يشك أو يتردد في أن "يوسف" وأخاه أحب إلى أبيهم منهم، ولا بينهم منكر أن أباهم في ضلال مبين. فلماذا إذًا جاء الكلام مؤكدًا وهم في غير حاجة إلى توكيد ما هم متفقون عليه ومجتمعون بسببه!؟
إن مجيء الكلام مؤكدًا في قولهم ﴿ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ (يوسف/8) يؤسس لاقتراح غريب سيطرحونه، وصولاً إلى قرار جريء سيتفقون عليه، وهو التخلص من أخيهم يوسف؛ لذا أرادوا تأكيد الأسباب المؤدية إلى هذا الاقتراح حتى يبدو اقتراحًا مقبولاً، له أسبابه ودوافعه. فبدؤوا بتوكيد أمر محبة أبيهم أخاهم "يوسف" بمؤكد واحد ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ ثم صعّدوا الموقف بتوكيدين ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ ليأتي عقب ذلك مباشرة قولهم: ﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾، ولولا ما قدموه من أعذار مؤكدة، غير قابلة للشك (في زعمهم)، ما كان اقتراحهم (قتل أخيهم) أمرًا مقبولاً؛ من هنا كان لابدّ - وصولاً إلى هذا الاقتراح - من توكيد الأسباب المؤدية إليه!!
4. وقد يكون التوكيد باللام والنون الثقيلة: ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف/ 15) وقد جاءت البشرى مؤكدة بقسم محذوف قبل (لتنبئنّهم) دلت عليه اللام الواقعة في جواب القسم، كما جاء الفعل مؤكدًا بنون التوكيد الثقيلة، وقيل إن التوكيد بالنون الثقيلة يُعادل ذِكر الفعل مرتين أو ثلاثة، وما هذه المؤكدات في هذا الوقت الحرج إلا زيادة في بث الطمأنينة في نفس "يوسف" بأن نجاته من محنته أمر كائن لا محالة، وتوكيد الأمر أدعى إلى الثقة والاطمئنان.
5. التوكيد بأكثر من مؤكدين اللام وقد ونونا التوكيد الثقيلة والخفيفة: في قوله تعالى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف/ 32) انظر إلى توكيدها أمر مراودة "يوسف" عن نفسه ﴿لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ﴾، وقد جاء هذا التوكيد بعد إدراكها أن النسوة قد رأين في حُسْنِ "يوسف" عذرًا مقبولاً لما أقدمت على فعله، فلم يعد ثمة حرج إذًا في توكيدها الإقدام على هذا الأمر. فاعتراف امرأة العزيز أمام النسوة وقد هتكت أمامهن ستر الحياء: ﴿لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ﴾ كيف جاء الاعتراف مقترنًا بالتوكيد، بعدما رأت في موقف النسوة عند رؤيتهم "يوسف" ما يبرر فعلها؛ فدخول "قد" في الجملة الفعلية المجاب بها عن القسم أفادت التوكيد كدخول إن واللام في الجملة الاسمية، ثم تقول: ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف/ 32) لقد حمل كلامها تهديدًا ووعيدًا، وجاء حافلاً بالمؤكدات التي تصور عزمها على إنفاذ تهديدها فأكدت بـ(لئن) الدالة على قسم محذوف قبلها، وبـاللام ونون التوكيد الثقيلة في (ليسجننّ) لتحققه، واللام ونون التوكيد الخفيفة في (ليكونن) لأنه غير متحقق، وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه، فاكتفت امرأة العزيز في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة، والأمر فيما نرى يحتمل وجهًا آخر والله أعلم: لقد أكدت امرأة العزيز بنون التوكيد الثقيلة ما هي قادرة على فعله، أي سجن "يوسف" ، أمّا الذل والصَّغار فأمران معنويان لا يملكهما إلا الله سبحانه وتعالى. والإذلال أمر لا يخرج عن كونه مجرد احتمال، فكيف لها أن تؤكد ما لا قدرة لها عليه، ولا بيدها حدوثه... !؟ توعدت امرأة العزيز "يوسف" بالسجن، بقولها: ﴿ليسجننَّ﴾ وقد كان لها ما أرادت ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ (يوسف/ 35) وانظر إلى البيان الإلهي في تكرار لفظة ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ مؤكدة بالمؤكدين نفسيهما في الحالتين، إشارة إلى أن امرأة العزيز نفذت تهديدها كما أرادت تمامًا. أما الإذلال فليست تمتلك وسائله أو أدواته، لأنه خارج عن إرادتها فلم يكن لها ذلك، إذ كان سيدنا "يوسف" في سجنه داعيًا إلى الله، مبلغًا رسالته.
6. التوكيد بالقسم واللام: فما كان من إخوته لما سمعوا ذلك إلا أن قالوا ﴿تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ (يوسف/ 73) وقد جاء قولهم مؤكدًا بالقسم (تالله)، و(لقد) وذلك على الرغم من ثقتهم ببراءتهم من هذه التهمة، لكن الاتهام الذي جاء مؤكدًا بمؤكدين ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ (يوسف/ 70) كان لابد من الردّ عليه برد مشفوع بالتوكيد، خصوصًا أن أخوة "يوسف" تعوّدوا أن يكونوا موضع الشك والشبهة، وإنما لم يكتفوا بنفي الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاما للحجة عليهم وتحقيقا للتعجب المفهوم من تاء القسم، ومثله قوله تعالى: ﴿قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ "يوسف" حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ (يوسف/ 85)، وقد جمعوا بين القسم والتعجب في قولهم (تالله) فأكدوا أن تذكره "يوسف" سوف يؤدي به إلى الهلاك؛ فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر "يوسف" متفجعا عليه حتى تكون حرضًا مريضًا مشرفًا على الهلاك وقيل : الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا، وأرادوا بذلك أن يصرفوه عن فعله هذا، وتعجبوا في الآن ذاته من تذكره "يوسف" بعد هذا الزمن الطويل على فقده وغيابه عنه. وأمام هذا الواقع وقف إخوة "يوسف" و﴿قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (يوسف/ 91) وفي قولهم هذا أمران تدور حولهما مجمل أحداث القصة، ويلخصان في الوقت نفسه طبيعة العلاقة بين "يوسف" وإخوته. هما: فضل "يوسف" على إخوته ﴿تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا﴾، وخطيئة إخوة "يوسف" في حقه ﴿إِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ نحن إذًا أمام إقرار من إخوة "يوسف" بأن الله فضل أخاهم عليهم، واعتراف منهم بما اقترفوه من إساءة في حق أخيهم. وجاء الإقرار مؤكدًا بالقسم المتضمن معنى التعجب (تالله) لما آلت إليه أمور "يوسف" وأحواله، وجاء مؤكدًا بـ(لقد) وهذا من باب المبالغة في توكيد الأمر وتثبيته. كما جاء اعترافهم مؤكدًا بمؤكدين أيضًا (إن) المخففة من (إنّ) (اللام في لخاطئين).
ثانيًا: التوكيد بالتكرار:
مفهومه عند النحويين: «التكرير ضم الشيء إلى مثله من اللفظ مع كونه إياه في المعنى للتأكيد والتقرير»، وعند البلاغيين هو دلالة للفظ على المعنى مرددًا، وعند النصيين «إعادة عنصر معجمي ما أو مرادفه أو شبهه أو عنصر مطلق أو اسم عام»، وذلك لكون التكرير يعتمد على ترداد اللفظ أو إعادة ذكره بنفسه أو بمعناه سواء أكان هذا المعنى مصاغًا في كلمة مفردة أم في جملة.
صور التكرار:
تعددت أشكال التكرار داخل النص ومنها:
1. إعادة تكرار اللفظ نفسه، وينقسم إلى نوعين: (تكرار كلمة وتكرار جملة).
أما تكرار الكلمة فيقع في الكلام لعدة أغراض منها:
* الربط بين المقدمات والنتائج: فمنه قوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (يوسف/23)، وقد جاء ردّه هذا مؤكدًا بـ(إنّ) في موضعين: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾: إن سيدي أكرمني وأحسن إقامتي عنده وأنعم عليّ. وتمثل هذه الجملة (المقدمات). و﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾: إنّ الإساءة إلى من أحسن إليّ ظلم، عاقبته الخيبة والخسران. وتمثل هذه الجملة (النتائج). والقولان جاءا مؤكدين بـ(إنّ)، إذًا إن المقدمات التي جاءت مؤكدة لاشك ستفضي إلى نتائج مؤكدة أيضًا؛ وهذا كله من باب إقناع امرأة العزيز بالحجة والمنطق، وهو في الآن ذاته شريعة الله القائمة على العدل، ولو خلت إحدى الجملتين من التوكيد لاختلّ التوازن بين المقدمات والنتائج؛ فالكلام جاء على أحسن ترتيب جامع بين المقدمة التي هي حق الله، وما يستوجبه من البعد عن هذا العمل، وحق سيده الذي أنعم عليه، وما يستوجبه من البعد عن الوقوع في إساءته، وأيضّا صون النفس عن الضرر واجب فجاءت الجوابات الثلاثة مرتبة على ما تقدمها من مقدمات، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فهو يربط بين المقدمات والنتائج، إنّ من يتق الله ويصبر (هذه المقدمات) فإن الله لا يضيّع أجر المحسنين (هذه النتائج)،
* رعاية للفاصلة: كتكرار (لعل) في قوله تعالى: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف/46)؛ فكرر (لعل) رعايةً لفواصل الآي، إذ لو جاء بمقتضى الكلام لقال: (لعلي أرجع فيعلموا) بحذف النون على الجواب، ومثله في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (يوسف/62)؛ فمقتضى الكلام: (لعلهم يعرفونها فيرجعون).
* ومنه ما يكون بتكرار اللفظ مع التجانس، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ (يوسف/84)؛ فالتوكيد هنا جاء من التجانس بين لفظتي (الأسف، ويوسف) مما يقع مطبوعًا على غير مستعمل فيبدع، ويملح.
* ومنه ما يكون بتكرار الفعل بالمصدر كما في قوله تعالى: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ (يوسف/5)؛ لأنه ناب عن تكرار الفعل نفسه كأن يقال (يكيدُ يكيدُ) فعوض بالمصدر عن الفعل؛ والتأكيد بالمصدر أولى من التأكيد بالفعل لكون المصدر اسمًا والفعل أثقل من الاسم ويتطلب ضميرًا؛ فيصير جملة فيزداد ثقلاً، وقيل إن (اللام) هنا دخلت مع الفعل المتعدي بنفسه فجعلته كالقاصر؛ ومن ثم أفادت دلالة التخصيص.
* ومنه تكرار الضمير: حيث يعد الضمير من مؤكدات الجملة الاسمية فهو يفصل بين المبتدأ والخبر، فيفيد التخصيص والتوكيد، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (يوسف/37)؛ فتكرير (هم) للدلالة على أن أهل مصر هم المخصوصون بكفر الآخرة، وأن غيرهم كانوا قومًا مؤمنين بها وهم الذين على ملة "إبراهيم" ؛ ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهًا على ما هم عليه من الظلم والكبائر.
وكذلك يؤكد الضمير المتصل بالمنفصل كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (يوسف/ 69)، فلمّا أراد "يوسف" أن يستبقي أخاه عنده أسرَّ إليه وجاء قول "يوسف" مؤكدًا بـ(إنّ) وضمير الفصل (أنا) الذي يفيد التوكيد أيضًا، لأن الأمر يبدو غريبًا، فيوسف الذي غاب هذه السنوات الطويلة، دون أن يُعلم مصيره، هو الآن عزيز مصر، ولشدة ما في الأمر من غرابة كان لا بدّ أن يأتي قوله ﴿إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ﴾ مشفوعًا بالتوكيد، ومثله قوله تعالى: ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ﴾ (يوسف/ 90) فقد جاء الضمير (أنت) مؤكدًا لـ(الكاف) في (إنك) ووصفه له يزيده تأكيدًا؛ لأن الكلام جاء على لسان إخوة "يوسف" على سبيل التأكيد بما كان مظنونًا به من كون عزيز مصر هو أخوهم "يوسف" ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (يوسف/ 6) جاء مؤكدًا بمؤكد واحد عند تفسير الرؤيا، أما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف/ 100)، بعد أن تأكد كل شيء، وأصبح واقعًا ملموسًا، جاء قول "يوسف" مؤكدًا بـ(إنّ) وضمير الفصل (هو) وجاءت كلمتا (عليم، وحكيم) معرفتين بـ(أل): (العليم الحكيم)، وهذه الـ(أل) تفيد الاستغراق، فالله تعالى هو العليم الذي ينتهي إليه كل علم، الحكيم الذي تنتهي إليه كل حكمة وفي هذا توكيد لهذه الصفات.
أما تكرار الجملة وأعني به الجملة التي ذُكرت أكثر من مرة في سورة "يوسف" مع اختلاف غرضها ومنها قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ (يوسف/18، 83)؛ فالأولى كانت نعيًا لـ"يوسف" . أما الثانية فكانت نعيًا لـ"بنيامين"، وكذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ (يوسف/23، 79)؛ فالأولى جاء في سياق المواقعة، والعوذ من الوقوع فيها. أما الموضع الثاني فجاء في سياق تغيير حكم السرقة، ومنه كذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ (يوسف/31، 51)؛ فالأولى كان في حضرة "يوسف" حين نفين عنه البشرية بزعمهن، والثانية بظهر الغيب حين نفين عنه السوء. وكذلك قوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ﴾ (يوسف/73، 85، 91، 95) فقد جاءت في أربعة مواضع الأول: يمين منهم أنهم ليسوا سارقين، وأن أهل مصر بذلك عالمون، والثاني: يمين منهم أنك لو واظبت على الحزن تصير حرضًا، أو تكون من الهالكين، والثالث: يمين منهم أن الله فضله عليهم، وأنهم كانوا خاطئين. والرابع: وهو يمين من أولاده على أنه لم يزل على محبة يوسف.
وكذلك تكرر الجملة لطول الفصل بين إن واسمها وخبرها، وذلك أنه طال الفصل من الكلام، وكان أوله يفتقر إلى تمام إلا يفهم إلا به، فالأولى أن يعاد اللفظ الأول مرة ثانية، ليكون مقارنًا لباب الفصل، كي لا يجيء الكلام منثورًا ولاسيما في إن وأخوتها، كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يوسف لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف/ 4). حيث كرر فلما قال "إني رأيت" ثم أطال الفصل كان الأحسن أن يعيد لفظ الرؤية فيقول: "رأيتهم لي ساجدين". بهذا أخبر سيدنا "يوسف" أباه عن أمر رؤياه، وجاء بكلامه مؤكدًا بـ(إنّ)، ثم بتكرار فعل الرؤيا مرتين (رأيت، ورأيتهم). وجاء هذا التوكيد في معرض الحديث عن أمر غير مألوف، فيه من الغرابة ما يُخشى معه أن يشك السامع في صدق ما يسمع، لذا جاء ذكر الرؤيا مقترنًا بالتوكيد (إني رأيت، ورأيتهم) دفعًا لشك قد يخامر سيدنا يعقوب في صدق ما يقوله هذا الغلام الصغير، ويشترط لهذا النوع من التكرار وحدة المحيل إليه في اللفظين المتكررين حسب مبدأي الثبات والاقتصاد.
2. التكرار بإعادة المعنى (الترادف): وقد عرف المحدثون المترادفات بأنها «ألفاظ متحدة المعنى وقابلة للتبادل بينها في أي سياق». وكما عرفه النصيون بقولهم هي تعبيرات استبدال سبقت صياغتها في النظام «قابلة للتوسيع أحيانًا أيضًا». وهذا النوع من التكرار يلي ما سبق في الأهمية، ويمكن عده من أوجه الصياغة الاسمية المتكافئة نصيًا، وهي تشبه المترادفات النصية وتكمن أهميته في كون المترادفات متحققة في النص فعلاً، وهي التي أعيد تعيينها من خلال المتكررات المعنوية، وهذا يُعمَد إليه لتأكيد فكرة ما أو إثباتها أو الحث عليها.
وهو إمـا ترادف تام Synonymy Complete أو شبـه ترادف Near Synonymy.
* أما الترادف التام فمنه (البث، والحزن) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ (يوسف/86) فهناك من يرى أن (البث، والحزن) بمعنى واحد؛ وإنما كرره هاهنا لشدة الخطب النازل به، وتكاثر سهامه النافذة في قلبه. على حين نجد من العلماء من يفرق بينهما؛ ملتمسًا فروقًا عدة؛ وهذا الفريق يرى أن لكل لفظ في القرآن معنىً لا يتأتى من وضع غيره موضعه.
* أما شبه الترادف ويقصد به تكرار المعنى مع وجود فروق بين المعنيين في دلالة اللفظ مثل (حلم، ورؤيا) فهما مشتركان في كونهما رؤيا نائم، إلا أن (الحلم) يتصل بالأضغاث. على حين تختص (الرؤيا) بـ(الرؤى الصادقة) ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾ (يوسف/43-44) والمعجمات تفسر (الرؤيا) بالحلم؛ ومن ثم يرى "الكفوي" أن كل منهما يمكن أن يستعمل مكان الآخر، إلا أن الأسلوب القرآني لا يجيز وضع أحدهما موضع الآخر؛ فقد استعمل القرآن لفظة (الأحلام) مجموعة دائمًا للدلالة على الأضغاث المهوشة والهواجس المختلطة. أما لفظة (الرؤيا) فقد جاءت في القرآن سبع مرات، كلها في الرؤيا الصادقة وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد؛ دلالة على التميز والوضوح والصفاء؛ ومن ثم يتبين أن (الرؤيا، والحلم) مشتركان في المعنى العام، إلا أن الرؤيا تغلب فيما يُرى من الخير، والحلم فيما يُرى من الشر والقبح.
3. هذا وقد يرد التكرار بواسطة كلمة شاملة تندرج تحتها كلمة أخرى، وهو ما يطلق عليه الاسم الشامل Super Ordinate.
التفاوت في العموم كـ(السوء، والفحشاء) في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف/24)، فقد فرق أكثر المفسرين بينهما موضحين أن (السوء) خيانة السيد، و(الفحشاء) الزنا. أما "الألوسي" فيزيد الأمر وضوحًا فيقول: (السوء: مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة. وقيل هو الأمر السيئ مطلقًا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها). أما صاحب المفردات فنجده يذكر أن (السوء): هو كل ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة من فوات مالٍ وجاهٍ وفقد حميم، على حين ذكر أن (الفُحش، والفحشاء، والفاحشة) ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وكثيرًا ما كُني بها عن (الزنا) كما هو الحال في الآية؛ ومن ثم يكون (السوء) أعم من (الفاحشة)، والعلاقة بينهما علاقة خصوص بعموم.
4. التفصيل بعد الإجمال: ويُعنى به شرح ما أجمل سابقًا؛ ولذلك يحمل التفصيل مرجعية خلفية لما سبق إجماله، كما في قوله تعالى: ﴿اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ (يوسف/ 38)، وقد جاء الإجمال في لفظة (أبائي)، ولما كان اللفظ يشمل كل أباء "يوسف" من والده "يعقوب" إلى "آدم" ، ومنهم من لا يصح إتباع ملتهم؛ لذلك احترز "يوسف" من هذا العموم فذكر آباءه الذين يتبع ملتهم مرتبًا إياهم ترتيبًا تنازليًا؛ مبتدءًا بصاحب الملة وهو "إبراهيم" ثم من أخذها عنه "إسحاق"، و"يعقوب" عليهما السلام، وبذلك جاء السياق مفصلاً بعد إجمال.
وهكذا يشكل التوكيد - حضورًا وغيابًا - ركنًا أساسيًا في البناء الأسلوبي للحوار في قصة "يوسف" إذ لعب دورًا مهمًا في الكشف عن طبائع شخصيات القصة وميولها وأهوائها.