بسم الله الرحمن الرحيم
الفرق بين الآيات المحكمات والآيات المتشابهات
مقدمة:
يتكون كتاب الله (القرآن) من جزءين رئيسين: كتاب أخبار العقيدة وهو الذي تحدثت عنه الآية: ( ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) 23 الزمر وكتاب الأحكام أي المنهج الذي يجب اتباعه قد تحدثت عنه الآية: (هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) 7 آل عمران
وكل منهما (أي كتاب الأخبار وكتاب الأحكام) يتكون بدوره من قسمين رئيسين: محكم ومتشابه.
والهدف من كل نوع هو تحقيق أهداف محددة من أهداف تنزيل الكتاب ككل. وأهداف تنزيل الكتاب هي:
أولاً التعريف بوجود إله واحد أحد تجب عبادته وحده (كتاب أخبار العقيدة)
ثانياً: امتحان الخلائق لتمييز المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق الكاذب لقوله تعالى(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) 2-3 العنكبوت (كتاب الأحكام)
ثالثاً: اصلاح الفساد الذي كان سائداً في الجاهليه ورفع الظلم عن الضعفاء وتحقيق العدل والمساواة بين خلقه (كتاب الأحكام).
مرحلة كتاب الأخبار
مرحلة تنزيل الأخبار هي مرحلة تنزيل أحسن الحديث. والحديث هو الكلام الذي لم يكن فيه أحكاماً. والهدف منها هو تحقيق الهدف الأول من تنزيل الرسالة أي تعليم الناس علوم وحدانية الله. وقد أنزلت الأخبار أي علوم الوحدانية كتاباً متشابهاً مثاني بمعنى أن كل سوره متشابهة في المعنى لأنها تتحدث عن موضوع واحد هو وحدانية الله ولكنها مختلفة في الألفاظ حتى لا يسبب تكرار الألفاظ الملل والرتابه مما أظهر معجزة القرآن. وقد تكررت الآيات لتوضح كل مجموعة منها معلومات مختلفة عن العقيدة كمعلومات الذكر والحمد واليوم الآخر وأسماء الله المختلفة وهكذا.
مرحلة كتاب الأحكام
وآيات كتاب الأحكام تتكون أيضاً من قسمين رئيسين : آيات الأحكام المحكمة وآيات الأحكام المتشابهة. فالأحكام المحكمة هي الأوامر والنواهي والحلال البيَّن الذي يكون بصريح العباره (أحلَّ لكم) والحرام البيَّن الذي يكون بصريح العباره (حرِّم عليكم أو لا يحلُّ لكم) بالإضافة إلى الآيات المنسأ حكمهن والآيات المنسية. والمحكمات هذه كلها واضحة الأحكام وقد أنزلت في مرحلة الأحكام الأولى لأنها أحكام يستطيع كل مؤمن أن يعمل بها. وقد كان الهدف من وراء هذه الأنواع من الأحكام هو فتنة الذين أعلنوا إيمانهم لتصفية المؤمنين حقاً الذين أطاعوا الله ورسوله كما أنهم قاتلوا مع رسولهم في سبيل الله
أما القسم الثاني أو المرحلة الثانية فهي آيات الأحكام المتشابهات التي أنزلت في الأقدار خيرها لتمتحن المؤمنين في مدى إيمانهم بأن الأقدار خيرها من الله ومعرفة مدى قبول كل منهم لقسمته من زينة الحياة الدنيا التي قدرها الله له ومن الذي سيتبع إبليس ويطلب غيرها أو زيادتها أو الطغيان فيها والعمل على تغييرها كما حدث لأبوينا آدم وحواء.
إن المشكلة التي لم يفطن لها الباحثون هي: إن إيماناً بأن الأقدار شرها من الله. فاجتازوا بذلك فتنة الإيمان بالأقدار شرها وتصفية المنافقين الذين صدق إبليس عليهم ظنه وأضافهم إلى نصيبه المفروضه برفضهم القتال في سبيل الله. كل مرحلة من مرحلتي تنزيل الرساله يوجد فيها المحكم والمتشابه. فكان هنالك نوعان من المحكمات (محكمات الأخبار ومحكمات الأحكام) ونوعان من المتشابهات(متشابهات الأخبار (الآية 23 الزمر) ومتشابهات الأحكام (الآية 7 آل عمران). والفرق بينهما هو:
محكمات الأخبار محكمات الأحكام -واضحات الحكم - غير واضحات المعنى
-لا ناسخات ولا منسوخات - ناسخات
متشابهات الأخبار متشابهات الأحكام -تشابه الكلام وتماثله - تشابه الحلال والحرام
-أنزلن بعد المحكمات - أنزلن قبل المحكمات
-واضحات المعنى - غير واضحات الحكم
-يؤمن بهن ويعمل بهن - يؤمن بهن ولايعمل بهن
-غير منسوخات - منسوخات
- تنجذب إليهن قلوب المؤمنين- -تنجذب إليهن قلوب المنافقين
عليه يتضح أن تعريف محكمات الأخبار ومتشابهات الأحكام واحد لا اختلاف فيه مما جعل بعض العلماء يصنفون الحروف المقطعة من متشابهات الأحكام وردوا علمها إلى الله لقوله تعالى في الآية 7 آل عمران(ولا يعلم تأويله إلا الله) وفي حقيقة الأمر هي من محكمات العقيدة اللاتي يوجد تفصيلهن داخل الكتاب والله أعلم.
ما هي أهداف تنزيل الآيات المحكمات والآيات المتشابهات
أولاً كتاب العقيدة
لقد أنزلت آيات الأخبار أولاً آيات قصار محكمات كقوله "إن إلى ربك الرجعى" أي مجملات غير واضحات الدلاله وكالحروف المقطعة في بداية السور وكأخبار الساعة. والهدف هو جذب انتباه الناس في بداية الإسلام لوحدانية الله وعبادته. أما الهدف من متشابهات الأخبار فهو: تفصيل محكمات الأخبار. حيث ينزل تفصيل المحكم تدريجياً في آيات تطول شيئاً فشيئاً إلى أن تظهر معانيه في سور طوال كسورة هود.
ثانياً: كتاب الأحكام
الهدف من تنزيل الآيات المحكمات في كتاب الأحكام هو:
أولاً: تحقيق هدف الرسالة الثاني وهو: تمييز الخبيث (المنافق) من الطيب ( المؤمن الحق الذي أطاع الله ورسوله وعمل بالأحكام)
ثانياً: إصلاح الفساد الذي كان سائداً في الأرض كالأوامر بأن يوفوا الكيل ويقيموا الميزان.
أما الهدف من تنزيل متشابهات الأحكام فهو:
أولاً: النهي عن حب الشهوات تدريجياً لإدمان الناس لها وتعارضها مع عبادة الله
ثانياً: تمييز الطيب الذي يؤمن بالأقدار خيرها فيرضى بقسمة الله له ويشكره عليها من
الخبيث الذي لا يرضى بقسمة الله فيجري وراء المتشابهات التي ليس فيها الحلال البيَّن
والحرام البيَّن بل فيها إباحة فقط ومقيدة بشرط كآيات الربا والخمر
ثالثاً: إصلاح الفساد الذي كان سائداً ورفع الظلم عن الضعفاء كآيات التعددية وأكل مال اليتيم.
الفرق بين "الآيات " المتشابهات المنسوخات وبين "الآيات المنسأ ومتغير حكمها
يمكن توضيح الفرق بوضع اسئلة مشتركة لكل من النوعين من الآيات المتشابهات والمنسأ حكمهن ثم الإجابة عنها وأخيراً توضيح الفرق بينهن. والأسئلة هي: فيما أنزلت الآيات؟ وما الهدف من تنزيلهن؟ ما هي أهم معالمهن؟ ما هو حكم العمل بهن بعد تغيير الحكم ؟ وما الذي يترتب على نزول الآية الأخيرة؟
أولاً :"الآيات المتشابهات المنسوخات
السؤال الأول: فيما أنزلت الآيات المتشابهات؟
لقد أنزلت الآيات المتشابهات المنسوخات في زينة الحياة الدنيا التي أدمنها الناس في الجاهلية . وهي نوعان: نوع لا تحتاج إليه استمرارية الحياة كلياً فتم النهي عنها كلياً كالخمر وأكل الربا. والنوع الآخر هو التي تحتاج الحياة إلى القليل منه من أجل استمراريتها ولهذا قسّم الله لكل فرد أي أعطاه نصيبه منها من قبل أن يخلقه كالزواج والأبناء والمال والحرث والأنعام والخيل المسومة. لهذا أنزلت المتشابهات للنهي عن أخذ المزيد على ما قسمه الله من تلك الزينة.
السؤال الثاني: ما الهدف من تنزيلهن؟
أولاً: معالجة إدمان حب زينة الحياة الدنيا الذي كان أهم سمة من سمات الجاهلية للنهي عنها وذلك للتفرغ لعبادة الله التي خلق الخلائق من أجلها وليس للتمتع بزينة الحياة لقوله تعالى: ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) 7 الكهف
وقد جاء معنى أيهم أحسن عملاً بأيهم أزهد فيها في تفاسير العلماء.
ثانياً: أن تكون إمتحان وتمييز للمؤمن الحق الذي يزهد في الحياة الدنيا ويرضى بما قسمه له الله من تلك الزينة ابتغاءً لمرضاته والفوز بجنته، من المنافق الخبيث الذي يجري وراء حب الزينة جاحداً لأقدار الخير التي قسمها الله له وعدم الاكتفاء بها لقوله تعالى(ن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ) (أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) 15-16 هود
ثالثاً: رفع الظلم عن الضعفاء الذي كان سائداً في الجاهلية نتيجة حب الشهوات وزينة
الحياة الدنيا لقوله تعالى: (يابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) 35 الأعراف وقوله أيضاً(لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ) 56 الأعراف
السؤال الثالث: ما هي أهم معالم المتشابهات المنسوخات ؟
المعلم الأول: نزلت في النهي عن حب التمتع بإحدى الشهوات المذكورة في قوله تعالى:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ ) 14 آل عمران
المعلم الثاني: أنزلن غير واضحات الحكم (أي يشتبه على الناس حكمهن هل هو الحلال أم هو الحرام. وكمثال لذلك الآية:
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) 43 النساء التي هي آية متشابهة وقد نزلت في حب شهوة الخمر(وهي زينة من زينة الحياة الدنيا)
المعلم الثالث: الحكم فيهن إباحة بصيغة الأمر (افعلوا أو لا تفعلوا) ولكنها إباحة مقيدة بشرط صعب. فتظهر الاباحة وكأن الحكم حلال وهو ليس بالحلال البيَّن (أحل لكم). وتقييد الإباحة بشرط صعب يظهر الحكم وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البيَّن (حرم عليكم) أو (لا يحل لكم) مما يؤدى إلى اشتباه الناس في الحكم. أي تشابه حكم الحلال والحرام فيهن المعلم الرابع: أن الصحابة يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم في حكمهن فيفتيهم الله بتوضيح قبح العمل بحكم الاباحة
المعلم الخامس: نزول آيات الاستفتاء في حكمهن يوضحن أن العمل بحكمهن فيه إثم والاثم هو الانشغال عن ذكر الله وأن الشيطان هو الذي يدفعهم لأخذ تلك الزينة التي هي فتنة وامتحان ليوقع بها العداوة والبغضاء بين الناس فيفقدون لباس تقواهم ويخرجون من الجنة
المعلم السادس: عمل الناس بحكم الاباحة لفترة من الزمن ليشعروا بتعارضها مع عبادة الله وليتهيئوا للنهي عن العمل بها.
المعلم السابع: إذا رد حكمهن للمحكم يظهر تعارضهما أي تعارض حكم الاباحة مع الحكم
الفرض الذي يجب العمل به فتعارض شرب الخمر مع الصلاة الفرض. وكذلك أكل الربا تعارض مع الصدقات الذي هو فرض
المعلم السابع: آخر آية تنزل في نفس الحكم تنسخ حكم آيات الإباحة التي نزلت قبلها جذرياً ونتيجة لوضوح الحكم في الآية الأخيرة تصير آية محكمة ناسخة لحكم المتشابهات في الحكم .
السؤال الرابع: ما هو حكم العمل بالمتشابهات بعد نسخهن بالآية الأخيرة؟
إن حكم العمل بالمتشابهات بعد النسخ هو الحرام ويصنف من يعمل بهن من الذين في قلوبهم زيغ وضلال وهم المنافقون الذين يتبعون حكم المتشابهات بعد نسخه ابتغاء
الفتنة(وهي احدى الشهوات وزينة الحياة التي جعلها الله امتحان ليميز بها الخبيث من الطيب). وهم يبتغون الفتنة ابتغاءً لما يزينه لهم الشيطان من حسن تأويل العمل بالمتشابه(أي ما سيؤول إليه حالهم) وما يؤوله لهم الشيطان هو تأويل باطل وكذب لأن التأويل الحقيقي وهو ما سيؤول إليه الحال بعد أخذ الزينة المنهي عنها (العمل بالمتشابهات فيها)لا يعلمه إلا الله لأنه أمر غيبي. وهذا المعنى هو معنى قوله تعالى
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ) 7 آل عمران
ثانياً: الآيات المنسأ حكمهن
يتم توضيح الآيات المنسسأ حكمهن والفرق بينها وبين المتشابهات بتوجيه نفس أسئلة المتشابهات للمنسأ للإجابة عنها. والأسئلة هي: فيما أنزلت الآيات؟ ما الهدف من تنزيلهن؟ ما هي أهم معالمهن؟ ما هو حكم العمل بهن؟ ما الذي يترتب على نزول الآية الأخيرة؟
السؤال الأول: فيما أنزلت الآيات المنسأ حكمهن؟ وما الهدف من تنزيلهن؟
لقد أنزلت الآيات التي أنسىء (تأخر نزول حكمها المطلوب) في حالتين محددتين:
الحالة الأولى: هي نشر الدعوة وأوضاع الكفار والمنافقين فيها.
الحالة الثانية : أنزلت في بعض أوضاع الحياة الدنيوية التي تقتضي تأجيل الحكم المطلوب فيها. والحكم المطلوب يكون إما خفيفاً أو ثقيلاً. فينزل في بعض الحالات أولاً حكماً خفيفاً بدلاً عن الحكم الثقيل المطلوب لوجود ظروف تتطلب ذلك. ثم ينزل الحكم الثقيل عند الحاجة إليه وزوال السبب الذي من أجله تأجل الحكم. وفي حالات أخرى يستدعي الأمر تنزيل حكم ثقيل بدلاً عن الخفيف المطلوب. وبعد زوال أسباب الحكم الثقيل ينزل الحكم الخفيف المطلوب تطبيقه. وبذلك نجد أن الحكم المطلوب هو الذي ينزل متأخراً فيتغير الحكم فقط من خفيف إلى ثقيل ومن ثقيل إلى خفيف.
السؤال الثاني: ما الهدف من تنزيلهن؟
هنالك هدفان من وراء تنزيل المنسأ أي المتأخر حكمه في حالة الدعوة هما:
أولاً: الصبر على الكفار لإعطائهم الفرصة الكافية للرجوع عن كفرهم ودخولهم في الاسلام. ولهذا كان الحكم عليهم في بداية الأمر خفيفاً وهو العفو والصفح عنهم وعدم قتالهم لما ورد في قوله تعالى: ( ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 109 البقرة.
ثانياً: أن لا يكون المسلمون معتدين وأن لا يكون الدخول في الاسلام بالعنف وسفك الدماء كما يعتقد بعض الناس والدليل على ذلك الآيات التالي( وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ) ( فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ) (ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ( 191-194 البقرة
أما الهدف في حالة أوضاع الخلق فهو: تنظيم مسيرة الحياة الدنيا. وكمثال لذلك آية النقاب وآية الفطام وتقديم الصدقات بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. فمثلاً في حكم النقاب كان الحكم المطلوب هو الحجاب لتغطية زينة المرأة وهو الحكم الخفيف ولكن وجود ظروف طارئة وهي وجود المنافقين في المدينة وأذاهم لنساء المؤمنين عندما يخرجن لقضاء حاجتهن بحجة أنهم كانوا يعتقدون أنهن إيماء أنزل النقاب ليكون علامة لهن فينقطع الطريق على المنافقين والآية هي
أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) 59 الأحزاب. فلم يكن النقاب لتغطية الفتنة. فتأخر نزول الحجاب الذي له صلة باخفاء الزينة إلى أن زالت ظروف حكم النقاب. وآية الحجاب هي: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) 31 النور
ما هي أهم معالم الآيات المنسأ حكمهن؟
المعلم الأول: آيات المنسأ محكمات واضحات الحكم لا لبس في فهمهن
المعلم الثاني: العمل بحكمهن ليس فيه متعة وإنما فيه مشقة ومنفعته دينية لأنه طاعة لله وتقوى له فمثلاً العفو على الكفار والصبر عليهم فيه مشقة. ولباس النقاب فيه مشقة.
المعلم الثالث: لم ينسخ الحكم الأول جذرياً بل حدث فيه تغير من خفيف إلى ثقيل أو من ثقيل إلى خفيف .
ما هو حكم العمل بهن بعد تغيير حكمهن؟ حكم العمل بهن جائز في حالة وجود الظروف التي أنزل فيها الحكم الأول.
ما الذي يترتب على نزول الآية الأخيرة التي تغير فيها الحكم؟
لا يترتب إثم أو وقوع في الحرام على من يعمل بالحكم الأول إذا تناسب مع ظروفه والسبب في ذلك هو أن الآيات محكمات وليست بمتشابهات
ثالثاً: الفرق بين المتشابهات والمنسأ حكمهن
1- المتشابهات هن الذي يشتبه الحكم فيهن والمنسأ حكمهن جاء حكمهن واضح الدلالة لا لبس فيه على أحد.
2- المتشابهات أنزلن للنهي عن حب الشهوات تدريجياً والمنسأ حكمهن أنزلن لتنظيم بعض الأمورفي ظروف محددة.
3- المتشابهات منسوخ حكمها جذرياً ومن يعمل بحكمهن بعد نسخه يقع في الحرام. أما المنسأ حكمهن فلا يوقع العمل بهن في الحرام لأن حكمهن لم ينسخ جذرياً وإنما تغيرت درجة ثقله أو خفته فقط. فمن تلبس النقاب لوجود الظروف الملائمة له فلا إثم عليها ومن أرضعت طفلها حولين كاملين مع وجود التخفيف بقوله تعالى(لمن أراد أن يتم الرضاعة) فلا إثم عليها. ولكن إن لم تنزل آية الحجاب لكان لزاماً على كل إمرأة لبس النقاب. وإن لم تنزل آية الفطام الثانية لكان واجباً على كل أم إرضاع طفلها حولين كاملين